مجله البيان (صفحة 3503)

متابعات

مع رحيل العام رحل الإمام

عبد الله بن سليمان القفاري [*]

لقد استقبل المسلمون في شهر الله المحرم أوائل العام الفائت رحيل عالم الأمة

وإمام هذا العصر الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى واليوم ومع رحيل هذا

العام يودع المسلمون عالِمَ القصيم وأحد أئمة العقيدة السلفية الشيخ العالم المجاهد

محمد بن صالح المنصور، وكان بين رحيل الشيخين الجليلين رحيل كوكبة من

علماء الإسلام ودعاته في عام أشبه ما يكون بعام الحزن من هنا وهناك..

بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا ... بالرقمتين وبالفسطاط جيراني

وحيثما ذكر اسم الله في بلد ... عددت أرجاءه من لب أوطاني

إن رحيل العلماء ثلمة في مسيرة الأمة.. فهم عمادها المتين وسياجها المنيع

أمام تيار الفتن وحوادث الزمن وبموتهم يموت خلق كثير.

لعمرك ما الرزية فَقْدُ مال ... ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد فذٍّ ... يموت بموته خلق كثير

نسبه ونشأته:

هو الشيخ: محمد بن صالح بن منصور المنصور و (المنسلح) لقب لجده

صالح الذي انسلح أي انخزل من الشمال في ظروف اختُلِفَ في سببها، وهو من

الطوالة من قبيلة شمر القبيلة العربية المعروفة.

من مواليد بريدة عام 1350هـ وقد كف بصره بسبب مرض الجدري وهو

في السنة السادسة من عمره ولم يكن ذلك عائقاً له عن طلب العلم فقد طلب العلم

مبكراً، وحفظ القرآن الكريم ولم يكن تجاوز الثانية عشرة من عمره على يد الشيخ

محمد بن صالح الوهيبي.

صفاته:

كان رحمه الله تعالى يتسم بصفات عديدة من أبرزها:

1 - حب العلم والعلماء والجد والاجتهاد في تحصيل ذلك مع ما يعانيه من

كف البصر؛ فقد أعطاه الله البصيرة الثاقبة والذاكرة الحافظة حتى وهو في مرضه

الأخير؛ ولهذا حفظ كثيراً من المتون ومن ذلك: زاد المستقنع، والطحاوية، وألفية

ابن مالك، والآجرومية في النحو، والبيقونية في المصطلح، وألفية العراقي وبلوغ

المرام وعمدة الأحكام والرحبية في الفرائض، وغيرها. وكان يحفظ عدداً من

الوقائع والمناسبات التاريخية بالسنة والشهر واليوم في أحيان كثيرة.. ولهذا يقول

عنه الشيخ محمد السعوي: إنه كثيراً ما يحفظ ولا ينسى على كثرة المترددين عليه

من سؤالهم عن أقاربهم وأنسابهم.. وإنزالهم منازلهم مع عظيم تواضعه وجميل

محياه في لقاء الآخرين سواء منهم الصغير أو الكبير على حد سواء.

2 - زهده وبعده عن الدنيا فلم يكن يحزن عليها كما أنه كان صابراً على

البلاء فلا تجده إلا شاكراً لا شاكياً كما يقول الشيخ صالح الونيان، ويقول عنه

الشيخ صالح الخضيري إنه كثيراً ما يحمد الله على ما هو فيه من البلاء والمرض

ويقول: (إذا عُمِّرَ الإنسان أكثر من سبعين فقد أكل عمره) ويقصد بذلك أنه أخذ

نصيباً وافراً من عمره وحياته. ويقول أحد تلاميذه: إي والله! لقد كان الشيخ

مشتاقاً إلى لقاء ربه، عازفاً عن الدنيا، مستبطئاً للموت، وكان يقول كل ليلة في

مرضه: اللهم إني قد اشتقت إليك. ولقد دعوت له مرة بطول العمر، فقال: وما

أصنع بطول العمر؟ ولكن عسى الله أن يقبضني على الإسلام! وفي مثل شيخنا

أبي صالح يجمل قول الشاعر:

