دراسات في الشريعة والعقيدة
دراسة أصولية
عبد الرحمن بن معمر السنوسي
ما استجدّت في واقعنا الحوادث والنّوازل؛ وقفزت بنا المتغيّرات إلى جديدٍ
من القضايا إلاّ هُرِعَتْ إلى بحثها وبيان الحكم فيها أعدادٌ وفيرةٌ من أساتذتنا وباحثينا، وقام لتحقيق الحقّ فيها متخصّصون فضلاء؛ ممّا يبعث على الاسترواح
والاستبشار بالصّحوة الإسلاميّة التي هي ملء السّمع والبصر.
والمتفحّص في كثير من تلك الدّراسات والبحوث؛ رغم ما يسرّه من مستوى
علميّ وتدقيق معرفيّ: هذا المتفحِّص واجدٌ في بعضها ما يُحْوِجه إلى تَمَثُّلِ المنهج
السّليم في تناول القضايا الاجتهاديّة والنّوازل المستحدَثة.
ولئن كان من الأسس المنهجيّة الواضحةِ عند أهل السّنّة والجماعة إزاء مسائل
الاجتهاد رعي [1] الخلاف فيها احتياطاً أو اجتناباً أو امتثالاً؛ إلاّ أنّ هذا الأصل
الأصيل يُدلف [2] إلى الضّمور والاضمحلال في كثير من دراساتنا المعاصرة؛
بسبب تلك الهوّة الشّادهة [3] بين المتقدّم والمتأخّر، علاوة عن افتقار الأمّة إلى
انتصاب القدوات، خاصة مع استشراء الأهواء.
ولقد أحببتُ أن أتناول في هذه الدّراسة المتواضعة هذه المسألة التي لم تُفرَد
بدراسة مستقلّة حتّى الآن حسب اطّلاعي القاصر رغم خطرها وارتباطها بالجانب
العمليّ من جوانب العمل الإسلامي المعاصر.
أولاً: تعريفها:
أ - لغةً: المراعاة من راعيتُ الشيء رَعْياً ومراعاةً «لاحظته محسناً إليه؛
والأمرَ: نظرتُ إلامَ يصير» [4] .
والخلاف والمخالفة: أن يأخذ كلُّ واحد طريقاً غير طريق الآخر [5] .
ب - اصطلاحاً: عُرّفت المراعاة بعدة تعريفات لا تسلم من مآخذ، ولعل
أحسنها تعريف ابن عرفة رحمه الله في حدوده: «إعمالُ دليل [المخالف] في لازم
مدلوله الذي أُعمِلَ في نقيضه دليلٌ آخر» [6] .
مثال ذلك: إعمالُ مالك رحمه الله دليلَ مخالفه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار؛
في لازم مدلول ذلك المخالف ومدلوله عدم الفسخ الذي هو ثبوت الإرث بين
الزوجين المتزوجين بالشغار عند موت أحدهما، وهذا المدلول الذي هو عدم الفسخ
أعملَ مالكٌ رحمه الله في نقيضه الذي هو الفسخ أعملَ دليلاً آخر يقتضي الفسخ
عنده.
لكن تعريف ابن عرفة رحمه الله لا يشمل كل صور المراعاة المذكورة؛ لأن
تخصيصها بالمعنى المتقدم لا يتجاوز بها المعنى المتواضَع عليه [7] عند متأخري
المالكية.
وأوْلى منه أن يُقال: مراعاة الخلاف: «اعتبار خلافِ الغير بالخروج منه
عند قوة مأخذه بامتثال مقتضى ما اختُلِفَ فيه» .
ثانياً: موضوعها:
أما موضوع مراعاة الخلاف بالمعنى العام فهو: التصرفات المختلَف في
حكمها الدائر بين الاقتضاء والمنع من حيث تحقيقها لمقصود الشارع.
ومنشؤها: احتمال التورط في نقيضِ مقصودِ الشارع بفعلِ ما هو خلاف
الأوْلى مطلقاً [8] .
