تأملات دعوية
محمد بن عبد الله الدويش
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» [1] .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: «قال الخطابي: تأولوا هذا
الحديث على وجهين: أحدهما: أن الناس في أحكام الدين سواءٌ لا فضل فيها
لشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة التي لا يكون فيها
راحلة وهي التي ترحل لتركب، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة، أي كلها حمولة
تصلح للحمل، ولا تصلح للرحل والركوب عليها. والثاني: أن أكثر الناس أهل
نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً؛ فهم بمنزلة الراحلة في الإبل المحمولة،
ومنه قوله تعالى: [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الأعراف: 187) » .
ورجح الثاني الأزهري، والنووي، والقرطبي، وغيرهم.
ولا شك أن المعنيين ثابتان بأدلة أخرى، ومرادنا هنا المعنى الثاني، وسواء
أكان هو المراد بهذا الحديث، أم المراد غيره فهكذا شأن الناس؛ فالقليل منهم هو
الذي يُعتمَدُ عليه، وأكثرهم دون ذلك.
وفي هذا المعنى وقفات عدة:
الوقفة الأولى: أن على الدعاة والمربين الاعتناء بالعناصر الفاعلة المتميزة؛
إذ هم قليل في الناس، عزيزٌ وجودهم، وأثر استجابتهم للدعوة لا يقاس بأثر
غيرهم.
ولهم في ذلك أسوة حسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول: «اللهم
أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب» [2] .
وقد كان السلف يُعنَوْن بأمثال هؤلاء؛ ومن صور هذه العناية ما رواه
الخطيب في الجامع بإسناده عن إسماعيل بن عياش قال: كان ابن أبي حسين المكي
يدنيني، فقال له أصحاب الحديث: نراك تقدم هذا الغلام الشامي وتُؤْثِرُه علينا؟
فقال: إني أؤمِّله. فسألوه يوماً عن حديث حدث به عن شهر: إذا جمع الطعام
أربعاً فقد كمل، فذكر ثلاثاً ونسي الرابعة، فسألني عن ذلك، فقال لي: كيف
حدثتكم؟ فقلت: حدثتنا عن شهر أنه إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل: إذا كان أوله
حلالاً، وسُمِّيَ عليه الله حين يوضع، وكثُرت عليه الأيدي، وحُمِدَ الله حين يُرفَع.
فأقبل على القوم، فقال: كيف ترون؟ [3] .
الوقفة الثانية: حين يدرك الداعية والمربي هذا المعنى يدعوه ذلك لأن يكون
واقعياً فيما يطلبه من الناس وينتظره منهم؛ فالناس لن يكونوا كلهم رواحل، ولا
يسوغ أن نرسم صورة مثالية وننتظر من الناس جميعاً أن يصلوا إليها.
الوقفة الثالثة: حين نرى صورة واقعية من أحد من الناس، فلا يسوغ أن
نتخذها نموذجاً نقارن الآخرين به، وننتظر منهم أن يصلوا إلى ما يصل إليه. ومن
الصور الشائعة في ذلك ما يصنعه بعض الآباء مع أبنائه، أو بعض المعلمين مع
طلابه حين يعجب بأحدهم فينتظر من الآخرين أن يكونوا مثله، وأن يصلوا إلى ما
وصل إليه.
الوقفة الرابعة: ليس معيار الاختلاف بين الناس قاصراً على القدرات العقلية
والذهنية وحدها؛ فهم يتفاوتون في تحملهم للأعباء، وفي جديتهم، وفي تضخيمهم
للمخاطر، وفي قدراتهم النفسية.. .. إلخ هذه العوامل، وهي كلها مما لا بد من
أخذه في الاعتبار.
الوقفة الخامسة: إدراك هذا المعنى يجعل المسلم عالي الهمة، متطلعاً للمزيد،
ينظر في العلم والصلاح إلى من هو فوقه، ولا ينظر إلى من هو دونه.