المسلمون والعالم
(سيادة) الدولة.. أم (سيادة) العولمة؟ !
حسن قطامش
بعدما حصل (فوكوياما) الياباني على الجنسية الأمريكية كتب لهم (نهاية
التاريخ) وقال: إن التاريخ سينتهي عند النموذج الأمريكي، وعندما أوصلت
الولايات المتحدة (كوفي عنان) إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، كتب لهم عن
(نهاية الجغرافية) .
كتب كوفي عنان مقالاً طرح فيه أفكار أولياء نعمته الذين أتوا به إلى مكانه
هذا، وهو فيما كتب لم يعدُ كونه ناقلاً للأفكار التي تريد الولايات المتحدة إيصالها
إلى العالم الذي مازال فيه من يصدق ويعترف بفوقية الشرعية الدولية! ! ...
يقول عنان: إننا في حاجة لملاءمة نظامنا الدولي بتصورة أفضل مع عالم فيه
فاعلون جدد ومسؤوليات جديدة، إن سيادة الدولة بمعناها الأساس يتم إعادة تعريفها الآن على الأقل بوساطة قوى العولمة والتعاون الدولي، إن الحكومات تفهم الآن بشكل واسع بأنها أدوات في خدمة شعوبها، والعكس ليس صحيحاً. وفي الوقت ذاته فإن السيادة الفردية وأعني بها الحرية الأساسية لكل فرد التي تحظى بمرتبة القداسة ويحفظها ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية اللاحقة قد دعمها وعي منتشر ومتجدد بحقوق الفرد. وعندما نقرأ ميثاق الأمم المتحدة اليوم نعي أكثر من أي وقت مضى أن هدفه هو حماية الأفراد من بني الإنسان، وليس حماية من يظلمونهم ويسيئون معاملتهم.
إن شعارات السيادة التقليدية وحدها ليست العقبة الوحيدة تجاه عمل فعال في
الأزمات الدولية. كما أن الطرق التي تحدد بها الدول مصالحها القومية ليست بأقل
أهمية؛ فقد تغير العالم بشكل عميق منذ نهاية الحرب الباردة، بيد أنني أخشى من
أن مفاهيمنا عن المصلحة القومية لم تحذُ حذو هذا التغير؛ فهناك حاجة لوجود
تعريف جديد أشمل للمصلحة القومية في القرن الجديد، مما يستحث الدول على
إيجاد وحدة أكبر في السعي للأهداف والقيم العامة والمشتركة. وفي محتوى كثير
من التحديات التي تواجه الإنسانية اليوم نجد أن المصلحة الجماعية الشاملة هي
المصلحة القومية.
وإذا ما علمت الدول المصممة على انتهاج السلوك الإجرامي أن الحدود ليست
رادعاً مطلقاً وأن المجلس سيقوم بعملٍ مَّا لمنع أكثر الجرائم خطورة ضد الإنسانية
عندئذ لن تنخرط هذه الدول في مثل هذا المسار مفترضة أنها ستفلت بفعلتها دون
عقاب.
إنه لا توجد مادة في ميثاق الأمم المتحدة تقف حائلاً دون الاعتراف بوجود
حقوق فيما وراء الحدود! ! [1] .
فالإرادة الدولية ترسم خريطة جديدة للعالم تتوافق مع التطورات العالمية،
وهذه الخريطة الجديدة لن يكون بها حدود خاصة لكل دولة، بل سيصبح العالم كتلة
واحدة متعاونة متكافئة متوازنة متراضية مسالمة آمنة! !
وبالرغم من تلك الصورة المشرقة لهذه الخريطة إلا أن رئيس منظمة الوحدة
الإفريقية، الرئيس الجزائري، (بوتفليقة) ، أعرب عن عدم ارتياحه لما تخطط له
القوى الجديدة لتحقيق أهدافها السامية! ! ففي مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية
(أونكتاد) الذي عقد في بانكوك قال بوتفليقة مؤمِّناً على كلام عنان: إنه يجري حاليا
رسم خريطة جديدة للعالم.. يتم استبعاد قارة هي (إفريقيا) منها بوضوح
وببساطة
وقد يبدو العجب حين يتذكر المرء أن هذه القوى الجديدة التي تريد أن تزيل
جميع الحدود هي نفسها القوى التي رسمت الحدود ذاتها في بدايات القرن العشرين
الميلادي، والتي ما زالت آثار هذا الرسم قائمة حتى الآن بإشكالاته وخصوماته.
فما قصة هذه القوى مع الحدود؟
تزييف التاريخ:
التاريخ يصنعه الأقوياء، وهذا مسلَّم به، سواء كانت القوة حسية أم معنوية،
أما الضعف فليس له ثمر إلا التبعية والإذعان، والاستسلام والذلة، ومن هذا ...
المنطلق، وبمقتضى السنن الإلهية، فإن الأقوى يفرض ما تطغيه به قوته، وما تدفعه إليه مصلحته، دون النظر إلى اعتبارات أخرى، خاصة إذا كانت القوة مادية بحتة. وتقود الولايات المتحدة العالم الآن، ومع استفرادها بالسيطرة بعد انتهاء الحرب الباردة، أطغاها هذا الاستفراد، فراحت تبالغ في التطاول على العالم، وأطلقت عليه كلب الرأسمالية المسعور (العولمة) . بيد أن الولايات المتحدة في هذا السعي الجديد لم تقف عند حد تعديل الجغرافيا، بل سبقت ذلك بتزييف التاريخ، بدعوى أنها صاحبة رسالة إلهية مفوضة بها في هذا التغيير.
