متابعات
الشيخ سيد سابق
ودمعة وفاء لرحيل العلماء
نشأت أحمد
في عام واحد فقد العالم الإسلامي كوكبة من خيرة علمائه ممن اشتهر عنهم
طول الباع في العلم والعمل ولزوم السنة حتى كان كل واحد منهم أمة وحده.
وإذا كان موت العالم موتاً للعالَم فإن مصيبتنا في هؤلاء الرهط تجلُّ وتعظم،
ولئن كان مصاب الأمة فادحاً في جراحها في كشمير وفلسطين وكوسوفا
والشيشان و.. .. فإن مصابها في علمائها أفدح؛ وكيف لا، وقد كانوا
سمعها وبصرها؟!
وقد كان آخرهم موتاً الفقيه المجاهد الذي كان له من اسمه حظ ونصيب؛
الشيخ سيد سابق رحمه الله إذ توفي في القاهرة على إثر وعكة اشتدت به، لزم فيها
المستشفى أسبوعين افتقده خلالهما محبوه وتلاميذه على أمل أن يعود، ثم احتسبوه
عند ربهم في جنازة شاهدة مشهودة رأينا فيها أثر عمر عامر بالعلم والجهاد.
ولد رحمه الله تعالى في يناير (كانون الثاني) عام 1915م بقرية «إسطنها» من مركز (الباجور) بمحافظة المنوفية، وأتم حفظ القرآن ولم يتجاوز تسع
سنوات، التحق على إثره بالأزهر في القاهرة، وظل يتلقى العلم ويترقى حتى
حصل على العالمية في الشريعة عام 1947م، ثم حصل بعدها على الإجازة من
الأزهر وهي درجة علمية أعلى [1] .
عمل بالتدريس بعد تخرجه في المعاهد الأزهرية، ثم بالوعظ في الأزهر، ثم
انتقل إلى وزارة الأوقاف في نهاية الخمسينيات متقلداً إدارة المساجد، ثم الثقافة..
فالدعوة فالتدريب إلى أن ضُيِّق عليه فانتقل إلى مكة المكرمة للعمل أستاذاً بجامعة
الملك عبد العزيز، ثم جامعة أم القرى وأسند إليه فيها رئاسة قسم القضاء بكلية
الشريعة، ثم رئاسة قسم الدراسات العليا، ثم عمل أستاذاً غير متفرغ.
وقد حاضر خلال هذه الفترة ودرَّس الفقه وأصوله، وأشرف على أكثر من
مئة رسالة علمية، وتخرج على يديه كوكبة من الأساتذة والعلماء، وفي الأعوام
الثلاثة الأخيرة عاد إلى القاهرة واستقر بها حتى وافاه الأجل.
شاب على الجادة:
تربى الشيخ في مقتبل حياته في الجمعية الشرعية على يد مؤسسها الشيخ
السبكي رحمه الله، وتزامل مع خليفته الشيخ عبد اللطيف مشتهري رحمه الله،
فتشرَّب محبة السنة. وكان لهمَّته العالية وذكائه وصفاء سريرته أثر في نضجه
المبكر وتفوقه على أقرانه، حتى برع في دراسة الفقه واستيعاب مسائله وما أن
لمس فيه شيخه تفوقاً حتى كلفه بإعداد دروس مبسطة في الفقه وتدريسها لأقرانه ولم
يكن قد تجاوز بعدُ 19 عاماً من عمره.
وكان لشيخه أثر عظيم على شخصيته وطريقة تفكيره، ومن ذلك ما يحكيه
في بداية حرب فلسطين فيقول: وقد كنا في ريعان شبابنا أخذني الحماس أمام الشيخ
السبكي في أحد دروسه فقلت له: ما زلتَ تحدثنا عن الأخلاق والآداب! أين الجهاد، والحث عليه؟! قال: فأمرني الشيخ بالجلوس! فرددت: حتى متى نجلس؟ قال: يا بني إذا كنت لا تصبر على التأدب أمام العالِم فكيف تصبر على الجهاد في
سبيل الله؟ قال: فهزتني الكلمة جداً وظل أثرها في حياتي حتى يومنا هذا.
