نقد
قراءة في فكر مالك بن نبي
-4-
محمد العبدة
كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عند مالك بن نبي مقدمة للبحث عن
العلاج، أو للبحث عن أسس النهضة، وكيف تبدأ؟ ومن أين تبدأ؟ إن بلداً مثل
اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر [1] وهي نفس الفترة التي بدأ
الحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع) ؟ .
السبب برأى مالك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية
محددة للأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل. (فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي
وجدنا فيها حسن النية، ولكنا لانجد فيها رائحة منهج) [2] (وليس هناك تحليل
منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضه فاشتد في الجري نحو الصيدلي
-أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام) [3] (وواقعنا الآن
إما فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري) [4] .
لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق، فليس هناك دراسات
عميقة وتحليلية لأمراض المسلمين، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم
والأهم، وكل الدراسات تأخذ جانباً من الجوانب تركز عليه والحل الأحادي هو
الغالب، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمام الهجوم الغربي
الاستشراقي على الإسلام [5] ، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل،
غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا
لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.
والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جيدة مثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد
منها كثيراً ولم تنقح ويؤخذ الايجابي منها، ويبنى عليه، وكذلك الذين جاءوا من
بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهم وآرائهم، وكأنما كل من يأتي يريد
البدء من الصفر، بل نستطيع القول: إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في
مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.
وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي
عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب
لأن يستنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها
القرآن [6] ، فعندما يقول سبحانه: [ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] نجد الصحابة
يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى
كلمة [وَاباً] من آية [وفَاكِهَةً وأَباً] فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل
يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر -رضي الله عنه- يقوم بعمل علمي
طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن،
وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [7] .
وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون
الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل
نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان
بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف
غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.
والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم. وإذا كان للمنهج هذه الأهمية (فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً
(الاستعمار والقابلية للاستعمار) ، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية
مشكلة مزيفة) [8] .
لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة
لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي
من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة
الإسلامية.
الاستعمار والصراع الفكري:
إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على
العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول
إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.
ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب
(الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث
والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك
جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير
وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى
الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال
سياسة [9] ، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين
الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري) [10] بينما نجد
في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء
والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار. ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن
تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول: «إن الأوربي يحب
عالم دون بشر» ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته
لكان هوالصواب [11] .
وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما
يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع
الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري « [12] .
وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب
نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون
ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة) .
(ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته) [12] . وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.
يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول:» انعقد في باريس مؤتمر
العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر
توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن
أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار
المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت (شمس الله تشرق
على الغرب) وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها
للمؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات إلى أبهة وأمجاد الماضي
الخلاب « [13] .
ومن وسائله الماكرة، التي لا يزال يتقن استعمالها رميه للمسلم بشتى
الاتهامات، بل يحاول الإيحاء بأن المسلم منبوذ القرن العشرين، وفي هذه الحالة
يصبح سلوك المسلم ردود أفعال، وترفع عنده توتر طاقات الدفاع حتى يكون في
حالة توتر شاذة، ويعيش إما مُتهِماً أو مُتَهماً، وفي هذه الظروف فإن مختبرات
الاستعمار تصرف كل إمكانيات المسلم إلى معارك وهمية، يُسمع فيها قعقعة السلاح
ودوي الحرب ولكنها معارك مع أشباح، والمسلم يظن أنه انتصر ويرتاح نفسياً،
والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية كتلك التي خاضها
الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو، والمشكلة ليست في
الدفاع عن الإسلام ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم [14] .
لقد تدخل الاستعمار في كل شيء حتى لا يترك فرصة لأي بعث إسلامي،
فكانت الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تعين المفتي والإمام لا طبقاً لمشيئة
جماعة المسلمين بل تبعاً لهوى المستعمرين، وبذلك تجمع في يدها أنفذ وسائل
الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في المسجد لا يكون بناء على تميزه بضمير حي
أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدمه للإدارة من خدمات، حتى كأنه
(جاويش) صلاة، ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين مما يقض مضاجع
أصحاب العقائد من المؤمنين لما يرون من أحداث غاية في الفساد: إمام جاسوس،
ومفت فاسد، وقاض مرتش، وغاية الاستعمار أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة، وبذلك يكدس العقبات والعوائق على طريق النهضة الإسلامية) [15] .