فهذا جورج واشنطن أول رئيس أمريكي في خطابه الرئاسي عام 1789م
يقول: (إنه موكل بمهمة عهدها الله إلى الشعب الأمريكي) ، وهذا ما قاله توماس
جيفرسون في خطابه الرئاسي عام 1801م: (الأمريكيون شعب الله المختار) وهو
ما يعني بلغة التوراة المحرفة صفوة العالم، لهم الحكم والهيمنة اختياراً أو قوة
وقسراً.
أما الرئيس (دوايت أيزنهاور) فقد خاطب أمته عام 1953م قائلاً: (لمواجهة
تحديات عصرنا حَمَّل القدر بلدنا مسؤولية قيادة العالم الحر) .
الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل (1819-1981م) قال: (نحن رواد العالم
وطلائعه، اختارنا الرب، والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير. لقد بات لزاماً على
أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة. نحن الطليعة تنطلق إلى البرية لتقدم ما لم يقدمه
الأوائل) .
(ألبرت بيفريدج) عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي ألقى خطاباً في مجلس
ولايته قال فيه: (إن الله لم يهيِّئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها
بكسل ودون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم! ! كي نتمكن من نشر النظام
حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية
الهَرِمَة، وبدون هذه القوة ستعم العالم مرة أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله
الشعب الأمريكي دون سائر الأجناس فهو شعب مختار يقود العالم أخيراً إلى تجديد
ذاته) !
أما المفكر والقاضي الأمريكي أوليفر وندل هولمز (1841 1935م) فيقول:
(الحق يمتلكه الشعب القادر على قهر الشعوب الأخرى) . وفي هذا السياق العولمي
نفسه قال هنري كابوت لودج: (الدول الصغيرة شيء من تراث الماضي الذي عفا
عليه الزمن ولا مستقبل لها) .
كما اعتبر الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية أنفسهم شعباً مختاراً
منذ قرون بقراءة كتابهم المقدس، إنهم بذلك النور والإرشاد للشعوب الأخرى؛
لأنهم الشعب المختار من الله؟ الفكرة الرئيسة: هي أن الله يساعد المختار، أما
نجاحُه فلا يبدو لنا مسوَّغاً في عيون الرب فحسب، بل والطرق المستخدمة لتحقيق
هذا النجاح يجب أيضاً أن تكون مسوَّغة! ! [2] .
وبهذا الادعاء للحق الإلهي في التصرف في شؤون العالم، وبأي طريقة كانت
راح الأمريكان يشوِّهون وجه التاريخ ويزيفون حقائقه.
العولمة.. ثور الرأسمالية الهائج:
الرأسمالية نظام اقتصادي ذو فلسفة اجتماعية وسياسية يقوم على أساس إطلاق
الحرية الشخصية للفرد فيما يعمل وفيما يكسب، وفيما ينفق دون حدود أو قيود،
ومن دون مراعاة لدين أو خلق، وتقوم على أساس تقديس الملكية الفردية، والبحث
عن الربح بشتى الطرق والأساليب، والمنافسة والمزاحمة في الإنتاج وفي
الأسواق.
وقد مرت الرأسمالية بثلاث مراحل مختلفة:
الأولى: تبدأ من نهاية القرون الوسطى وحتى عام 1917م، وكانت تتسم تلك
المرحلة باعتمادها على استنزاف موارد الدول الأخرى من خلال احتلالها
العسكري.
الثانية: ما بعد قيام الثورة الشيوعية عام 1917م وحتى انهيار المعسكر
الشرقي عام 1990م، وفيه حاولت الرأسمالية استخدام الأدوات التجميلية لوجهها
القبيح حتى تستطيع الاستمرار في مواجهة المعسكر الاشتراكي.
الثالثة: وهي التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي. وهنا ومع هذا الانفراد
عادت إلى طبيعتها الأولى من نهب موارد الدول وخاصة العالم الثالث، ولكن
بطرق أكثر إجراماً وخداعاً من خلال المؤسسات والمنظمات والاتفاقيات الدولية.
وكان هذا الطور الأخير هو طور (العولمة) ، والعولمة كما يريدونها هي
اتجاه العالم الآن ليصبح كياناً واحداً في كل المجالات، بدءاً من الاقتصادي وانتهاء
بالثقافي، ومروراً بالسياسي والاجتماعي.
هذه الإرادة الدولية الجديدة التي تحاول فرضها على الدول الضعيفة وأكثرها
إسلامية تقبلتها هذه الدول بالخوف، وعدم القدرة على المواجهة وذلك لعدة أسباب:
الأول: أن القوى الموجهة للعولمة هي قوى غربية (نصرانية ويهودية)
ولهذه القوى تاريخ عداء مع المسلمين ضارب في القِدَم، ولا ينتظر لمستقبله إلا
الزيادة في العداء [ «ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
[البقرة: 120] . ويقول تعالى: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: 2] .
ولم يكن الغرب أظهر منه، وأقوى على المسلمين من اليوم؛ فمع هذا الظهور لن يكون العداء إلا إلى زيادة الرغبة في الكفر، كما نصت آية الممتحنة.
الثاني: أن هذه الدول التي تقود هذه العولمة هي نفسها التي أتت بنارها
وحديدها لقتل المسلمين ونهب ثرواتهم والتنكيل بهم على مر عصور طويلة.
الثالث: أن العولمة لم تتحول بعدُ إلى نظرية مستقرة؛ فهي ما زالت في طور
التشكيل، والريبة من مراميها ما زالت كثيرة.
