دراسات منهجية في النظر والاستدلال
أهمية أصول المعرفة في الإسلام
- 1 -
د. عابد السفياني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإن لكل قوم نظرية معرفية يتخذونها طريقاً للوصول إلى ما يجب عليهم
اعتقاده والعمل به، سواء أدركوها إدراكاً كاملاً وكتبوها ونشروها للناس، أم
احتسبُت في أذهانهم وتصرفوا بموجبها، ولنضرب بعض الأمثلة التي تبين
المقصود:
إن من أصول (العلمانية) [1] أن الحياة العامة في الدولة والمجتمع لاتحكم
بأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما تحكم بأي نظام آخر من الشرائع التي يضعها
الإنسان بنفسه، وترتب عندهم على تقديم (القوانين الوضعية) على (الشريعة
الإسلامية) أن اعتقدوا أن الحكم بما أنزل الله فيما يخص هذه الأمور ليس واجباً،
وزينوا عقيدتهم المنحرفة بثلاث شبه:
الأولى: أن الدين الواجب التزامه إنما هو النطق بالشهادتين وأداء الشعائر،
وهذا مخصوص بقيد آخر معروف في القوانين الوضعية ألا وهو: جعل هذا الإلزام
على الاختيار إن صح التعبير ومعنى ذلك أن من أراد أن يلتزم بذلك فله ما أراد،
ومن لم يرد فلا حرج عليه، فإن (القانون) لا يعاقب على جريمة الردة، فآل الأمر
في النهاية إلى أن الدين الواجب التزامه هو ما اختاره الإنسان من الملل المتعددة،
حتى وإن كان كفراً بعد إسلام، وليس عليه من شرط إلا الالتزام بالقانون الوضعي
الذي تعمل به الدولة التي يعيش فيها.
فإن كان من أهل الإسلام فحكمه في القانون الوضعي أن يتصرف في أموره
الخاصة حسب أحكام دينه أي الشريعة الإسلامية، أما في الأمور العامة فلا يحق له
الخروج عن أحكام القانون الوضعي المعمول به في الدولة التي يعيش فيها. ...
الثانية: يسلم بعض (العلمانيين) محافظة على شعور المسلمين بأن ما ورد
في الشريعة الإسلامية ملزم جملةً وتفصيلاً للدولة والمجتمع إلا أنهم ينكصون على
أعقابهم فيقولون: إن ما ورد فيها حق وصدق وملزم، ويجب التحاكم إليه، ولكن
ليس ملزماً لنا وإنما هو ملزم لمن نزل عليهم القرآن أول مرة، أما أوضاعنا
المعاصرة فتحكم بمطلق المصلحة، وليس منها بالطبع شيء من أحكام الشريعة،
اللهم إلا ما سبقت الإشارة إليه وهي الأحكام الخاصة، أو ما تسمى في مصطلح
القانون الوضعي (الأحوال الشخصية) .
الثالثة: يعتقد بعض العلمانيين إمكان تغيير الشريعة الإسلامية وتطويرها
لتصبح في نهاية الأمر هي (القوانين الوضعية) ويزعمون أن ذلك ممكن جداً، لأن
أحكام القانون تسعون في المئة منها موافقة للشريعة الإسلامية، ويمكن تطويع ما
بقي بعد ذلك.