وكيف تبكي فائزاً عند ربه ... له في جنان الخلد عيشٌ مخرفج [1]

وقد نال في الدنيا سناءاً وصيتة ... وقام مقاماً لم يقمه مزلج [2]

3 - الجرأة في قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الخاصة

والعامة لا يخاف في الله لومة لائم؛ فقد كان يقول ويكتب ما يراه حقاً في كثير من

الأمور التي يحتاجها المسلمون والنوازل التي تنزل بهم والقضايا التي تهمهم، وكان

محتسباً ذلك عند الله عز وجل لا يرجو من أحد جزاءاً ولا شكوراً وهي من أبرز ما

اتصف به الشيخ رحمه الله وبز به أقرانه.

4 - العبادة الجمة، والعمل الصالح المبرور من القيام والصيام والذكر

والتلاوة مع حرصه الشديد على إخفائها متحرياً بذلك حسن الإخلاص وجميل

المتابعة، وكان ذلك ديمة اقتداءاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب العمل

إلى الله أدومه وإن قل» [3] ولهذا لم ينقطع عنه أبداً حتى في أيامه الأخيرة؛

وصراعُه مع المرض لم يمنعه ذلك، مما كان له حسن الختام ورفع المنزلة في

قلوب الناس من آلاف المشيعين له والباكين على فراقه.

5 - حبه للأعمال الخيرية والعلمية على اختلافها وتنوعها وتشجيعه لمن يقوم

بها وزيارته والاتصال به ودعمه مادياً ومعنوياً سواء كان على المستوى المحلي أو

العالم الإسلامي.

سفره لطلب العلم وصبره عليه:

عند بلوغه السنة السادسة عشرة من عمره وهي مرحلة الحيوية والنشاط

والمرح ومع ذلك فإنه كان شغوفاً بالعلم مشتاقاً إلى العلماء مما دفعه للسفر إلى

الرياض؛ وكانت تلك الرحلة علامة بارزة في حياته تدل على الصبر والجد

والاجتهاد؛ وذلك حينما طلب من أحد سائقي السيارات وهم ما يسمون باللهجة

العامية: (الحمالية) أن ينقله إلى الرياض، فطلب منه السائق أجرة الطريق فلم

يكن الشيخ يملك شيئاً لصغر سنه وكف بصره مما جعله يلح على هذا السائق ولكن

لا جدوى.. ففكر قليلاً ثم جلس وتلمس بيده إطار (كفر) السيارة وهي ما تسمى

بـ (الوانيت) وجلس بجوار الإطار وعندما شعر بتحرك السيارة ومن فيها صعد

وجلس متعلقاً على حديدة (سستة) قريبة من إطار السيارة ولم يعلم به أحد واتجهت

السيارة في طريقها إلى الرياض ولم يكن الطريق سهلاً؛ فقد كان وعراً ترابياً مما

عرَّض السيارة إلى الوقوف في أدغال الرمال في مكان يسمى بـ (نفود الربيعية)

قريباً من قرية الربيعية شرق بريدة، وعند نزول الركاب وقائد السيارة فوجئوا

بوجود الغلام وقد أرهقه التعب وأضناه النصب، وكاد يسقط بسبب آلام الكتف

واليدين فتأثر الركاب بهذا المشهد وظهر عليهم علامات الحزن والأسى مما جعل

أحدهم يتكفل بهذا الغلام ويدفع عنه تكاليف النقل.