الرابع: حجم القوة المادية التي تمتلكها، بل وتحتكرها وتتحكم فيها،
فالتدفقات العالمية العالية، والتقنية الحديثة، والسيطرة على الموارد الطبيعية دون
ملكيتها بالضرورة والسيطرة على وسائل الإعلام، واحتكار أسلحة الدمار الشامل،
كل هذه جعلت حجم الخوف يتزايد لدى الدول الضعيفة.
الخامس: انفراد المعسكر الرأسمالي بالعالم، فلم يعد هناك شرق وغرب، بل
(غرب وغرب) .
لا عزاء للدولة:
إذا كانت الدولة عبارة عن مجموعة من الأجهزة، فيها ما يتكلف بالردع
والعنف والمراقبة مثل الجيش والشرطة والقضاء والسجون.. إلخ وفيها ما يختص
بالدعاية والتعبئة والتوجيه كالتعليم والإعلام والمؤسسات والأحزاب.. إلخ، فإن
الدولة تضطلع بالقيام بواجبها في الحكم والتحكم في الأفراد، والمكان الذي يحدها،
وهي التي تحتكر وسائل (العنف) إن جازت هذه التسمية التي تضمن من خلال
هذه الملكية التحكم في (العنف) وهي المسؤولة عن (الفرد) في القيام باحتياجاته
المادية والأدبية، كما هي مسؤولة عن حمايته، وحماية حقوقه المكفولة له.
كما أنها القائمة على مراقبة الأنظمة والمعايير التي تكفل ضبط المعاملات
المختلفة داخل الدولة، وبين الدولة وغيرها من الدول.
هذه الخصائص وغيرها يندرج تحت مسمى: (سيادة الدولة) ومع الدعوة
الجديدة المطروحة على لسان الأمين العام للأمم المتحدة من أن سيادة الدولة بهذا
المعنى يتم إعادة تعريفها بواسطة قوى العولمة الجديدة، فإن الدولة سوف تتحول
أمام هذه القوى إلى أداة لتيسير تحقيق تلك الأهداف.
لقد كان لما تملكه هذه العولمة أو تتحكم فيه كالمنظمات الدولية، المؤتمرات
الدولية، والشركات العملاقة، (العابرة للقارات) أو (متعددة الجنسيات) أو ...
التكتلات الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي، وحتى مشاريع السلام، كان لكل ذلك
الأثر البالغ في تغيير شكل الدولة بصورة كبيرة، وأصحبت (الدولة) دولة
كوميدية، أو دولة رخوة، لها المظاهر الخارجية لدولة ذات سيادة، ولها صورياً كل المهام التي كانت تقوم بها في السابق، لكنها في الحقيقة تقوم بعملية تكاد تنحصر في بيع مرافق الدولة، أو ما يسمى بـ (الخصخصة) .
فلم تعد الدولة قادرة على أن تشكل ملجأً أو حاجزاً آمناً ضد الاقتصاد المسيطر
على العالم، وأكثر من ذلك؛ فإن الدولة ذاتها تسعى للحصول على مكاسب مادية
من ظاهرة العولمة، بيد أن هذه الدولة التي تحاول التلاؤم باستمرار مع هذه
الظاهرة تجد نفسها ليست سوى وكيل في هذه العملية؛ فهي محاطة بقوى عالمية
تخرج عن نطاق سيطرتها، مما يضعف من قدرة الساسة والقادة على صناعة
القرار السياسي والاقتصادي؛ إذ يواجَهون بقوة الإنتاج العالمي والتمويل الدولي
وأعباء المديونية الخارجية مما يحد من فرص القادة المحليين في التركيز على
تحسين الظروف الوطنية في مواجهة الأشكال والممارسات التنافسية من الرأسمالية
المعولمة. وهذا ما يعبر عن أبرز مظاهر ضعف السيادة الوطنية للدول واختراقها
لعصر ما بعد الحرب الباردة [3] .
ولكن سيبقى الأمر الأهم في ذلك كله هو معرفة الهدف والمغزى من هذه
المحاولة لرسم خريطة جديدة للعالم، والقضاء على سيادة الدولة، وكيف تحقق لهذه
القوى إلى الآن إنجاز كثير من أهداف هذه الخطة؟
دين العولمة.. والدين:
تنطوي العولمة في أساسها على إلغاء كل السلطات وأعلى هذه السلطات هي
سلطة الدين؛ فكان سعي الرأسمالية الأهم متوجه إلى تنحية الدين، واستبداله بدين
العولمة، أو كما أطلق عليها البعض: (وحدانية السوق) [4] ، أو (عقيدة
العولمة) [5] .
ولقد كانت النقطة الأساسية التي استندت إليها العولمة في انطلاقها، هي حسم
الصراع مع الدين. تقول إحدى داعيات العولمة: (إن حسم الصراع بين الدين
والدولة كان يعني البعد بالدين عن استقلاله الذي يحقق من خلاله أهدافاً وأغراضاً
سياسية، كما أفاد هذا الحسم في استبعاد عوامل القهر والتعصب والجمود، ودحض
دعاوي الحكم بالحق الإلهي الذي روَّج له بعض رجال الدين لإحكام سيطرتهم على
الأفراد والمجتمع والدولة ومصادرة كل أنواع الحريات، وهكذا فإن حسم هذا
الصراع والنأي بالدين عن النزاعات السياسية، كان نقطة فاصلة في تطور
الديمقراطية منذ عصر النهضة، والذي كان له أكبر الأثر في تحرير العقل وترسيخ
حرية الفكر.
