مجله البيان (صفحة 3485)

دراسات في الشريعة والعقيدة

تقديس البشر

(1 - 2)

د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله

وصحبه أجمعين.

«الله ابتعثنا لنُخرِجَ من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا

إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا نبيُّه إلى خلقه لندعوهم

إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نُفضي إلى

موعود الله» [1] .

بهذه الكلمات واجه ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه رستم الفارسي، ولم يكن

ربعي بن عامر بذلك الخطاب شجاعاً مقداماً فحسب، بل كان ذكياً فطناً يدرك أحوال

مخاطبيه؛ فإن الفرس قد أُولِعوا بتأليه «الأكاسرة» وتقديسهم؛ فلذا قال ربعي:

«الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله» .

ويُعَدُّ الغلو في الأشخاص وتقديسهم من الظواهر القديمة في تاريخ البشرية،

ولا تزال هذه الظاهرة جاثمة في العصر الحاضر بهيئات متنوعة وصور شتى.

وتُعنى هذه المقالة بالحديث عن مظاهر تأليه البشر [2] ، وبواعث تلك الظاهرة

وعلاجها.

إن مظاهر تأليه البشر كثيرة يتعذر حصرها، لكن يمكن أن نشير إلى أهم

الأصناف التي غلب على الناس تأليهها وتقديسها، وهم: العُبَّاد، والعلماء،

والسلاطين.

يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله:

وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ ... وأحبارُ سوء ورهبانُها

وسيكون الحديث عن تلك الأصناف الثلاثة ومظاهر الغلو والتأليه لهم. فأما

الصالحون فيجب محبتهم وولايتهم والإقرار بكراماتهم.

لكن الكثير من الناس قد أفرط في محبتهم، وغالى فيهم حتى عبدوهم من دون

الله تعالى كما وقع من قوم نوح عليه السلام.

ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى:

[وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً]

(نوح: 23) . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما

هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها

وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبَد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم

عُبِدت.

وغلب على النصارى تأليه البشر وتقديسهم، فزعموا أن عيسى عليه السلام

ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، كما زعمت يهود أن

عُزَيْراً ابن الله، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.

قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ

إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا

بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ

وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] (النساء: 171) .

وقال عز وجل: [وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ

اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى

يُؤْفَكُونَ] (التوبة: 30) .

وما فتِئ الشيطان يزيّن لأتباعه عبادة الصالحين حتى آل بهم إلى عبادة أقوام

يدَّعون لهم الوَلاية وهم من أعظم الناس فسقاً وفجوراً.

ومن ذلك ما كان يفعله بعض أهل نجد قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد

الوهاب رحمه الله عند قبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب؛ حيث

كان يخرج إلى بلدان نجد، ويضرب عليهم خراجاً من المال، فإن أعطي ما أراد

انصرف، وإلا عاداهم وحاربهم، فصاروا يأتون قبره، ويستغيثون به عند حلول

المصائب [3] .

وحكى الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ما

عليه بعض المصريين تجاه أحمد البدوي فقال: «كما جرى لأهل مصر وغيرهم،

فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يُعرَف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة، ومع هذا صار أعظم آلهتهم، مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة

فبال فيه، ثم خرج ولم يصلِّ» [4] .

وما زال الشيطان يؤزُّهم إلى حضيض الشرك، حتى أوقعهم في ادعاء

الربوبية لأولئك البشر، وأن الخلق والتدبير بأيديهم.

وكما يقول العلاَّمة حسين بن مهدي النعمي واصفاً حالهم: «وحاصل معتقدهم

أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت.. ومن ذلك: أن حياً من أهل البوادي إذا

أرسلوا أنعامهم للمرعى قالوا: في حفظك يا فلان، يعنون ساكن مشهدهم.

ومنهم من يخاطب الولي بزعمه، فيقول: يا خالق الولد الذي تخلقه مطهوراً

ولقد تجاسر بعض العامة فقال: والله! أما الولي فإنه يحيي الموتى، أما الولي

فلان فإنه حي لا يموت» [5] .

ومن أشهر الطوائف التي نُعتت بتأليه العُبَّاد وتقديسهم: الرافضة والصوفية.

فأما الرافضة فقد جعلوا الإيمان بإمامة الإثني عشر شرطاً في قبول الإيمان،

واعتقدوا أن للأئمة حق التشريع والتحليل والتحريم، وزعموا أن تراب قبر الحسين

شفاء من كل داء، وأمانٌ من كل فقر « [6] .

وأما الصوفية فقد قال بعضهم: من قال لشيخه: لِمَ؟ فقد هلك، وزعموا أن

مشايخ الطرق» يُسَلَّم «إليهم حالهم فلا نقاش ولا اعتراض!