وعند وصولهم إلى الرياض أوصلوه إلى منزل الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي

عام المملكة وجلس يطلب العلم في حلقات الشيخ وسكن بما يسمى بـ (الرباط)

وهو مكان سكن طلاب العلم آنذاك. وقد واصل طلب العلم على الشيخ لمدة 7

سنوات بالإضافة إلى مجموعة من علماء الرياض من أبرزهم: الشيخ عبد اللطيف

ابن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد العزيز بن ناصر

ابن رشيد، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم، كما طلب العلم على يد الشيخ عبد الله بن

حميد، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ محمد

ابن صالح المطوع، والشيخ عبد الله الخليفي، حيث حفظ عليه كثيراً من المتون،

ثم أكمل دراسته الجامعية وتخرج في كلية الشريعة بالرياض رحمهم الله جميعاً

رحمة واسعة.

وكان كثيراً ما يذكر شيخه محمد بن إبراهيم؛ كما أنه تأثر كثيراً عند وفاة

شيخه عبد العزيز بن باز وكان ذلك واضحاً على صحته.

أبرز طلابه:

كان للشيخ دور كبير في إبراز نخبة من العلماء الذين تتلمذوا عليه وهم الآن

يتقلدون مناصب علمية بارزة منهم:

معالي الشيخ: عبد الله بن عثمان البشر، والشيخ العالم المحدث: عبد الله بن

محمد الدويش رحمه الله تعالى فقد لازمه 6 سنوات، وفضيلة الشيخ الدكتور صالح

الفوزان عضو هيئة كبار العلماء حيث حفظ عليه الزاد كاملاً، والشيخ سليمان

العمرو رئيس محاكم مكة المكرمة، والشيخ الدكتور صالح المحيميد رئيس محاكم

المدينة المنورة، والشيخ يحيى اليحيى، والشيخ دبيان الدبيان، والشيخ علي

الخضير، ومجموعة كبيرة من أعضاء هيئة التدريس بجامعة الإمام بالقصيم ومنهم

فضيلة الشيخ سليمان العودة، والشيخ عبد العزيز العقل، والشيخ الدكتور صالح

الونيان، والشيخ الدكتور سليمان العبيد، والشيخ الدكتور عبد العزيز البجادي

والشيخ الدكتور محمد المنصور الفايز، والشيخ تركي الغميز، والشيخان: يوسف

وعبد الرحمن العقل، وكذلك الشيخ الدكتور محمد الفوزان رئيس قسم الدراسات

القرآنية بكلية المعلمين بالرياض، والشيخ محمد المحيسني، والشيخ عبد الله الجبر، والشيخ علي المنسلح، والشيخ صالح الخضيري، ومجموعة من القضاة منهم:

الشيخ إبراهيم الحسني قاضي محكمة المجمعة، والشيخ صالح الصقعبي، والشيخ

عبد الرحمن الصعب رئيس محاكم محايل عسير، والشيخ خالد القفاري والشيخ

يوسف العبيد، والشيخ عبد الرحمن المرشود، والشيخ عبد العزيز المشيقح،

والشيخ محمد المشوح، والشيخ فيصل الحازمي، وغيرهم كثير.

أعماله:

في عام 1378 هـ تولى منصب القضاء في (تربة) بعد التخرج في كلية

الشريعة، ثم انتقل إلى السليل، ثم إلى الباحة ومنها انتقل إلى تبوك، ثم إلى مكة

المكرمة. وفي عام 1389 هـ طلب الإعفاء من فضيلة المفتي الشيخ محمد بن

إبراهيم لعدم رغبته في القضاء وعمل مديراً لمعهد النور في بريدة، ثم تفرغ للعمل

مرشداً وموجهاً للمكتبة العلمية في بريدة والتدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

الإسلامية بالقصيم في قسم العقيدة ثم تقاعد في عام 1410هـ.

بعد ذلك تفرغ للتدريس في مسجده في جنوب بريدة، ثم انتقل إلى مسجده

بحي السلام شرق بريدة، علماً أنه بدأ التدريس عام 1379 هـ أي منذ ما يقرب

من 40 عاماً حين كان في الرباط وأثناء الدراسة بالكلية يومياً ما عدا يوم الجمعة،

ولم ينقطع عن التدريس إلا قبل وفاته بشهرين تقريباً عندما اشتد به المرض.