فعلى أنقاض فكرة الحكم بالحق الإلهي تعمقت الفكرة التي تؤكد أن الأمة هي
مصدر السلطات، ومن هنا تطورت مفاهيم الديمقراطية الليبرالية، فالفلسفة
الليبرالية تقوم على المذهب الفردي وتعظم قيمة الإنسان بصفته الفردية) [6] .
فالعولمة في سعيها لهدفها وبمقتضى العداوة الطويلة بين سادتها وبين الإسلام،
أرادت القضاء على ما تبقى من الإسلام في نفوس الناس.
ولقد كانت العولمة الثقافية من أخطر وجوه العولمة، والتي تُعنى بإذابة
الفوارق العقدية والفكرية والسلوكية وطمس الهوية الإسلامية، والدعوة إلى الإباحية
والانحلال.
وكما يشير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة إلى أن العولمة تشير عادة إلى تدفق
التجارة ورأس المال على الصعيد الدولي. ولكن انتشار الثقافات على الصعيد
الدولي كانت له على الأقل أهمية انتشار العمليات الاقتصادية نفسها. واليوم، هناك
ثقافة عالمية آخذة في الظهور، ومن خلال العديد من وسائط الإعلام من الموسيقى
والسينما إلى الكتاب فإن الآراء والقيم الدولية تختلط بالهويات الوطنية وتلونها
بطابعها. وقد شهد انتشار الأفكار عبر التلفزيون والفيديو تطورات ثورية، وهناك
الآن أكثر من 1. 2 بليون جهاز تلفزيون في جميع أنحاء العالم، وتصدر الولايات
المتحدة أكثر من 120. 000 ساعة من البرامج التلفزيونية سنوياً إلى أوروبا
وحدها، وتنمو التجارة العالمية في البرامج بأكثر من 15% سنوياً.
وتفرض الثقافة الشعبية الآن ضغوطاً أقوى من أي وقت مضى. ومن مانيلا
إلى ماناغوا، ومن بيروت إلى بكين، وفي الشرق والغرب، وفي الشمال
والجنوب، أصبحت أشكال الزي (الجينز، وتصفيفات الشعر الخاصة، والـ (تي شيرت) ، والألعاب الرياضية، والموسيقى، والعادات المتعلقة بتناول الطعام، والمواقف الاجتماعية والثقافية، أصبحت كلها تشكل اتجاهات عالمية. وحتى الجرائم سواءاً أكانت تتصل بالمخدرات، أو بإساءات معاملة المرأة، أو
الاختلاس، أو الفساد أصبحت تتجاوز الحدود، ومتشابهة في كل مكان. لقد انكمش العالم في أوجه عديدة [7] .
إن الدعوة لإنهاء الجغرافيا تهدف في أساسها إلى حرية الوصول إلى كل
الأرض دون عوائق أو معارضة، أو حتى إلى تأشيرة دخول أو زيارة سياحية؛
إنها استباحة مطلقة، ولن تعدم قوى العولمة حجة أو تكأة للوصول إلى أغراضها في
أراضي المسلمين وحرب الإسلام في أرضه.
إله المصلحة:
(لا تحدثني عن التاريخ أو عن الحق أو عن الكرامة، أوعن الحرية، وإنما
حدثني عن المنفعة وعن القوة) هذا أحد المبادئ المترسخة لدى قوى العولمة، وبما
أن الجشع وحب التملك والقضاء على الغير من أجل المصلحة الفردية، هي أبرز
سمات الرأسمالية، وحيث إن العولمة ثورها الهائج فقد ارتفعت قيمة هذه السمات،
وزادت حدتها مع زيادة قدرات الوسيلة الجديدة للرأسمالية. بيد أن العولمة في
ظاهرها خبيثة خائبة، خبيثة في أنها تحمل شعارات براقة ووعوداً وأمانِيَ بالرخاء
والسعادة لكل البشر، فانخدع بها الضعفاء والمقهورون، فزادتهم غماً إلى غمهم.
وخيبة العولمة في خسارتها السريعة جداً لتلك الشعارات البراقة التي رفعتها،
وما ذلك إلا لارتفاع وتيرة الجشع فيها حين نادى (العالميون) بإنهاء الجغرافيا
وإزالة سيادة الدولة على حدودها، كان ظاهرها الرحمة والشفقة على حقوق الإنسان
(فمجرد طفل جائع يبكي في أدغال إفريقيا مثلاً يستثير العطف وحركات المشاركة
الوجدانية وغير الوجدانية لدى بعضٍ على ضفاف نهر الدانوب أو الرور أو
المسيسيبي، وعلى ذلك قس. ليست القضية تدخُّل هذه الدولة في الشأن الداخلي
لتلك الدولة بقدر ما هو الشعور المتنامي بالمصير المشترك لبني الإنسان! ! إن
العولمة المعاصرة سوف تؤدي في النهاية إلى حرمان الدول من حق السيادة المطلقة
وصولاً إلى مفهوم جديد للسيادة يركز على العالم أجمع بصفته الوحدة السياسية التي
تحل محل الدولة التقليدية المعتادة) [8] .
ولا ندري هل نذكِّر أولئك الدعاة بما قاله بوتفليقة أم نحيله على مآسي إفريقيا
التي لا تنقطع في مدنها وقراها وليس في أدغالها؟
حق الإنسان.. أم التدخل والاحتلال:
تصدر وثيقة إعلان حقوق الإنسان عن أربعة مبادئ أساسية:
1- يولد الناس ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق.
2- يمكن للناس أن يفعلوا كل ما لا يضر بالغير؛ وبناء على ذلك يمكنهم أن
يفكروا ويتكلموا ويكتبوا ويطبعوا في حرية.
3- للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها.
4- يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب أعينها دائماً حقوق
الأفراد من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى [9] .
بالنظر إلى هذه المبادئ نجدها في ظاهرها تحافظ على حقوق الإنسان، ولكن
بالنظر إلى الواقع نجد أن الدساتير والمواثيق الوضعية لم تتناول تحديد الحقوق
بشكل قانوني واضح، وإنما عمدت إلى الحرية والمساواة بأسلوب عاطفي أدبي مما
يزيد من مرونة السلطة الحاكمة في إقرار بعض الحقوق، أو عدم إقرارها في
المجتمع، وليس أدل على ذلك من التفرقة التي تمارسها الدول الديمقراطية التي
تدعي دفاعها عن حقوق الإنسان، أو السياسة الاستعمارية البشعة التي يمارسها
العديد من الدول الكبرى في العالم.
علاوة على أن المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م، والعهد الدولي بشأن
الحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة عام 1966م، لم تنص صراحة
على الوسائل الكفيلة بضمان حقوق الإنسان، واكتفت بالنص على ضرورة صيانتها
فقط. فعلى الرغم من إقرار الإعلان العالمي، والعهد الدولي لحقوق الإنسان
المتعلقة بشخصه وبدنه، وحرية تفكيره، وعدم اعتقاله اعتقالاً تعسفياً، وعدم
تعذيبه أو حبسه بدون نص قانوني، إلا أن الإعلان الدولي لم يحدد الوسائل الدولية
لكفالة تمتع الإنسان بحقوقه وحرياته المقررة فيه، وهذا ما يجعل حقوق الإنسان
خاضعة لاعتبارات ذاتية، ترتبط بمصلحة الدولة، أو مصلحة الحكام، دون النظر
إلى الاعتبارات الموضوعية المتعلقة بإقرار الحقوق والواجبات [10] .
إن آثار العولمة على الإنسان، وحقوقه التي تم تجاوز الحدود الجغرافية
للمطالبة بها كانت لها آثار سيئة للغاية؛ فقد كان إهمال البعد الاجتماعي سمة
جوهرية من سمات العولمة؛ ففي الوقت الذي تتصاعد فيه أرباح هذه الشركات
والفئات المرتبطة بها على نحو فلكي، تتدهور الأحوال المعيشية للعمال وللطبقة
الوسطى بشكل صارخ بعد إلغاء الدعم وزيادة الضرائب غير المباشرة وخفض
النفقات الحكومية ذات الطابع الاجتماعي (على التعليم والرعاية الصحية
ومشروعات الضمان الاجتماعي) وبعد تخصيص كثير من مشروعات الحكومة
وأنشطتها، فقد أصبح ينظر الآن إلى مشاركة العمال ذوي الياقات الزرقاء والبيضاء
في ثمار التقدم التكنولوجي ونمو الإنتاجية في عالم ما بعد الحرب وإبان دولة الرفاه
ونظم الاشتراكية الديمقراطية وأثناء الحرب الباردة على أنه كان تنازلاً من جانب
رأس المال لم يعد له الآن ما يسوِّغه، وأن مراعاة البعد الاجتماعي واحتياجات
الفقراء أصبحت أعباءاً لا تطاق. لا عجب، والحال هذه، أن تتزامن العولمة مع
عمليات إثراء لم تشهد لها الرأسمالية مثيلاً من قبل إلى جانب عمليات إفقار شديد
للعمال وللطبقة الوسطى تذكرنا بالمراحل الأولى لنشأة الرأسمالية. ويبدو أن هذا
التناقض الذي يستفحل سنة بعد أخرى سوف يخلق احتمالات قوية لإحياء كثير من
أشكال الصراع الطبقي وإعادة تكوين القوى المناهضة لهذا الوجه اللاإنساني
للرأسمالية المعولمة، خاصة بعد أن كثر الحديث في الآونة الراهنة عمَّا يسمى بـ
(ديكتاتورية العولمة والسوق) من جانب عدد كبير من المفكرين والسياسيين والكتاب
الذين أزعجتهم هذه الأوضاع الاجتماعية.
ومع اتساع حرية الحركة لرأس المال عبر الحدود دون أية عوائق عمدت
كثير من الشركات دولية النشاط ومتعددة الجنسية إلى نقل مصانعها من بلادها
الأصلية؛ حيث ترتفع أجور العمال وينخفض متوسط معدل الربح، إلى البلاد
النامية حيث انخفاض الأجور وتوفر المزايا العديدة التي ترفع من معدل الربح.
وكان لذلك بلا شك علاقة واضحة بزيادة بطالة عمال هذه المصانع. أضف إلى ذلك
أن الثورة التقنية الهائلة المرافقة للعولمة قد أدت إلى خلق اتجاه لا رجعة فيه
للاستغناء المتواصل عن العمالة وإلغاء كثير من المهن والوظائف بعد إحلال الآلة
مكان الإنسان [11] .
وهكذا رفع عديد من الساسة والكتاب في الغرب دعوات تقول: إن زيادة
معدلات البطالة، والفقر في الدول الصناعية تقتضي (عدم تبديد الموارد في ...
الخارج) أي: عدم توجيه معونات للدول المهمشة التي كانت تعرف بالدول النامية. ... وهكذا فإن (المجتمعات العاجزة عن إنتاج غذائها، أو شرائه بعائد صادراتها ...