ثم تعرف الشيخ سيد سابق على الشيخ حسن البنا رحمه الله واشترك في دعوته،
وعاونه بعد ذلك في تعليم الإخوان وتربيتهم داخل الشُّعَب، واستمر على طريقته في
إعداد دروس الفقه وتدريسها، وصادف أن سمعها منه الشيخ البنا ذات مرة
فاستحسن أسلوبه وطلب منه أن يعدها للنشر. يقول الشيخ: فشرعت في جمع
المادة من قصاصاتي، وبدأت نشر كتاب «فقه السنة» .
مؤلفاته:
أشهر كتبه وأحبها إليه الذي اقترن اسمه به هو «فقه السنة» قدَّم فيه أسلوباً
رائداً في تبسيط مسائل الفقه بعد أن ظل عالقاً بالأذهان على درجة من الصعوبة
بحيث لا يفهمها إلا القليل، لكنه مع تبسيطه لها لم يُخِلَّ بها حين كان يتعرض
لاختلاف العلماء وترجيح ما يشهد له النص وإن خالف رأي الجمهور خلافاً لعادة
مدارس التقليد في ذلك الوقت إلى جانب حسن عرض وترتيب للأفكار دفعت ملايين
الناس لاقتناء الكتاب والاستفادة منه، وقد اغتنى من طباعة كتابه كثير من الناشرين
لم يستأذنوه في النشر ولم يثرِّب عليهم، فضلاً عن ترجمته إلى كثير من لغات
العالم [*] ، ومما يروى في ذلك: أنه أُوفد رسمياً إلى الاتحاد السوفييتي في الستينيات في أحد المؤتمرات للحديث عن الإسلام، وما أن خرج من المطار في صحبة المسؤول الرسمي الذي جاء لاستقباله حتى فوجئ بحشد ضخم قد جاء لاستقباله في موسكو! بين مقبِّل ليديه أو رأسه وبين هاتف باسمه، فتعجب الشيخ متسائلاً: كيف عرفتموني؟ فكان الردُّ: من كتابك. وإذا بالجماهير تلوِّح بالكتاب المترجم وتهتف باسمه! يقول: فلم أتمالك نفسي من البكاء؛ إذ لم أكن أتصور أن فضل الله عليَّ سيبلغ بي إلى هذا الحد! ولعله حين ألفه استحضر مقولة الإمام مالك رحمه الله: «ستعلمون أيها أريد بها وجه الله غداً» .
ومن مؤلفاته أيضاً:
- مصادر القوة في الإسلام.
- الربا والبديل؛ وهو رد على ما أفتى به بعض المعاصرين من جواز فوائد
البنوك وشهادات الاستثمار.
- رسالة في الحج وأخرى في الصيام وهما مستلَّتان من فقه السنه بتصرف.
- تقاليد وعادات يجب أن تزول في الأفراح والمناسبات.
- تقاليد وعادات يجب أن تزول في المآتم.
وهذه الأربعة الأخيرة ألفها ضمن نشاطه العلمي في إدارة الثقافة بوزارة
الأوقاف، وتُظهر الأخيرتان أثر الجمعية الشرعية في نشأة الشيخ على حب السنة
ومحاربة البدع، في وقت قلَّ فيه من يميِّز بين السنة والبدعة.
جهاده وسجنه:
كان مع علمه وعبادته وكثرة صومه ذا شوق للجهاد، وما أن لاحت أمامه
الفرصة حتى كان في أول كتيبة في حرب 1948م مفتياً ومعلماً للأحكام، ومربياً
على القيام والدعاء والذكر، وموجهاً إلى حسن التوكل والأخذ بالأسباب، ومحرضاً
على الفداء، ومدرباً على استخدام السلاح وتفكيكه، وبعد مقتل النقراشي اتُّهم الشيخ
بقتله وأطلق عليه: «مفتي الدماء» ممن أرادوا وأد الجهاد يومها. وحوكم الشيخ
بعد أن قضى عامين من الاضطهاد والتعذيب فما لانت له قناة ولا وهنت له عزيمة
بل كان كما عهد عنه مربياً فاضلاً حاثاً على الصبر، مبيناً لسنن الابتلاء
والتمحيص، وبعد أن بُرِّئت ساحته خرج ليواصل جهاد الكلمة، وحين تكررت
الفرصة بعد النكسة عاد أدراجه لساحة القتال في حرب رمضان يوجه الجنود ويرفع
معنويات الجيش.