إنجازاته العلمية:

تفرغ للتعليم والتدريس في مسجده وكان من دروسه: بعد صلاة الفجر شرح

كتاب العقيدة الطحاوية، وكتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، والواسطية

في العقيدة لابن تيمية، والأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة، وكشف

الشبهات، وبلوغ المرام في الحديث لابن حجر، وعمدة الأحكام لعبد الغني المقدسي

وزاد المستقنع لموسى الحجاوي في الفقه الحنبلي والرحبية في الفرائض، والبيقونية

في مصطلح الحديث، وألفية ابن مالك في النحو حتى الساعة السابعة والنصف

تقريباً.

ثم بعد صلاة العصر يجلس في مجلسه للرد على المكالمات واستقبال الزوار

والرد على استفتاءاتهم وتساؤلاتهم، وبعد صلاة المغرب يقوم بشرح كتاب زاد

المعاد وكتاب متن الآجرومية، وفي وقت العشاء يعمد إلى شرح موطأ الإمام مالك،

وتفسير ابن كثير. وبعد الانتهاء من تفسير ابن كثير يبدأ بتفسير السعدي. هذا

بالإضافة إلى الكتب التي كانت تُقرأ عليه بعد نهاية شرحه لهذه الدروس وهي كثيرة

ومتنوعة، ومنها: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد.

مؤلفاته:

كان له مجموعة من المؤلفات منها: شرح الزاد، وشرح العقيدة الطحاوية،

وكتاب الرد على (علي السقاف) كما قام بكتابة ومراجعة وتقريظ لكتاب الشيخ

حمود العقلاء في حكم دخول الكفار للجزيرة العربية، وقد طبع منها كتاب الرد على

السقاف، وكذلك كتب بعض الفتاوى والرسائل في مناسبات عديدة من آخرها الرد

على الكاتب تركي الحمد.

عبادته:

كان الشيخ رحمه الله تعالى ممن يتميز في هذا الجانب بكثرة عبادته وطول

قيامه، فقد كان كما تقول إحدى زوجاته: إنه لم يمض يوم واحد منذ تزوجت الشيخ

فاته فيه قيام الليل، وكان يقوم رحمه الله من الساعة الحادية عشرة والنصف أو

الثانية عشرة ليلاً حتى الفجر، أي ما يقارب 5 إلى 6 ساعات تقريباً، ثم يضطجع

حتى أذان الفجر. وقد أكد ذلك الشيخ محمد السعوي عندما كان معه في أحد أسفاره

للدعوة إلى الله عز وجل فقد كان يقوم من منتصف الليل.. وكان يصوم يوم الإثنين

والخميس وثلاثة أيام من كل شهر، ويحافظ على ركعتي الضحى ويطيل القراءة

فيهما والسجود، ويختم القرآن حفظاً كل ثلاثة أيام حتى أيام مرضه الأخير كما

يقول ابنه عبد الله الذي رافقه في المستشفى.

وكان يحضر مبكراً إلى صلاة الجمعة، وكان كثيراً ما يختم القرآن، ومما

يذكر ابنه عبد الله: أنه سمع أباه يقرأ في قيام الليل في أحد أيام مرضه الأخيرة

سورة البقرة، وفي الليلة التي تلتها سورة يس وعندما سأله ابنه عن هذا الموقف

تأثر الشيخ وتغير لون وجهه ونهاه عن متابعته، ولقد كان الشيخ على هذه الحال من

العبادة حتى في صغر سنه؛ فقد ذكر ابنه عبد الله نقلاً عن الشيخ صالح الأطرم أنه

عندما كان والده في بداية طلب العلم في الرياض كان يكثر قيام الليل حتى إنه كما

يقول الشيخ صالح يشغلنا عن النوم، وكثيراً ما يحثنا على القيام ويكرر ذلك حتى لا

نجد فرصة للنوم.