الصناعية مثلاً لا تستحق البقاء، وهي حالياً عبء على البشرية يمكن أن يعرقل تقدمها الذي حكمه دائماً قانون: البقاء للأصلح، ومن ثَمَّ يجب إسقاط البلاد التي تعيش رغم كل المساعدات في حال فقر الأغلبية من سكانها يجب إسقاطها، من حساب هذه الشركات (الكوكبية) ، وأن تترك وشأنها، ولا تُمنح أية معونات تنمية اكتفاءاً بالمنح الإنسانية في الظروف الاستثنائية) [12] .
هذا وقد اعترف الرئيس الأمريكي بأثر العولمة السيِّئ على الإنسان وحقه،
فيقول كلينتون: إنه لا بد من مراعاة ظروف الإنسان الذي يدفع منذ أعوام ثمناً
باهظاً للعولمة، هذا الإنسان غير مستفيد منها حتى الآن، وفي الغالب لن يستفيد
منها قبل مرور وقت طويل، إنما يدفع أكثر مما دفعه الفلاحون في بدايات عصر
الثورة الصناعية من قمع وفقر وانتزاع من المكان والهوية والتاريخ، ويدفع أكثر
مما دفعه العامل الصناعي في جميع تجارب التصنيع من ظلم وأمراض
واغتراب [13] .
هذا الاعتراف من رئيس القوى الموجهة للعولمة يصادق على ما ذكر من
شراسة العولمة وأنها أخطر وأقبح مراحل الرأسمالية، ويصادق كذلك على أن هذه
القوى كاذبة في دعواها أن هدفها الأساس من إلغاء سيادة الدول إنما هو لحماية
حقوق الإنسان، وأن المواثيق التي تكلم عنها عنان والتي تحظى بمرتبة القداسة لم
ترفع بعد من أكوام (الكناسة) . إن الدعوة إلى التدخل في سيادة الدولة بحجة حماية
الحقوق الإنسانية ليست إلا حجة واهية لاستعمار جديد بصلف ووقاحة.
الشركات (ناهبة) القارات! !
في صورة بالغة للجشع والطمع عاد الإقطاع بوجه آخر، ورغم نعومته وبهاء
رونقه إلا أن هذه المساحيق لا تخفي ما وراءها من قبح.
فمن خلال الاستناد إلى نظرية (نهاية الجغرافية) وجعل العالم سوقاً واحدة
وكتلة واحدة يتحرك فيه كل شيء دون قيود ظهر ما يسمى بالشركات (متعددة
الجنسيات) أو (العابرة للقارات) ، لقد انتهزت الرأسمالية سقوط الشيوعية وأطلقت
وحوشها الكاسرة على البشر تنهبهم، وتسلبهم حقوقهم؛ فقد شهد الاقتصاد العالمي
منذ منتصف السبعينيات العديد من التغييرات السريعة والمتلاحقة، وقد تسارعت
وتيرة هذه التغييرات ومنحاها بشدة منذ نشأة منظمة التجارة العالمية في يناير 1995
م، وعلى رأس هذه التغييرات ازدياد النزعة إلى الاندماجات الكبرى والتي بدأت
في البروز خلال حقبة التسعينيات. ففي عام 1998م تم عقد 89 صفقة اندماج
تزيد قيمة كل منها على المليار دولار، وذلك مقابل 58 صفقة مماثلة في
عام 1997م، 45 صفقة في عام 1996م، 35 صفقة في عام 1995م، وقد تركزت هذه الصفقات في قطاعات الخدمات المالية والتأمين والاتصالات والتكنولوجيا الحيوية. وبلغت قيمتها الإجمالية في عام 1998م 544 مليار دولار، بزيادة 60% عن عام 1997م الذي قدرت قيمة الصفقات التي تمت خلاله بنحو 342 مليار، مقابل 275 مليار عام 1996م و237 مليار عام 1995م.
وقد أدى ذلك إلى ازدياد سيطرة الشركات متعددة الجنسية على مقاليد الأمور
بالأسواق الدولية، وهناك الآن 350 شركة كبرى تستأثر بما نسبته 40% من
التجارة العالمية، بل إن ثلث التجارة العالمية تتم بين هذه الشركات وفروعها في
البلدان الأخرى. وبلغت الحصة المئوية لأكبر عشر شركات في قطاع الاتصالات
السلكية واللاسلكية 86% من السوق العالمي، وبلغت هذه النسبة 85% في قطاع
المبيدات، وما يقرب من 70% في قطاع الحاسبات الآلية، و60% في قطاع
الأدوية البيطرية، و35% في قطاع المواد الصيدلانية، 32% في قطاع البذور
التجارية [14] .
فلم يكتف العالم المتقدم بإقامة تكتلات اقتصادية بين الدول كالاتحاد الأوروبي،
والنافتا [15] في أمريكا فقام بتطوير أشكال التكتل كي يضمن الهيمنة المطلقة على
السوق الدولية.
ومن هنا فإن اندماج الشركات دولية النشاط من شأنه أن يحكم السيطرة
السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح قطب واحد.
هذه الشركات تسعى للاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير والانتشار
الجغرافي في توسيع أسواقها وتخفيض تكلفة الإنتاج والنقل وإعادة تقسيم العالم على
المستوى الدولي بما يدعم كفاءتها الاقتصادية وفرض سيطرتها على الأسواق. هذه
الشركات أصبحت تتضخم بشكل مفزع من خلال الاندماجات السريعة والمتلاحقة؛
حيث أصبح العالم أمامها سوقاً واحداً.
على سبيل المثال: سوق السيارات سوف تسيطر عليه أقل من عشر شركات
في العالم في ثلاث دول متقدمة.