ثالثاً: رعي الخلاف في المذاهب الأربعة:
نصَّ غير واحدٍ من العلماء على أن مشروعيتها ثابتةٌ بالإجماع [9] .
وما دام تتبُّع ذلك عند سائر العلماء متعذّراً؛ نظراً لاستحالة الإحاطة بأقوال
الجميع؛ فإنّ الاقتصار على حكم ذلك في المذاهب الأربعة المشهورة يغني عن كل
تتبّع واستقراء.
وتجدرُ الإشارة إلى أن أكثر المذاهب أخذاً بهذه القاعدة وتعويلاً عليها:
المالكية والشافعية، ثم الأحناف والحنابلة.
أما في مذهب مالك رحمه الله فاعتمادها في بناء كثير من الفروع مشهور
معلوم. قال الشاطبي رحمه الله: «وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل
كثيرة» [10] .
قال أبو العباس ابن أبي كف رحمه الله: [11] .
أما في مذهب الشافعي رحمه الله فقد نَصَّ أئمّة مذهبه على مشروعية البناء
على رعي الخلاف واستحبابه. قال البدر الزّركشيّ رحمه الله: «يُستحَبُّ الخروج
منه أي الخلاف باجتناب ما اختُلف في تحريمه وفعل ما اختُلف في وجوبه» [12] .
وجعل ابن السّبكي رحمه الله اطِّراح الخلاف بـ «الخروج أفضل..
واعتماده من الورع المطلوب شرعاً» [13] .
أما في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فقد صرح ابن عابدين رحمه الله في
حاشيته باستحباب رعي الخلاف؛ حيث أفرد لها مطلباً خاصاً فقال: «مطلب في
ندب مراعاة الخلاف» [14] .
كما صرح به أيضاً الملاَّ علي القاري رحمه الله في مواضع من «المسلك
المتقسّط» [15] .
وقد صلَّى أبو يوسف القاضي رحمه الله بالناس الجمعة يوماً مغتسِلاً من الحمَّام، فلما تفرقوا أُخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام؛ فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قُلَّتين.. إلخ [16] .
أما في مذهب الإمام أحمد رحمه الله فيجد الدارس نماذج كثيرة تدل على ذلك؛
منها ما ذكره ابن قُدَامة رحمه الله بخصوص وقت صلاة الجمعة عند الحنابلة وأنها
تُصلَّى قبل الزوال عندهم خلافاً للجمهور؛ حيث قال: «فالأوْلى أن لا تُصلى إلا
بعد الزوال ليخرج من الخلاف» [17] .
وفي «باب رد الشهادة» من كتاب كشَّاف القناع قوله: «إن من عمل في
الفروع المختلَف فيها عند الأئمة اختلافاً شائعاً كمن تزوَّج بلا ولي أو بلا شهود، أو
شرب من النبيذ ما لا يسكر، أو أخَّر الزكاة، أو حج متأوِّلاً أو مقلِّداً لمن يرى حِلَّه: لم تُرَدَّ شهادتُه؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع؛ وقَبِلوا
شهادة كل مخالف لهم فيها، ولأنه اجتهاد شائع لا يُفَسَّق به المخالف كالمتَّفَق
عليه» [18] .
وفيما نُقِلَ عن الإمام أحمد رحمه الله يجد الباحث نماذج عالية تدل على
اعتباره رحمه الله لخلاف الأئمة المتقدمين، وورعه إزاء المسائل الخلافية في
الفروع.
ذكر أبو داود رحمه الله في مسائله عنه في باب «نقض الوضوء من مس
الذكر» قال: «قلت لأحمد: فرجل لا يرى من مس الذكر وضوءاً؛ أصلي خلفه
وقد علمت أنه مس؟ قال: نعم!» [19] .
رابعاً: الغاية من رعي الخلاف:
إن التصرف بباعث الخروج من الخلاف لا ينشئه المكلف لمعرفة الحكم؛
ولكن لتنجيزه [20] والخروج من عهدته، ويتذرع به إلى إيقاع تصرفه على وجه
متيقَّن لا يعصف الشك بساحته؛ فهو وسيلة إلى الامتثال المحقق؛ لا طريق إلى
معرفة الحكم.