وهذه الشبه أثارها الاستشراق أولاً، ثم وزعها في العالم الإسلامي، وتلقفها (العلمانيون) فيه، وخدعوا بها كثيراً من المسلمين، وتبناها كتاب كثيرون في الدراسات الإسلامية [2] ، وهذه الشبه كما ترى انتجت ذلك الأصل الفاسد، وأصبح طريقاً غير موثوق به، لأنه استبعد الشريعة الإسلامية، ورفض حاكميتها في المرحلة الحالية التي تعيشها البشرية، وهذا قدر مشترك بين العلمانيين في أوربا والعلمانيين في العالم الإسلامي، ويتفاوتون بعد ذلك في أمور أخرى، ونستطيع أن نكشف عن هذا القدر المشترك، ونتبينه إذا تابعنا سوياً بعض جوانب الشريعة الإسلامية وموقف العلمانيين منها:
أولاً النظام الجنائي:
ويشمل الحدود والقصاص والتعازير ... فإن موقف العلمانيين -التزاماً
بأصلهم في المعرفة- أن لا يُسمع في هذا من الشريعة الإسلامية شيء، فضلاً عن
أن يعمل به، فالأمور العامة -كما يقول أصلهم في المعرفة- يحكمها كل نظام
بشرط أن لا يكون إسلامياً، ولا بأس على الدول العلمانية أن تحتكم إلى القانون
الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو البريطاني أو الأمريكي ... ولا بأس في
الاختلاف في عملية الاختيار في مثل هذا مادام أن العلمانيين متفقون على إبعاد
الشريعة الإسلامية عن هذا الجانب، ولكل دولة بعد ذلك أن تختار أيضاً من دركات
الانحراف عن الفطرة السوية ما تريد [3] .
ثانياً النظام الاقتصادي:
ومعلوم موقف (القوانين الوضعية) من الربا فإنها اجتمعت على تحليله ونشره
بكل طريق، ويحسن بنا أن نربط بين العلمانيين في أوربا والعلمانيين في العالم
الإسلامي، فنقول: إن الربا كان محرماً في الدين النصراني، وقد تحايل اليهود
على تحليله ونشره بين النصارى رغبة منهم في إبعاد النصارى عن بعض ما كانوا
مستمسكين به من شرائع سماوية.
ولقد ثبت في الشريعة الإسلامية أن (الربا) كان محرماً على أتباع الأنبياء -
عليهم السلام- ومنهم أتباع عيسى -عليه السلام-، فالحرمة إذاً ثابتة للربا في جميع
الشرائع التي أرسل بها رسله جميعاً، ولكن (العلمانيين) في كل مكان رفضوا
الاحتكام إلى هذه الشرائع [4] ، وإن مما ساعد على تحليل الربا ونشره في أوربا
موقف الكنيسة المنحرف عن الدين، وعدم وجود (البديل) الذي يمكن أن تسير
الحياة العلمية على أساسه.
أما في العالم الإسلامي فإن البديل هو منهج الاقتصاد الإسلامي، وهو موجود
فعلاً، بل هو الأصل التي كانت تحتكم إليه المجتمعات الإسلامية طيلة أربعة عشر
قرناً، ولكن اجتماع العلمانيين في كل مكان على نصرة (القوانين الوضعية) ،
وعلى تصدير أصلهم في المعرفة وتعاونهم على ذلك جعل هذه الشعارات تستقر في
العالم الإسلامي ومنها: (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ، ولا دين في السياسة
ولا سياسة في الدين [5] .
ومقتضى هذا الأصل المعرفي المنحرف أن الأحكام في الأمور العامة هي
شريعة قيصر أي القوانين الوضعية، وليست هي الشريعة الإسلامية، هذا هو
أصل العلمانيين الذي يسعون إلى التمكين له قولاً وعملاً.
ثالثاً النظام الأخلاقي:
إن ثورة العلمانيين في أوربا وفي العالم الإسلامي على النظام الأخلاقي
متشابهة جداً.
فلقد قال العلمانيون في أوربا ما للأخلاق والدين، ونادوا بإخراج المرأة عارية
الساقين، حاسرة الرأس، وأن تتخذ الأصدقاء، وترقص في المسارح، وإذا قلت
لهم إن الدين لا يقبل ذلك، قالوا: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أصل معرفي
يتحجون به عند الخصومة والنزاع.