يقول أبو الوفاء بن عقيل في الردّ عليهم:» وليس لنا شيخ نُسلِّم إليه حالَه؛

إذ ليس لنا شيخ غير داخل في التكليف، ولو كان لنا شيخ يُسلَّم إليه حاله، لكان

ذلك الشيخ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وقد قال: إن اعوججتُ فقوِّموني، ولم

يقل: فسلِّموا إليَّ « [7] .

ومن مظاهر تأليه البشر وتقديسهم عند الصوفية: سجود المريد للشيخ.

يقول ابن القيم عن ذلك الشرك:» ومن أنواع الشرك: سجود المريد للشيخ،

فإنه شرك من الساجد والمسجود له، والعجب أنهم يقولون، ليس هذا سجوداً،

وإنما هو وضع الرأس قُدَّام الشيخ احتراماً وتواضعاً، فيقال لهؤلاء: ولو سميتموه

ما سميتموه؛ فحقيقة السجود وضع الرأس لمن يُسجد له، وكذلك السجود للصنم،

وللشمس، وللنجم، وللحجر، كله وضع الرأس قدامه « [8] .

لقد برع الصوفية في استعباد الأتباع والمريدين، وجعلوا منهم جيلاً موطَّأ

الظهر لكل معتد ومستعمر، فزعم أرباب السلوك الصوفي أنهم يسعون إلى

استئصال الغرور من الأنساب، فأذهبوا الغرور، ثم أذهبوا أيضاً عزة النفس، ثم

ذهبت كذلك الشخصيات الحرة المستقلة [9] .

وقد سمَّى الشيخ الغزالي رحمه الله ذلك الصنيع» تمارين على الذل «فكان

مما قاله:» إن الدجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على

التواضع بشتى الطرق المهينة؛ فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة

وترفُّع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر

نفسه، وينخفض رأسه؛ وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب!

ولم يَدرِ المغفَّلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا

الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين [10] الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم

وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها « [11] .

وأما الصنف الآخر وهم العلماء فقد وقع كثير من الأتباع في التأليه لعلمائهم،

فاتخذوهم أرباباً من دون الله تعالى فأطاعوهم في تحليل ما حرّم الله تعالى، وتحريم

ما أحل الله تعالى وقلدوهم وأعرضوا عن الدليل، بل عارضوا النصوص الشرعية

بآرائهم وأقيستهم؛ ففي حديث عدي بن حاتم وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه

وسلم وذلك قبل أن يُسِلمَ وكان نصرانياً، فسمعه يقرأ هذه الآية: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ

إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة: 31) ، فقال عدي: إنا لسنا نعبدهم،

قال: أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلُّون ما حرم الله فتحلونه؟ فقال

عدي: بلى، قال: فتلك عبادتهم» [12] .

فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام

وتحريم الحلال، فاتبعوا أولئك الأحبار والرهبان في هذا التبديل.. وقد ذكر الله أن

ذلك شرك في قوله سبحانه: [لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ...

(التوبة: 31) [13] .

وساق الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بسنده أن ربيعة شيخ الإمام مالك

اضطجع مقنِّعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياء ظاهر وشهوة خفية،

والناس عند علمائهم كالصبيان في حجور أمهاتهم ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم

به ائتمروا [14] .

يقول الشيخ العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي في الفرق بين تقليد العلماء وبين

اتِّباعهم: «لا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب

الله ورسوله وتقديمها على كل قول، وعلى كل رأي، كائناً ما كان. فمن قلدهم

التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم فهو المخالف لهم، المتباعد عن

طاعتهم» [15] .

فالتقليد: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، والاتِّباع: ما ثبت عليه حجة [16] .

ومما يجدر ذكره «أن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها؛

لأنها لا تتبين موقع الحجة ولا تصل بعدم الفهم إلى علم ذلك؛ لأن العلم درجات،

لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب

الحجة، ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها، وأنهم المرادون بقول الله

عز وجل: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) » [17] .

ومن الغلو في العلماء: اتباعهم في زلاتهم وعثراتهم، وقد حذر السلف

الصالح من ذلك أيما تحذير؛ فعن زياد بن جرير قال: قال لي عمر بن الخطاب

رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم،

وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين [18] .

قال ابن القيم رحمه الله: «والعالم قد يزلُّ ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم؛ فلا

يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذمه كل

عالم على وجه الأرض، وحرموه، وذموا أهله، وذلك أصل بلاء المقلدين

وفتنتهم» [19] .

كما ينبغي التحذير من اعتراضات علماء السوء على شرع الله تعالى، وكما

قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: «وأحبار السوء وهم العلماء الخارجون عن

الشريعة يعترضون بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرّم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد

ما أطلقه ونحو ذلك» [20] .