دور الاستشراق:
كان للمستشرقين دور بارز في محاولة تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي
والطعن في الإسلام نفسه، ولكن مالك بن نبي يركز على ناحية معينة في إنتاجهم
كان لها أثر نفسي سيء في أذهان المسلمين. فبعض المستشرقين خلطوا في كلامهم
بين المدح للإسلام وبين وضع السم في الدسم، هذا المدح جعل بعض المسلمين
يستسلمون لنزعة الفخر والعيش مخدرين على أمجاد الماضي، وكل من أراد الدفاع
عن الإسلام استشهد بكلام لأحد المستشرقين، (وهكذا يتبين لنا أن الإنتاج ... الاستشراقي بكلا نوعيه (المادحون والمفندون) كان شراً على المجتمع ... الإسلامي) [16] (وعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، ربما يؤدى بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بسطحية نشاهد أثرها في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري) [17] وهو التفسير الذي حول القرآن إلى مادة للعلوم، والقرآن يوجد المناخ العقلي والنفسي للروح العلمية وليس هو كتاب جغرافيا أو فلك أو أحياء..
وأخيراً لابد أن نعلم أن المكر السيء يحيط بأهله (فالاستعمار الذي يهلك
المستعمَرين مادياً يهلك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ أسبانيا منذ
اكتشاف أمريكا) [18] (إن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار
الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها
ووعيها) [19] .
ويجب أن نعلم أيضاً أنه رغم كل هذه العوائق، استطاع المسلم التفلت من
الأنشوطة التي أراد الاستعمار عقدها حول عنقه، فما زالت فطرته وإسلامه يعطيانه
القوة والدافع لتلمس الطريق الصحيح.
ما هي نقطة البدء؟ ...
الإقلاع:
الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه المسلم هو نقطة البدء، هذا الإيمان الذي
يعطيه قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب التي
تعترضه، ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة (فالروح وحدها هي التي
تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت
لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية) [20] (فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، ويفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية [21] والمسلم الذي يصل إلى درجة (التوتر الروحي) يشعر بالسعادة الغامرة عندما يبني أول مسجد في المدينة ويحمل (لَبنِتَيْن) بدلاً عن واحدة) وفي هذه الحالة الروحية صبر بلال - رضي الله عنه - ولم تستطع قوة في الأرض أن تخفض إصبعه وهو يقول: (أحد، أحد) [22] .
هذا الإيمان يصنع المعجزات، عندما تختفي الأنانيات ويشترك الجميع عن
طواعية في بناء حضارة، وفي المجتمع الإسلامي الأول كان المنافقون وحدهم
يتخلفون عن أي عمل فيه تعب أو نصب، وكل الكتب والمحاضرات والخطب لا
تكفي لإنشاء أمة لا ترتفع إيمانياً وأخلاقياً إلى درجة عالية، كما جاء في الحديث
عن جندب بن عبد الله قال:» تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن
فازددنا به إيماناً « [23] .
والقرآن الكريم وضع ضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى
ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف وهذان الحدان ينطبقان على مفهوم الآيتين
الكريمتين:
أ-[فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] .
ب-[إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] .
وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال الذي يبذله
مجتمع طبقاً لأوامر رسالة [24] .
يقول الدكتور (الكسس كاريل) معبراً عن هذه الحقيقة: (فالأمل والإيمان
والحمية تؤثر في الجسم تأثير البخار في العجلة المحركة) [25] (وإذا نجحت
إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى
جانب العناصر المنطقية، إن الإيمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وليس العقل، والذكاء يكتفي بإنارة الطريق ولكنه لا يدفعنا إلى الأمام) [26] .
هذه الطاقة الإيمانية جعلت الفرد المسلم في عصر النبوة يقسم ثروته مع أخيه
الذي هاجر إليه، فالمؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار هي أول عمل
تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ولولا قوة شبكة العلاقات الاجتماعية لما
استطاع المجتمع الإسلامي الإقلاع باتجاه حضارة، وفي حالة تمزق هذه العلاقات قد
توجد العوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) ولكنها لا تغني شيئاً، وقد
يكون هناك مسلمون متحمسون وهناك أفكار ولكن الشبكة ليست قوية.
إن قصة المؤاخاة ليست خيالية، ولا هي أقرب للخيال، فالإسلام دين واقعي، وليس صعباً أن يحقق المسلمون شيئاً من هذه (المؤاخاة) ، والآن توجد (إخوة
إسلامية) خطابية وعظية ولكن لا يوجد (مؤاخاة) عملية فعلية، من هنا المنطلق، ...
ومن هنا البداية.
(يتبع)