فالغاية التي يصدر عنها المحتاط في حال خروجه من الخلاف: هي الورع
والاستبراء للدين؛ لكونهما متعلق براءة الذمة والخروج من العهدة، والعمل بالورع
غير محتاج إلى استدلال لبداهة استحبابه في الشرع، لا سيما إذا كان في امتثال
الأوامر والنواهي.
وثمة ملحظ آخر يلتحق بهذا الأصل؛ وهو أن من المقاصد العليا والغايات
العظمى التي يلتفت إليها ههنا هي: تضييق هوة الخلاف بين المذاهب الفقهية؛
فكثيراً ما أحدثت هذه الخلافات شروخاً في وحدة المسلمين، وخلَّفت جراحات لا
تؤسى [21] ، وَفِتَناً عظيمة وعاها التاريخ وشهد بها الواقع.
وبقَدْر ما في اختلاف الفهوم والأنظار من خير ونفع؛ وما في تعدد المذاهب
من ثراء وسَعة فإن فيها من دواعي الفرقة وأسباب التشتت ما يأسى له القلب
ويحزن.
ولا شك أن الخلاف الفقهي في ذاته لا ينتهض [22] لإحداث الفرقة، وإنما
تتسبب الفرقة عن ضيق الصدور، واستحكام الهوى، والتعصب للرأي.
خامساً: مشروعيتها وأصلها من الدين:
1 - مستندها النقلي: من أمثلة مراعاة الخلاف ما ثبت عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان عُتبة بن أبي وقاص عَهِدَ إلى أخيه سعد بن
أبي وقاص أن ابنَ وليدةِ زَمْعَةَ مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان عام الفتح أخذه
سعد، وقال: ابنُ أخي، قد كان عهد إليّ فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي
وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه؛ فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
سعد: يا رسول الله! ابن أخي قد كان عَهِدَ إليّ فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي
وابن وليدة أبي وُلِدَ على فراشه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك
يا عبد بن زمعة» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش،
وللعاهر الحَجَر» ثم قال لسودة بنت زمعة: «احتجبي منه» لِمَا رأى من شبهه
بعتبة بن أبي وقاص، قال: فما رآها حتى لقي الله! « [23] .
ووجه الاستدلال بالحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى الحُكْمَيْن معاً، أي حكم الفراش وحكم الشَّبَه، أما مراعاته لحكم الفراش فلإلحاقه الولد بصاحبه وهو زمعة، وأمّا مراعاته لحكم الشبه فلأمره سودة رضي الله عنها بنت صاحب الفراش بالاحتجاب من الولد الملحَق به [24] .
ويشهد لهذا الأصل من حيث معناه العام قصة الصحابي الجليل عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه لما صلَّى خلف عثمان رضي الله عنه بمنى مُتِمّاً؛ رغم
مخالفته له ومراجعته إيّاه في ذلك؛ ولما سئل عن ذلك قال:» الخلاف شر « [25] .
2 - مستندها الأصولي:
أ - تخريجها على الاستحسان: وَجْهُ انتزاعها منه [26] : أن مقتضى القياس
أن يجري المجتهد على وفق دليله ويحكم بمقتضى اجتهاده الذي أداه إليه الظن
الغالب الموجِب للعمل، فلا يترك قولَه ودليلَه لِيَصِيرَ إلى قول الغير ودليله.. هذا
هو الأصل.
غير أنه يعدل عن ذلك فيُهمِلُ العملَ بمقتضى قوله ودليله من وجهٍ لِيُعْمِلَ دليل
غيره المرجوح عنده.
وموجب هذا العدول: هو رجحان دليل المخالف في لازم مدلوله، وعلى هذا
فهو ليس تاركاً لاعتقاده في قوله ودليله ولا مطَّرحاً له بالكلية؛ بل قصاراه أنه امتثل
على وفق دليل غيره في جهة يكون رأي الغير أرجح فيها، أو اختار الأشقّ مع
اعتقاده صحّة الأخفّ، وهو كما ترى عُدول يُسنده النّظر الحازم والرأي السديد.
