وقفات
(2-2)
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
في المقالة السابقة تحدثت عن أهمية القراءة ومكانة القرَّاء، وذكرت آفتين من
آفات القراء هما: (قلة الصبر على القراءة والمطالعة) ، و (ضعف التركيز) .
وفي هذه المقالة أذكر الآفة الثالثة بإذن الله تعالى.
الآفة الثالثة: ضعف المنهجية في القراءة:
المكتبة الإسلامية مليئة بحمد الله تعالى بالإصدارات العلمية في مختلف فنون
العلم والمعرفة، وتحتوي على حصيلة كبيرة من الكتب والدراسات والأبحاث التي
جاءت نتيجة جهود تراكمية متتابعة ومستفيضة تنمو عبر السنين.
ويختلف هذا الإنتاج قوة وضعفاً، وأصالة وتقليداً، ولا يستطيع المرء مهما
أوتي من ملكات وقدرات أن يغطي جزءاً يسيراً من ذلك النتاج الضخم.
وقد يحار القارئ المبتدئ خاصة من أين يبدأ؟ ! وكيف يبدأ؟ ! ولذا كان
الواجب على القارئ أن يرسم لنفسه منهجية واضحة للقراءة يدرك من خلالها إلى
أين يسير.. وما أهدافه؟ ! ولعلِّي أذكر ها هنا الملحوظتين الآتيتين:
الأولى: بناء القاعدة العلمية:
إن ترتيب الأولويات من أهم المسائل التي تعين المرء على النجاح بشكل
عام، ويتأكد ذلك في أولويات القراءة، وقديماً قال أبو عبيدة: (من شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم) [1] . وكم أحزن على ذلك الشاب الذي لم يستقم عوده، ... ولم يشتد ساعده، ثم أراه يلقي بنفسه في بحر متلاطم الأمواج كيف يبحر فيه؟ ! وقد رأينا شباباً لم يقرؤوا بعدُ (كتاب الأربعين النووية) ، ثم تراهم يعزمون على قراءة (فتح الباري!) وأشباهه من كتب العلم. وجميل أن توجد هذه الهمة، لكن أحسب أن مآل هؤلاء في النهاية إذا لم يتداركهم الله بفضله: الشعور بالإحباط والعجز، ثم الملل والسآمة؛ لأنهم لم ينموا نمواً طبعياً يتدرجون فيه في درجات العلم بتدرج فهومهم وبصائرهم.
ونظير ذلك من يبدأ بقراءة ما يسمى بـ (الكتب الفكرية) المتقدمة، دون أن
تكون له حصيلة شرعية يميز فيها بين الغث والسمين، ودون أن يبدأ بالكتب
الفكرية الميسرة التي تكمل بناءه العلمي والثقافي.
والواجب أن يحرص القارئ في بداية الطلب على بناء القاعدة العلمية التي
يبني فيها مداركه العقلية وملكاته العلمية بناءاً راسخاً متيناً.
وبناء القاعدة العلمية يتطلب من القارئ جهداً كبيراً؛ فهو يأخذ من كل فرع
من فروع العلم الرئيسة كتاباً أصيلاً يدرسه دراسة تفصيلية، ولا ينتقل منه إلى
كتاب آخر إلا بعد أن يتقن أبوابه، ويعرف قواعده وفنونه، ثم إذا قرأ كتاباً آخر في
الفرع نفسه كان كالبناء على تلك القاعدة والأساس.
والقدرة على اختيار الكتاب المناسب لها دور بارز في اختصار المسافات في
طريق القارئ الطويل. وكم من قارئ قد ضلَّ الطريق وحرم الوصول؛ لأنه أراد
أن يصعد السطح بلا سلم، أو أراد أن يبني داره على أرض هشة غير مستقرة،
ومن المفيد هنا التأكيد على أهمية استشارة أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة
لمعاونة القارئ المبتدئ في ترشيح الكتب المناسبة له، وقديماً سئل (فولتير) عمن
سيقود الجنس البشري؟ فأجاب: (الذين يعرفون كيف يقرؤون) [2] .
ومن اللطائف العجيبة أن ابن الجوزي كان يتكلم عن ضرورة ترتيب
الأولويات لطالب العلم، ثم يقول: (قد علم قصر العمر وكثرة العلم، فيبتدئ
بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صحَّ له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول
الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث
كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك) [3] ثم ساق ابن الجوزي
علوماً يبدأ بها طالب العلم في عصره، قد يعجز عنها بعض المنتسبين إلى العلماء
في عصرنا..!
الثانية: بناء القاعدة الفكرية:
ها هنا معضلة يقع فيها كثير من القراء، وهي أنه في أثناء القراءة لا
يحرص على بناء فكره، وإحياء قدراته العقلية ولا يستحثها للنظر والتأمل، وإنما
يقع أسيراً ينتظر التلقين من المؤلف، ويقف دائماً موقف المتلقي، ومثل هذا وإن
حصل كمّاً من المعلومات فإنه ليس قارئاً جيداً؛ لأنه لا يملك البصيرة ولا القدرة
على التمييز والموازنة بين اجتهادات العلماء والمفكرين. (فالتفكير هو الذي يجعل
ما نقرؤه ملكاً لنا) [4] .
ونظير ذلك من يعتني بالحفظ وحده، ولا يلتفت إلى الفهم. والحفظ على
الرغم من أهميته وضرورته؛ فإنه لا ينبغي الاكتفاء به، بل يجب تسخيره لخدمة
الفقه والفهم، وقديماً عتب الإمام أحمد على بعض المحدثين بقوله: (ما أقل الفقه في
أصحاب الحديث) [5] ، ومن لطائف الأخبار في هذا الباب ما ذكره إسحاق بن
راهويه حيث قال: (كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين
وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل) [6] .
إن بناء القاعدة الفكرية للقارئ من أشق المهمات التي تواجه القارئ الجاد؛
فليس كل كتاب يمكن أن يبني فكر الإنسان، حتى بعض الكتب المفيدة التي قد
يستفيد منها القارئ مادة علمية قد لا يخدم ذلك البناء؛ وما أحسن قول الإمام ابن
القيم: (الفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة) [7] ، وهنا يأتي دور
المعلمين والمربين في توجيه طلابهم والأخذ بأيديهم في الطريق القويم. وقديماً كان
بعض العلماء يربي فكر الطالب ببعض مسائل الحساب والفرائض، ويحاوره
بعويص المسائل، وهذا منهج نبوي أصيل في التربية والتعليم؛ فها هو ذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها،
وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟) [8] .
وبهذا يتبين أن القراءة الجادة هي قراءة التفهم والبصيرة والإدراك، ونعمة
الفهم من أجلِّ النعم التي ينعم الله تعالى بها على العبد، و (رُبَّ شخص يفهم من
النص حكماً أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مئتين) [9] . وكم جرَّ سوء الفهم
على صاحبه من الخلل والاضطراب؛ وما أحسن قول الإمام ابن القيم: (ما أكثر
ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة) [10] .