وكذلك العلمانيون في العالم الإسلامي ما زالوا ينادون بذلك، ولا عليهم من
النتائج الخطيرة التي تترتب على ذلك، من فساد فطرة المرأة، وضياع بيتها،
وأطفالها، وتدمير مجتمعها بإفساد النوع الإنساني، كل ذلك لا يهمهم، المهم أن
تخرج المرأة بدعوى الاستفادة من طاقات المجتمع، وهم أول من يعلم أن المجتمع
قد ازدحم بكثير من الشباب الذين لا يجدون عملاً، ونرى كثيراً من المصلحين
يسعون لاستثمار طاقات الشباب المعطلة والاستفادة من أوقاتهم المهدرة، وتارة
يُوفقون في ذلك، وتارة لا تسعفهم الفرصة لتحقيق هذه الأهداف النبيلة التي يستفد
منها الشباب والمجتمع في آن واحد، أما الذين شُغلوا بقضية المرأة، فهم لا
يتعاطفون مع هؤلاء المصلحين، وحرصهم على الاستفادة من طاقات المرأة أكثر
من حرصهم على الاستفادة من طاقات الشباب، وهم أول من يعلم أن الشباب هم
الذين يتضررون من البطالة، ويتضرر معهم المجتمع، أما المرأة فإن المجتمع إذا
كان سوياً ومحافظاً على فطرته الإنسانية من وجود زواج، وأسر، وأبناء، فإن
المرأة هي قاعدة البناء فيه، ولا نتصور أن تقع في البطالة، ولا يمكن أن نقحمها
في تلك الأعمال التي أقحمها فيها (العلمانيون) في أوربا فأفسدوا البيت والشارع معًا، ... وهكذا يريد إخوانهم في العالم الإسلامي، أن يسلكوا طريقهم، ويبنوا على أصلهم
الفاسد ويدلِّسوا على الناس بأنهم لا يعارضون الدين، ومن المعلوم أن هؤلاء الذين
أصروا على إخراج المرأة قد فشلت تجربتهم، ومازال حكماء أوربا يشكون من
فساد هذه التجربة [6] ، ولكن العلمانيين في العالم الإسلامي مازالوا حريصين على
بقاء هذه التجربة الفاشلة وانتشارها، ويصرون على إبعاد (حكم الشريعة الإسلامية) عنها.
وينبغي للبصير أن يتأمل في مواقف المخالفين من قضية المرأة ومن النظام
الاقتصادي والنظام الجنائي، لتنكشف له حقيقة مهمة طالما أراد كثير من المخالفين
إخفائها والتستر عليها.
إن (العلمانيين) في العالم الإسلامي، كما هو معلوم لا يقولون إن محمداً -
صلى الله عليه وسلم- ليس بنبي ولا رسول، ولا يقولون إن القرآن ليس هو كتاب
الله، ولا ينكرون اليوم الآخر، ولا يرفضون النطق بالشهادتين، ومنهم من يصلي
ويصوم ويحج ...
وإذا أردت أن تتحقق من الخلاف بيننا وبينهم فارجع إلى ذلك الأصل المعرفي
الذي سبقت الإشارة إليه ينكشف الأمر لك بجلاء، فتجده أنه خلاف على قبول
حاكمية الشريعة الإسلامية في الأمور العامة في الدولة والمجتمع، واتفاق نسبي في
قبول ما جاءت به في الأمور الخاصة (الأحوال الشخصية) ، والصلاة والصيام
والحج.
وإذا قيل لهم: كيف جعلتموها مصدراً في هذه الأمور دون تلك، ولماذا لا
يكون أصلكم في المعرفة هو قبول ما جاءت به جملة وتفصيلاً، أليس الذي جاء بها
محمد -عليه الصلاة والسلام-، والذي أرسله بها هو الله خالق السموات والأرض،
قالوا: بلى! !
وإذا قلت لهم من هو الحكم العدل، ومن هو العليم الخبير، ومن هو الذي في
السماء إله وفي الأرض إله؟ فسيقولون: الله، فقل أفلا تقبلون حكمه في (النظام
الجنائي) ، وفي النظام الاقتصادي، وفي النظام الأخلاقي....، فأنى تؤفكون.
[أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ] [7] .