ب - تخريجها على» المناسب الملائم «: والمقصود من ذلك بالضبط:
اعتبار جنس الوصف في جنس الحكم؛ فإن جنس الشبهة مؤثر في جنس الترك
والاجتناب؛ إذ جنس الوصف الذي هو» الاختلاف «مؤثر في جنس الحكم الذي
هو الاجتناب المصطلح عليه هنا» بالمراعاة «أو» الخروج «: لما في التورط
فيه من احتمال مواقعة الحرام أو تفويت الامتثال الواجب الذي يناسبه فعل الأشق
من الأمرين؛ إما بالترك وإما باستيعاب محتملات التكليف.
فعلى هذا يكون الخروج من الخلاف من المصالح التي أمر الشرع بتحصيلها
كما ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله [27] .
ج - تخريجها على» اعتبار المآل «: وهو مختص بحالة ما بعد الوقوع كما
سيأتي؛ فإنه ربما أفتى المفتي بفساد الفعل ابتداءاً، فإذا وقع عاد إليه بالإنفاذ
والاعتبار، وهو نوع من الالتفات إلى الأمر الواقع والبناء عليه بعد تجديد النظر
في المسألة؛ بحيث يصير التصرف بعد وقوعه معتبراً» وشرعياً بالنظر لقول
المخالف، وإن كان ضعيفاً في أصل النظر؛ لكن لما وقع الأمر على مقتضاه
روعيت المصلحة « [28] .
ومنه ما يجري في تصحيح العقود إذا كان فسادها مختلَفاً فيه؛ كقولهم: كل
نكاح فاسد اختُلِفَ فيه فإنه يثبت به الميراث ويفتقر في فسخه إلى الطلاق؛ لأنه بعد
وقوعه تعلق به مصلحة كل من الزوجين والأولاد والورثة.
ومنه أيضاً قولهم: إذا دخل المصلي مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسياً
تكبيرة الإحرام، فإنه يتمادى مع الإمام ولا يقطع مراعاة لقول من قال: إن تكبيرة
الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام [29] .
سادساً: حكم مراعاة الخلاف:
تكاد تجتمع كلمة القائلين برعي الخلاف على أنها مستحبة؛ قال الزركشي
رحمه الله:» يستحب الخروج منه أي الخلاف باجتناب ما اختُلِفَ في تحريمه
وفعل ما اختُلِفَ في وجوبه « [30] .
وقال الملا علي القاري رحمه الله:» الخروح الخلاف مستحب بالإجماع « [31] .
ويقول الراعي الأندلسي رحمه الله:» وأما استحباب الخروج من الخلاف
فمسلَّم حيث أمكن « [32] .
والاستحباب في هذا الباب» استحباب مقدّمي «لتعلقه برعي الخلاف من
حيث هو مقدمة للمستحب الأصلي ووسيلة إليه لا أنه هو عين الحكم المطلوب
أصالة.
كما أن الحكم باستحباب الخروج من الخلاف إنما يتمشى مع الأصل فيه، وإلا
فإن ثمة حالات يخف فيها الطلب أو يتأكد؛ وهي مجال بحث الناظر المتمرِّس
واجتهاده.
سابعاً: أحوال مراعاة الخلاف:
أكثر الأئمة القائلين برعي الخلاف لا يقيدونه من حيث فعله بحالة دون
أخرى؛ وإنما ينضبط عندهم بحسب قوته ووجاهته.
ويفرِّق كثير من العلماء المالكية بين حالة» ما قبل الوقوع «و» حالة ما
بعده «؛ فمنهم من يراعيه قبل حصول الفعل؛ نظراً لأصل البراءة والاحتياط من
التورط في الشبهة، ومنهم من يراعيه بعد الحصول؛ التفاتاً إلى المصلحة واعتباراً
للمآل الذي يتقوَّى حياله دليل المخالف.