مع الأسرة:

للشيخ رحمه الله ثلاث زوجات وله منهن: خمسة عشر من الذكور وثماني

عشرة من الإناث جعلهم الله خير خلف لخير سلف وكان يتعامل كما يقول أبناؤه

معهم باللين والرفق والتوجيه والتهذيب وأحياناً الترغيب والترهيب إذا اقتضى الأمر

ذلك، كما أنه كان يجلس مع أولاده من الساعة العاشرة والنصف صباحاً تقريباً حتى

الظهر بعد أن يصلي صلاة الضحى ويقوم أحد أبنائه أو بناته بالقراءة عليه حتى

أذان الظهر.

اهتمامه بالمسلمين:

كان يهتم بأمر المسلمين اهتماماً كبيراً، ويكتب الرسائل والفتاوى في ذلك

للعامة والخاصة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ وهذا الجانب مما برز

فيه الشيخ رحمه الله تعالى، وقد سافر للدعوة إلى الله عز وجل وحضور الندوات

والمؤتمرات ومن ذلك كان سفره إلى أمريكا والكويت والسودان، وكان مما أشغل

باله كثيراً في السنوات الأخيرة قضية الشيشان حتى وهو في مرضه الأخير وقد

أغمي عليه يقوم من الليل وهو يقول لابنه عبد الله: اكتب عن الشيشان! اكتب

للمسلمين والحكام بمناصرتهم ومؤازرتهم، وكثيراً ما يكرر ذلك ويلح إلحاحاً شديداً

حتى نخشى على صحته حتى كانت وصيته التي ختم بها حياته محملاً الأمانة إلى

من يهمه الأمر كل حسب مكانته واستطاعته.

وكان يقوم على آلاف الأسر المحتاجة في الداخل والخارج ويكفلهم ويرعاهم

وهو بعيد عن أعينهم، وكذلك فقد أنشأ في السودان سبعة مساجد وملجأ للأيتام يضم

ألف يتيم، ومسجدين في الفلبين على نفقته الخاصة. كما يقول عنه الشيخ صالح

الونيان: إنه كان يسأله عند كل لقاء عن أخبار المسلمين في الشيشان ويحث على

الدعاء لهم رغم ما هو فيه من المرض العضال بالإضافة إلى سؤاله عن أخبار

الدعوة والدعاة، وكان يوصي بتلمس حاجات الفقراء. ومن ذلك ما يروي الشيخ

صالح الخضيري أنه زار الشيخ في أول عام 1420هـ ومعه رجل ممن يقوم على

بعض الأعمال الخيرية خارج المنطقة فلما سلَّم على الشيخ وأخبرته بمكانة هذا

الرجل فسألني إن كان يحتاج إلى مساعدة فقلت: إنه لا يستغني عن إعانتكم،

فأدخل الشيخ يده في جيبه بخفية وأخرج مبلغاً يزيد على الألف ريال فوضعه في يد

الرجل بحركة سريعة وخفية حتى لا نراها.

اللحظات الأخيرة:

كان الشيخ يعاني من المرض منذ أمد بعيد في صراعه مع مرض السكري،

واشتد المرض عليه منذ سنتين وهو صابر ومحتسب، ثم بعد ذلك أصيب بغرغرينة

في أطراف قدمه وأُدخِل المستشفى عدة مرات والأطباء يحثونه على بتر قدمه وهو

يقول: (أموت مكتمل الأعضاء، وكل له أجله عشت من الحياة ما يكفيني) إلى

أن اشتد به الأمر عندما أصيب بجلطة بالجهة اليمنى في رأسه مما تسبب بشلل

للجزء الأيسر من جسمه وذلك في 2/12/1420هـ وقد قال لابنه عبد الله:

«الأمر نازل بي» يعني الموت. ولم يكن ينام أبداً منذ ذلك التاريخ وكثيراً ما يقول:

اللهم إني اشتقت إلى لقائك، ويكررها كثيراً ويذكر حديث: «من أحب لقاء الله

أحب الله لقاءه» [4] .