لقد أصبحت هذه الشركات هي التي تتحكم في تدفقات كتل الأموال والأسهم
والسندات وتحركاتها، وفي أسواق الأوراق النقدية المصرفية بعيداً عن العملات
الوطنية حتى للدول الكبرى، ومخترقة بذلك حدود البنوك المركزية وقدراتها، حتى
في الدول الكبرى أيضاً.
لقد كانت هذه الشركات هي اللاعب الرئيس وراء اتفاقيات الجات عام 1994
م وانتشار منظمة التجارة العالمية من أجل الدفع بقوة بما يعرف بتحرير الأسواق
والتجارة العالمية وتدفقات السلع والمنتجات والأموال السائلة والأوراق المصرفية
والمواد الإعلامية والإعلانية.
إن هذه الشركات تعتبر الأرض كلها سوقاً كبيراً لها بما فيها وبما عليها،
وتتنافس هذه الشركات في اقتسام هذه (الأراضي) دون أي اعتبار لقيم أو أخلاق.
هذه الشركات أصبحت رأس الحربة للسياسات الاستعمارية الجديدة التي
ترسمها القوى الدولية الرأسمالية فلم تعد في حاجة إلى قوات مسلحة ضخمة وقوية
لتأمين مصالحها الخارجية؛ إذ أصبحت قوتها الاقتصادية تمكنها من دخول أية
دولة، وتتيح لها أن تمد نشاطها إلى مختلف أنحاء المعمورة مستخدمة في ذلك رشوة كبار المسؤولين وذوي النفوذ السياسي وسلاح الإعلام على نطاق واسع، وربما يفسر هذا عمليات خفض نفقات التسليح والإلغاء التدريجي للجيوش المعتمدة على ... (الخدمة الوطنية العسكرية) ، والتحول إلى جيوش محترفة قليلة العدد نسبياً وذات تكنولوجيا بالغة التعقيد.
ورأسمالية اليوم لم تعد في حاجة إلى الدولة في مجال خدمات الأمن الداخلي،
وفض المنازعات المدنية، وخدمات البريد والاتصالات. والأكثر من هذا أنه في
ضوء التطور المذهل الذي حدث في نظام النقد الدولي وتعويم أسعارالصرف
وتحرير القطاع المالي، والاستخدام الواسع لبطاقات الائتمان Credit Cards لم
تعد الدولة مسيطرة على الكتلة النقدية داخل حدودها، حيث انتزعت قوى السوق
من إطار سيادة الدولة حق إيجاد النقود وضبط عرضها. بل إن تآكل قوة الدولة
وسلطتها تبدو الآن بشكل جلي فيما تمخض عن العولمة من إضعاف شديد لفاعلية
أي سياسة اقتصادية كلية تراها الدولة صالحة لاقتصادها المحلي ما لم تشاركها في
ذلك الشركات متعددة الجنسية.
هذه الشركات نادراً ما تدخل في شكل استثمارات مباشرة (أي طويلة الأجل) ،
وإنما تدخل بما يعرف (بالأموال الطائرة) في استثمارات قصيرة الأجل وسريعة
العائد، والتي تحقق لها عوائد هائلة دون أن يكون لذلك مردود على التنمية
المحلية، بل ربما يحدث مثلما حدث في دول النمور.
وإن حدث وقدمت استثمارات مباشرة، فإنها قبل ذلك تأخذ ما يكفيها من ...
التسهيلات والضمانات السياسية والاقتصادية التي لا تحظى بها رؤوس الأموال
المحلية، مما يعرقل الاقتصاد المحلي.
أضف إلى هذا أن جل أنشطتها يقتصر على السلع الاستهلاكية ذات العائد
الأسرع نتيجة للنمط الاستهلاكي السائد. إن هذه الشركات تقوم بامتصاص الفوائض
المالية لدى المستهلكين عن طريق الإغواء والإغراء الاستهلاكي [16] .
إن الاتفاقيات والمنظمات الدولية التي سعت هذه الشركات إلى قيامها وإقرارها
تعطي لها الحرية المطلقة في فعل ما تشاء داخل الدولة المستقبلة لها، وشد يد
الحكومات في إقرار أية إجراءات أو سياسات تتعارض مع توجهات هذه
الاستثمارات عن طريق إزالة كافة الحواجز والعوائق التي تحول دون الحصول
على أقصى منفعة من هذه الدول.
وقد سعت هذه الشركات (الناهبة) للقارات ومن ورائها قوى العولمة الجديدة
إلى عدم حل أزمة الديون الخارجية للبلاد النامية، وإنما الاكتفاء بإدارة الأزمة على
النحو الذي يجعل هناك؛ ضماناً لاستمرار هذه الدول في دفع الفوائد المرتفعة
والأقساط المستحقة باعتبار أن منفذ (الإقراض) بأسعار الفائدة المعومة والمرتفعة ما
يزال مربحاً لرؤوس الأموال الفائضة.
كيف يواجه الضعفاء؟
في ظل هذا الواقع الضاغط بشدة على الدول لتغيير خرائطها وقيمها: ماذا
تفعل الدول الضعيفة، والدول الإسلامية والعربية داخلة كلها تحت هذا المسمى؟
إن دولاً كثيرة من هذه الفئة لم تبلغ بعد إلى أن يعترف بأنها (دولة) بصورة
كاملة، فقد عجزت عن إنجاز مهمات الدولة، وأخفقت فيها أيما إخفاق وضاعف من
هذا الإخفاق مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والإداري والاستبداد. لقد أهدرت
الثروات النفطية والأرصدة الدولارية في مظاهر الاستهلاك والترف وصفقات
السلاح الضخمة التي تستخدم غالبا للقمع للداخلي وإرهاب الشعوب.