والحق أن تقييد الاعتبار بإحدى الحالتين دون الأخرى غير مُتَّجَه في النظر؛
لأن مناط الاعتبار إنما هو قوة المأخذ ووجاهته في الخلاف؛ وذلك غير مقصورٍ
على حال دون حال؛ لوجدانه في كليهما كما هو مشاهَد في فروع القاعدة.
الحالة الأولى: قبل الوقوع: وصورتها: أن يظهر للمجتهد بعد اجتهاده قوة
مأخذ مخالفه وصحة مُتَمَسَّكِهِ؛ بأن يكون مقتضاه آتياً على وفق الاحتياط، أو محققاً
لمصلحة شرعية ظاهرة كائنةٍ في جهة الأخف: فيمضي حينئذ على اجتهاد مخالفه؛
مرجحاً لمقتضاه ومقرِّراً لظهوره ابتداءاً؛ بحيث يجوز الامتثال على وفقه قبل
الشروع في الفعل والامتثال.
وممن ذهب إلى هذا القول المراعاة قبل الوقوع أبو عبد الله المقري [33] وأبو
عثمان العقباني رحمة الله عليهما.
ومن مسائل هذه الحالة: قول المالكية بكراهة الوضوء بالماء المستعمل في
رفع الحدث؛ مراعاةً لمن قال ببطلان التطهر به [34] .
ومن مسائله أيضاً: ما سبق نقله عن ابن قُدامة رحمه الله بخصوص استحباب
صلاة الجمعة بعد الزوال عند الحنابلة رغم تجويزهم صلاتها قبله.
الحالة الثانية: بعد الوقوع: وصورتها: أن يرجِّح المجتهد في المسألة مثلاً
دليلَ الحظر والمنع ابتداءاً، فإذا وقع الفعل بخلافه: راعى دليل غيره المرجوح
عنده لوجه يقتضي رجحان دليله في تلك الحالة؛ كاستحقاق المرأة المهرَ والميراثَ
عند المالكية إذا تزوجت بغير ولي؛ فإن مالكاً رحمه الله مع قوله بفساد النكاح دون
ولي يراعي الخلاف عند نظره فيما يترتب عليه بعد الوقوع؛ إذ التّفريع على
البطلان الراجح عنده يؤدي إلى مفسدة وضرر أقوى من مقتضى النَّهي على ذلك
القول.
ويشهد لهذا التقرير ما ثبت في قصَّة الأعرابي البائل في المسجد [35] ، فهو
مع كونه واقعاً منهيّاً عنه على وجه القطع وهو البول في المسجد؛ إلا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتّى يُتِمَّ بوله لما في قطعه عليه من الأضرار
والمفاسد، وكان يحصل من تقويمه من محله الذي بال فيه مع ما حصل من تنجيس
المسجد تنجيسُ ثيابه وبدنه ومواضع أخرى من المسجد، ولأصابه من ذلك في بدنه
مرض للاحتباس المفاجئ في بوله.
ثامناً: شروط مراعاة الخلاف:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي المدرك: أي يكون مأخذ المخالف فيما
ذهب إليه قويّاً بحيث لا يُعدّ هفوة أو شذوذاً؛ ومن ههنا لم يُرَاعَ خلاف أبي حنيفة
رحمه الله في الرواية المنقولة عنه في بطلان الصلاة برفع اليدين [36] ، وكذلك
إسقاطه الحد في القتل بالمثقل واعتباره إياه شبهة تدرأ الحد [37] ، ومنه أيضاً ما نقل
عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله من إباحة وطء الجواري بالعارية [38] .
الشرط الثاني: أن لا تؤدي إلى صورة تخالف الإجماع: أي أن لا يلزم من
رعي الخلاف خرق للإجماع وإلاَّ حُرِّمَ؛ كمن تزوج بغير ولي ولا شهود بأقل من
ربع درهم؛ مقلداً أبا حنيفة في عدم الولي ومالكاً في عدم الشهود والشافعي في أقل
من ربع درهم، فإن هذا النكاح لو عرض على الحنفي لا يقول به؛ وكذلك المالكي
والشافعي رحم الله الجميع [39] .