كذلك كان كثيراً ما يذكر أحوال المسلمين وخاصة الشيشان مع أنه يغمى عليه

وكان حريصاً جداً على وقت الصلاة، فإذا دخل الوقت أو قرب دخوله أفاق من

إغمائه وقال: هل دخل الوقت؟ فيُخبر بذلك، فيجلسونه، ثم يتيمم ويبدأ بالصلاة

وكأنه نَشِطَ من عقال.

وفي يوم الخميس الموافق 24/12/1420هـ نقل الشيخ إلى مستشفى

التخصصي بالرياض وقد وصل إليه عند الساعة الثالثة ظهراً وكان يقرأ القرآن

طيلة الطريق، وأثناء مكوثه في المستشفى لم ينم تلك الثلاثة الأيام هو وابنه عبد

الملك الذي كان يرافقه، وكان يقول لابنه: اجمع الصلاة؛ فأنت في سفر. وفي

يوم السبت الموافق 26/12/1420هـ كان وقت الرحيل إلى الرفيق الأعلى حيث

كان الشيخ منذ فجر ذلك اليوم وهو يقرأ القرآن ويصلي ما شاء الله أن يصلي حتى

قبيل المغرب؛ حيث جاء العشاء؛ فكان ابنه يعرض عليه العشاء وكأساً من الحليب

وكان يقول له: سوف أكمل القرآن. وعندما أذَّن المؤذن لصلاة المغرب دخل

الشيخ في صلاته وأكمل قراءة القرآن، ثم بعد أن انتهى منها استمر في قراءته

وإلحاحه على ربه حتى سقط رأسه، وقُبِضَتْ روحه إلى بارئها وابنه بجواره ممسك

بعشائه كأن الشيخ ينتظر له موعداً بفارغ الصبرِ؛ وحنينُ الشوق شغله عن طعامه

وشرابه (اللهم إني اشتقت إلى لقائك) وكان آخر ما نطق به لفظ الجلالة رحمه الله

رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

وصيته:

كانت وصيته رحمه الله تعالى كغيره من العلماء الحث على التوحيد والإيمان؛

كما حث أولاده على الصلاح والثبات على الحق وعدم البكاء عليه.. . وكان مما

أوصى به أن يغسله الشيخ الدكتور صالح الونيان ويؤم المسلمين للصلاة عليه،

وكذلك أوقف عمارة كاملة في مدينة بريدة لرعاية المساجد والمراكز التي أنشأها في

الخارج.

وفي مشهد مهيب حضر آلاف المصلين من أقطار المملكة إلى جامع الشيخ

صالح الونيان في بريدة، وامتلأ بهم المصلى والساحات المحيطة بالمسجد في مشهد

مهيب قَلَّ نظيره تأثر منه الكثيرون، وسالت منه الدموع واختلطت بماء السحاب

وزخات المطر، وسارت هذه الحشود بعد الصلاة على الشيخ مشياً على الأقدام

متقاربين في صفوف ممتدة حتى المقبرة وقد علت جنازته على الأكتاف والأعناق

يتدافعون إليها حرصاً على القرب من جنازته مذكرة بجنازتي الشيخ عبد العزيز بن

باز والشيخ صالح الخريصي رحمهم الله تعالى جميعاً حتى وصلوا المقبرة مشياً على

الأقدام وقد صلى عليه المئات أكثر من مرة وهو في طريقه إلى قبره. هذا المشهد

العظيم الذي لم تشهد المنطقة مثيله ذكَّرنا بمقولة الإمام أحمد رحمه الله تعالى:

(موعدهم يوم الجنائز) . ولم ينفضَّ الجمع الغفير إلا مع صلاة المغرب، فكانت

اللحظات الأخيرة التي يواري المسلمون فيها جثمان هذا العالم الجليل، وحينها خطر

ببال الكثيرين ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى

الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن

يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبِقِ عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا

فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» رواه البخاري.

رحم الله الشيخ وتغمده برحمته، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين

والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، والله نسأل أن يخلف خيراً على الأمة الإسلامية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015