والمقصود أن نسلك الوسطية تجاه أهل العلم، فلا بد من توقيرهم ومحبتهم

والانتفاع بعلومهم، ونحذر من التفريط فيهم أو انتقاصهم أو التطاول عليهم، كما

نحذر من الغلو فيهم وتأليههم.

وأن يُعنى بفقه أهل العلم المعتبرين وفهمهم لنصوص الشريعة، فيحتج

بفهومهم لنصوص الشريعة لا أن يحتج بكلامهم على نصوص الشريعة.

كما يتعيّن على العامة ومن في حكمهم أن يسألوا من يوثق بعلمه ودينه، وأن

يحذروا من يتبع الرخص وانتقاء آراء العلماء التي تتفق مع شهواتهم؛ فإن الله

تعالى بالمرصاد، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

واللهَ اللهَ في الحذر من علماء السوء ورؤوس الضلالة الذين يُلبِسون الحق

بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.

وننتقل إلى صنف الملوك، وما حصل من تأليههم واتخاذهم أوثاناً تُعبَد من

دون الله تعالى فاستعبد أولئك الملوك سائر البشر طوعاً وكرهاً، وما وقعوا فيه من

تسلط واستبداد.

وتأليه الحكام ظاهرة قديمة في حياة البشر، فكانت الأكاسرة ملوك الفرس

يدّعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم بوصفهم آلهة،

ويرونهم فوق القانون وفوق الانتقاد وفوق البشر، ويعتقدون أن لهم حقاً على كل

إنسان، وليس لإنسان حق عليهم [21] .

ومثال آخر: ما يجري في بلاد الهند من الطبقية الجائرة بين أصناف الهنود؛

فلقد كان نظام الطبقات في الهند أشد قسوة واستهانة بكرامة الإنسان من سائر

الأنظمة، فكانوا يجعلون «البراهمة» الطبقة الممتازة، وأنهم صفوة الله، وهم ملوك

الأرض، وأن ما في العالم هو ملك لهم؛ فإنهم أفضل الخلائق وسادة الأرض [22] .

وكان تقديسهم هذا النظام الطبقي البغيض مانعاً لهم من الدخول في دين

الإسلام كما قال البيروني (ت 440هـ) : «وللهند في أيامنا من ذلك أوفر

الحظوظ [23] حتى إن مخالفتنا إيّاهم وتسويتنا بين الكافة إلا بالتقوى أعظم الحوائل

بينهم وبين الإسلام» [24] .

ومع تهافت هذه الوثنية السياسية عند الفرس والهند، إلا أن هذه الأمة قد

تتبعت سنن تلك الأمم الغابرة، فوقعت في تأليه الملوك والغلو فيهم.

ومن ذلك: دعوى أن الإمامة أهم مطالب الدين، وأشرف مسائله وغاياته [25] ،

مع أن الإمامة ليست مقصودة لذاتها، بل إن المقصود منها وكذا جميع الولايات

أن يكون الدين كله لله عز وجل وإصلاح دين الخلق.

قال الطيبي في شرحه لحديث «ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» :

«في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبه لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه

المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه» [26] .

وقال ابن القيم رحمه الله: «وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر» [27] .

ومن مظاهر تأليه الملوك: طاعتهم في كل شيء، ودعوى أنه لا حساب

عليهم ولا عذاب! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكثير من أتباع بني أمية أو

أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم

على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم

بذلك، وكلامهم في ذلك معروف كثير.

وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز فجاء إليه

جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه إذا ولَّى اللهُ على الناس

إماماً تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات.

ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقاً وأن من

أطاعه فقد أطاع الله؛ ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال:» طاعة شامية « [28] .

ومن مظاهر ذلك الغلو: ما يفعله ملوك الجور من الاعتراض على الشرع

المنزّل بالسياسات الجائرة وتقديمها على حكم الله ورسوله، وتعطيل شرع الله

وعدله وحدوده [29] .

قال أبو الفرج ابن الجوزي في بيان أن ذلك الاعتراض من تلبيس إبليس

وكيده:» إنه يحسِّن لهم العمل برأيهم فيقطعون من لا يجوز قطعه، ويقتلون من لا

يحل قتله، ويوهمهم أن هذه سياسة. وتحت هذا المعنى أن الشريعة ناقصة تحتاج

إلى إتمام ونحن نتمها بآرائنا، وهذا من أقبح التلبيس؛ لأن الشريعة سياسة الإلهية

[30] ومحال أن يقع في سياسة الإله خلل يحتاج معه إلى سياسة الخلق، قال الله

تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ] (الأنعام: 38) ، وقال: [لاَ مُعَقِّبَ

لِحُكْمِهِ] (الرعد: 41) ، فمدعي السياسة مدعي الخلل في الشريعة، وهذا يزاحم

الكفر « [31] .