ومنه أيضاً ما نقل عن ابن سريج رحمه الله من الشافعية؛ أنه كان يغسل أذنيه
مع الوجه ويمسحهما مع الرأس ويفردهما بالغسل؛ مراعاة لمن قال إنهما من الوجه، أو الرأس، أو عضوان مستقلان: فوقع في خلاف الإجماع [40] .
الشرط الثالث: أن لا يترك المراعي للخلاف مذهبه بالكلية: إذا لزم من
رعي الخلاف ترك المجتهد أو الناظر لقوله ودليله جملة فإن ذلك خارج عن مسمى
مراعاة الخلاف؛ وإنما هو تقليد للغير بعد الاجتهاد والنظر؛ وجل العلماء على منعه.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذهب ممكناً: فإن لم يكن كذلك؛ فلا
يترك الراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح؛ لأن الجمع بين المتناقضين متعذر عقلاً.
مثاله: قول بعض الشافعية أن من تقدم بقراءة الفاتحة وجب عليه إعادتها؛
فإن القائل بهذا لا يمكن معه مراعاة القائل بأن تكرار الفاتحة مرتين مبطل! إلا أن
يخص البطلان بغير العذر [41] .
الشرط الخامس: قيام الشبهة: [42] لأنه إذا توافر العلم بصحة الحكم ووجه
انتزاعه من دليله فالمصير إلى قول المخالف مراعاةً له غير متَّجَه؛ كما أن عبادة
الله بمؤدى الاجتهاد التام أوْلى من عبادته بالاحتياط العام؛ لليقين في الأول ومطلق
التفويض في الثاني.
والسياق هنا مختص بحالة ما قبل الوقوع لا غير، وثمة حالة تُستثنى من هذا
العموم: وهي حال التورع في التروك؛ فإنها لا تُقَيَّد بقيام الشبهة ولا يُطلَب عليها
دليل؛ لأن الورع لا يتوقف على وروده.
هذا وقد اشترط التاج السبكي والسيوطي عليهما رحمة الله لرعي الخلاف أن
لا يخالف سُنَّةً ثابتة [43] ، والحقُّ أن ذلك مستغنى عن ذكره؛ لاندراج مخالفة السنة
ضمن المواضع التي يُنقَض فيها الاجتهاد.
تاسعاً: أهمية مراعاة الخلاف في العمل الإسلامي المعاصر:
من الهموم المُمِضَّة التي تؤرق المخلصين من أبناء الدعوة ظاهرة الفرقة التي
تكاد أن تتأصل في مسيرتها الحالية، مما تسبب عنه كثير من الآلام، وتولدت منه
عوامل ضعف أربكت حيويتها، وبعثرت جهودها، وسرَّت أعداءها.
وبدل البحث عن عناصر الائتلاف والاجتماع رحنا نؤصِّل لذلك التفرق،
ونلتمس له التعليلات والمسوِّغات، ووصل بنا الحد في بعض الحالات والمواقع إلى
فَقْدِ أساليب التعايش السلمي» على الأقل «.
إن قلة الورع، وغياب الرؤية العلمية المتكاملة، وإيثار» مصالح الكيان «
على المصالح العليا؛ هي أسباب حقيقية لواقعنا المزري، وإذا أردنا الخروج منه
لنحقق الوثب إلى الآفاق الرحبة التي هي أمل الجميع فعلينا أن نعالج تلك الأسباب
نفسها.
وينبغي أن يكون واضحاً في أدبيات الصحوة الإسلامية أن الحوار البنَّاء
المبني على الرغبة في الخروج من الخلاف؛ هو مفتاح الخلاص من حالة التدهور
والتخلف الذي كرسناه بأنفسنا. ولئن كان الوصول إلى تحقيق هذه القناعة عسيراً
فيما يبدو؛ فإنه لا بد أن تسبقه مرحلة التأصيل لهذه الكليات المعرفية والأخلاقية في
الوقت نفسه بتكريسٍ دؤوبٍ يجعلها فيما بعدُ من المسلَّمات التي تأخذ مكانها في
الوجدان العام للصحوة، وحينها تنفسح أمامنا فرص التفوق والنصر والتمكين بإذن
الله.