إن دولاً أو كيانات بهذا الوصف لن تستطيع الصمود أمام هذه الوحوش
الكاسرة، وإن كان هناك بعض الدول التي تميزت بقدرات عالية في التصنيع
والتطور التقني والتصدير مثل كوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، وقد حدث لها ما
لا يخفى في مواجهة هذه القوى، فكيف بمن هي دونها؟
إن هذه الدول في حاجة إلى الاعتصام بالله عز وجل ودينه وتطبيقه في الحياة
قولاً وعملاً، حكماً وتحاكماً، إن هذا الاعتصام بحبل الله كفيل مع السعي للأخذ
بوسائل الإصلاح والتغير بمواجهة هذه القوى.
نهاية الجغرافية أم نهاية العولمة؟
أفاق العالم أخيراً من سكرة (العولمة) فقد ظل العالم في حال غيبوبة، وافتقاد
للتوازن، خلال التسعينيات؛ إذ كانت أدوات العولمة (النشطة) تتمثل في دس ... ... (السم في العسل) ، وتقدم للعالم صورة وردية لمستقبل العالم في ظل العولمة؛ وذلك
تحت شعار (العولمة السعيدة) على حد ما جاء في بعض الكتابات التبشيرية هنا
وهناك.
وهكذا كان العالم خلال التسعينيات في حال تخدير، ولكن عند نهاية
التسعينيات تخمرت تناقضات العولمة في الشمال والجنوب، وأفاق العالم من
غفوته، وأطلق صيحته المدوية في سياتل ضد ترتيبات واتفاقات (منظمة التجارة الدولية) ، والاعتراض على إطلاق جولة جديدة للتفاوض بشروط بلدان العالم الأول، والولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً.
وجاءت الشعارات والهتافات التي ملأت شوارع سياتل لتعكس معاني عدة في
مقدمتها:
العالم لن يتحول إلى سلعة يتداولها الأقوياء.
الناس والشعوب قبل الأرباح.
والكل يعلم أن هذه التظاهرات الكبرى لم تكن تظاهرات للرعاع أو الطلبة
المتحمسين، أو (المراهقين السياسيين) ، بل كان قوامها جمهرة عريضة محترمة
من النقابيين والمهنيين، وقيادات المجتمع.
وليس هناك من شك في أن الاجتماع الوزاري الثالث لمنظمة التجارة العالمية
في سياتل أخفق إخفاقاً ذريعاً ومدوياً؛ إذ عجز المؤتمر عن إصدار (بيان ختامي)
يحدد أسلوب عمل المنظمة وأدواتها مع بداية الألفية الثالثة، كذلك لم يُفلح في
إطلاق جولة جديدة من مفاوضات تحرير التجارة كما كان مقرراً! ولعل أهم نتائج ... (معركة سياتل) كما أطلق عليها أن أية جولة جديدة من جولات التفاوض حول مزيد
من تحرير التجارة الدولية لن يتم بالسهولة التي كانت تتصورها الولايات المتحدة.
إن حركة الاعتراض التي ظهرت في سياتل ضد منظمة التجارة العالمية ...
(سوف تنتشر من الآن فصاعداً في أنحاء الأرض كافة) .
كما أن عدم نجاح مؤتمر سياتل يعكس بداية تفجر تناقضات العولمة،
وبخاصة عدم التوازن بين مصالح البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وإعادة
توزيع عناصر القوة فيما بين بلدان العالم الأول.
وفي طوكيو قالت الصحف اليابانية: إن تعذُّر نجاح المؤتمر ألقى مياهاً باردة
على الثقة المفرطة التي أبدتها الولايات المتحدة، وأثبت أنه لا يمكن التوصل إلى
إطار عمل لتحرير التجارة على الصعيد العالمي من دون الأخذ في الاعتبار مصالح
الدول النامية والقوى الاقتصادية الأخرى في العالم، إن المؤتمر كان فرصة للدول
المتقدمة والنامية لكي تقول: (لا) للولايات المتحدة التي اتصفت تصرفاتها بالأنانية
والصلف والغرور، لكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم.
ولعل أهم منجزات هزيمة (مؤتمر سياتل) هو إبطاء الهرولة نحو الاندماج
في مسيرة العولمة من دون تأمل ورَوِيَّة. ولعل من المفارقة أن نقد ممارسات
العولمة بدأ في العالم الأول، وعلى المقيمين خارجها أن يراعوا فروق التوقيت! !
ولعل الشعار الذي رفعه المعادون والمتظاهرون: (لا نريد تجارة حرة بل
نريد تجارة عادلة) ولعل التأمل في مغزى الفرق بين تجارة حرة، وتجارة عادلة
هو فرق كبير؛ لأنه قد تكون الحرية بلا عدالة؛ ولأن الحرية التي لا تقود إلى
العدل والإنصاف ليست إلا شعاراً براقاً أجوف لا يحقق الاستقرار والتوازن على
الصعيد العالمي [17] .
وأخيراً: فإن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية؛ إذ إن مجاله كل
الأرض، بيد أن الإسلام دين الرحمة ودين العدل، ونحن على وعد من الله تعالى إن استقمنا بالتمكين والسيطرة على كل الأرض: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ......] الآية [النور: 55] . وكما بشر النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر) [18] ، لكن ليس بأنياب العولمة ولا بوسائل الشركات عابرة القارات عفواً (ناهبة القارات) .