مكانته وفضله:
يعرف للرجل مكانته وفضله كل من عاشره أو تتلمذ على يديه؛ فقد تخرج
على يديه ألوف العلماء وطلبة العلم من عشرات الأجيال، ومن هؤلاء: الدكتور
يوسف القرضاوي، والدكتور أحمد العسال، والدكتور محمد الراوي، والدكتور
عبد الستار فتح الله، وكثير من علماء مكة وأساتذتها من أمثال الدكتور صالح بن
حميد، والدكتور العلياني.
بل إنه في شبابه كان محل ثقة واستعانة علماء كبار في حينها من أمثال:
الشيخ محمود شلتوت، وأبي زهرة، والغزالي.
يحكي عنه ولده محمد أنه كان يزوره في بيته علماء كبار من الأزهر، وكان
يجلس للتدريس وهم مصغون مستمعون من أمثال: الشيخ عبد الجليل عيسى،
والشيخ منصور رجب، والشيخ الباقوري، كما كان قوله فصلاً بين المختلفين في
المسائل.
أخلاقه ومآثره:
كان رحمه الله فقيهاً مجرَّباً محنَّكاً مثالاً للعلم الوافر والخلق الرفيع والمودة
والرحمة في تعامله، ويمتاز بذاكرة قوية وذكاء مفرط ونفس لينة ولسان عف
وحضور بديهة.
رزق حسن منطق في جزالة وإيجاز، وروحاً مرحة [2] وُضعت له معها
المحبة والقبول.
كان ذا وعي شديد واطلاع دائم على الأحداث والمتغيرات: إن شئت أن تراه
قارئاً رأيته، أو تجده مصلياً وجدته، أو مستمعاً ومتابعاً لأخبار العالم ونشرات
الأخبار وناقلاً لحديثها في دروسه قبل أن تنشره الصحف آنستَ ذلك منه، وما من
حدث يقع في الأمة إلا ويعرض له ويبين حكمه في غاية الوضوح بلا مواربة
وكانت ردوده حاسمة قاطعة.
وكان ذا جرأة في الحق رغم ما كان يمكن أن يتحمله من نتائج لا طاقة لجسمه
الضعيف بها، ومن ذلك أنه حين عُيِّن خلفاً للشيخ الغزالي في مسجد عمرو بن
العاص في عهد عبد الناصر ظن الناس أن الشيخ سيُداهن بعد أن غُضب على سلفه، فأفرد في أولى خُطَبه خطبة فريدة في نوعها ومضمونها تناول فيها شروط الحاكم
المسلم ذكر فيها 13 شرطاً بأدلتها الشرعية وشواهدها التاريخية فكانت جامعة مانعة، حتى قال عنها أحد العلماء الحاضرين: الشيخ قال كل شيء، ولم يؤخذ عليه
شيء.
وكان يبلغ مأربه دون عناء؛ ومن ذلك أنه حين سئل عن أحدهم قال: إنه
«كُذُبْذُب» (يعني أدمن الكذب) .
وحين ساء الحال في السبعينيات سئل عن رؤيته للأوضاع، فقال: «إن علة
مصر سؤالان وجيهان.. .» .
ومن سعة صدره: أنه خطب يوماً فأطال، فلما فرغ الشيخ من خطبته وقف
أحد الحاضرين وكان ذا مرض قائلاً: أنت لا تفهم!
فجاء رد الشيخ هادئاً: وهل قلت لك إنني أفهم؟ فأُسْقِطَ في يد الرجل واعتذر
للشيخ.
أواخر حياته:
وبعد أن استقر به الحال في القاهرة قبل ثلاث سنوات، تجول بين عدد من
المساجد لإلقاء دروسه في ستة أيام كل أسبوع؛ أربعة أيام للرجال ويومين للنساء.
ولكم أتعبه المرض دون أن يُقعده، وقد حاول ولده الدكتور مصطفى أن يمنعه من
التدريس بعد أن نصحه الأطباء بالراحة، فأبى ما دام فيه نَفَس، فكان يذهب لدرسه
رغم مرضه ليبلِّغ الحق للناس.
ويكفي الشيخ وقد لقي ربه بأكثر من سبعين سنة حافلة بالدعوة والجهاد ما
أعقبه الله من ثناء وذكر حسن بين الناس ودعاء.
رحمه الله رحمة واسعة، وأخلف على الأمة في مصابها فيه وفي إخوانه
خيراً.