وصدق ابن الجوزي رحمه الله فقد أكمل الله تعالى هذا الدين، وأتم النعمة،

ونزّل كتابه تبياناً لكل شيء، وعلّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمته كل شيء، فلا

حاجة إلى تلك السياسات الجائرة فضلاً عن تقديمها على الشرع المطهر.

وهذه السياسات إنما ظهرت بسبب الإعراض عن شرع الله والتفريط في اتِّباع

دين الله تعالى كما كشف ذلك ابن تيمية بقوله:» وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعاً

من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فلو

قبضوا ما يسوغ قبضه، ووضعوه حيث يسوغ وضعه، طالبين بذلك إقامة دين الله، لا رياسة نفوسهم، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع، والقريب

والبعيد، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم العدل الذي شرعه الله، لما احتاجوا إلى

المكوس الموضوعة، ولا إلى العقوبات الجائرة، ولا إلى من يحفظهم من العبيد

والمستعبدين، كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء

بعض الأقاليم « [32] .

ومن صور المبالغة والغلو في الملوك: نعتهم بالألقاب الرنانة، والأوصاف

المفتعلة التي تخرجهم عن دائرة البشر وتضفي عليهم تأليهاً وتقديساً.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:» إن أخنع اسم عند الله رجل

تسمى ملك الأملاك؛ لا مالك إلا الله « [33] .

فما بالك بمن تجاوز ذلك بمراحل! كما في رسالة كتبها السلطان سليمان

القانوني؛ حيث قال:» سلطان السلاطين، وملك الملوك، ومانح الأكاليل لملوك

العالم، ظِلُّ الله في الأرض، باشاده، سلطان البحر الأبيض والأسود.. و.. .

و.. وبلاد شتى فتحها أسلافنا العظام، وأجدادنا الفخام بقواتهم الظاهرة، وكثير من

البلاد التي أخضعتها عظمتي الملوكية بسيفي الساطع « [34] .

لقد كان العامة فضلاً عن الخاصة في العصور السابقة يمقتون تلك المبالغات

في الألقاب، حتى أن جلال الدين لما لقب بـ (شاهنشاه) أي ملك الملوك سنة

429 هـ وأمر الخليفة بذلك، فخطب له به، فنفر العامة ورموا الخطباء

بالآجُرِّ [35] .

وقد سطّر شيخ الإسلام ابن تيمية فتوى متينة في شأن الألقاب، وخلاصتها ما

يلي:» وأما الألقاب: فكانت عادة السلف الأسماء والكنى.. وكان الأمر على ذلك

في القرون الثلاثة، فلما غلبت دولة الأعاجم لبني بويه صاروا يضيفون إلى الدولة

فيقولون: ركن الدولة، عضد الدولة.. ثم بعدها أحدثوا الإضافة إلى الدين وتوسعوا

في هذا، ولا ريب أن ما يصلح مع الإمكان هو ما كان السلف يعتادونه من

المخاطبات والكتابات؛ فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه، وإن اضطر إلى المخاطبة

خوفاً من تولُّد شر إذا عدل عنه، فليقتصر على مقدار الحاجة.

ولا ريب أن هذه المحدَثات المنكرة التي أحدثها الأعاجم، وصاروا يزيدون

فيها فيقولون: عزّ الملة والدين، وعزة الملة والحق والدين، وما أكثر ما يدخل في

ذلك من الكذب المبين، بحيث يكون المنعوت بذلك أحق بضدّ ذلك الوصف، والذين

يقصدون هذه الأقوال فخراً وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم الله ويسلّط

عليهم عدوهم « [36] .

ويعلِّق الشيخ محمد الغزالي على ألقاب سليمان القانوني قائلاً:» ليس

للسلطان سليمان ولا لغيره من الحكام أن يضيفوا إلى أسمائهم هذه المجموعة الفريدة

من الألقاب المفتعلة والأوصاف التي أُخِذَ أكثرها من الصفات الإلهية المقدسة إلى أن

قال: والتجرد من ألقاب القداسة ومظاهر الأبهة قصد به الإسلام أن يجعل من

الحاكم رجلاً يؤخذ منه ويرد عليه، وتنقد تصرفاته كلها، فما كان منها صواباً أُقِرَّ،

وما كان منها من خطأ رُدَّ عليه ولا كرامة.

والدول التي نضجت كرامتها السياسية ألغت الألقاب إلغاءاً تاماً.. أما في

الشرق فلا تزال الألقاب تحكم على الناس بالهوان وتحكم على أصحابها بالغرور،

ومن الواجب فك آصارها ومحو أغلالها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015