ماذا يريدون من المرأة..؟ !
حركة تحرير المرأة بمصر وحصاد
مائة وثلاثين عاماً
محمود بن محمد المختار الشنقيطي
لم يكن عفواً ولا من قبيل المصادفة أن يبدأ أعداء الإسلام من صليبيين ويهود
وعلمانيين ومتفرنجين وعبّاد الشهوة والجنس أن يبدؤوا حربهم ضد المرأة بمصر؛
ذلك أن أرض الكنانة هي قبة الإسلام، وقلعته ومركز ثقله، ولتبوُّؤ أزهرها
الصدارة والريادة العلمية والفكرية لأمة الإسلام منذ أن تسلمت مصر زعامة العالم
الإسلامي في القرن السادس الهجري على يد الفاتح صلاح الدين الأيوبي رحمه
الله.
فلا غرو إذاً أن يلمس الحاقدون على الإسلام حتى عهد الاستعمار نزوع
المصريين الفطري إلى التديُّن وتمسكهم بعرى الدين؛ لا غرو من اعتبار هذه
الظاهرة مصدر قلق لهم جعلتهم يبدؤون بها، حتى إذا ما انتصروا في معركتهم ضد
المرأة بمصر سهل بعدئذٍ سقوط حصونها وقلاعها في سائر بلاد المسلمين.
احفظوها؛ إنَّ مصر إنْ تَضِعْ ضاع في الدنيا تراث المسلمين
وبين يديك أخي القارئ بعض نتائج حركة تحرير المرأة وحصادها [1]
بمصر باعتبارها أول حركة تحرير في العالم الإسلامي قامت على إثْر حركات
التحرير في الغرب، وإنما وقع الاختيار على هذه الحركة لأسباب أهمها:
1- عامل السبق الزماني وطول الفترة الزمنية لفصول حركة التحرير
بمصر؛ حيث استغرقت مائة وواحداً وثلاثين عاماً من حين عودة رفاعة الطهطاوي من باريس عام 1831م وهو الذي بذر البذرة الأولى إلى صدور الميثاق الوطني عام 1962 في عهد جمال عبد الناصر، وقد احتوى هذا الميثاق على أكبر ما يعدونه تتويجاً للمرأة، ونص على أنه لا بد أن تتساوى بالرجل، ولا بد أن تسقط بقايا الأغلال التي تعوق حركتها الحرة حتى تستطيع أن تشارك بعمق وإيجابية في صنع الحياة [2] .
2- اكتمال تجربة حركة التحرير بمصر ونضجها؛ حيث كانت الوسائل فعّالة
والتركيز عنيفاً.
3- توافر أسباب التدوين وكثرة المراجع والمصادر التي تحدثت عن هذه
الحركة من النشأة إلى النهاية.
وفي هذا المقال أسلط الضوء على أهم ما حصدوه من المكاسب وما حققوه من
المطامع، وفق الأهداف التي رسموها مقتصراً على تعدادها، دون العناية بتحليلها
ونقدها من منظور شرعي؛ فعندما يكون الخير صرفاً، أو يكون الشر واضحاً لا
يكاد يختلف الناس في تحديد مواقفهم، وأحسب أن القارئ الكريم لن يجد عناءاً في
التحليل والربط بين حصاد حركة تحرير المرأة بمصر الذي سنذكره إن شاء الله
وبين نتائج ما تبعها من الحركات وحذا حذوها في مختلف أصقاع عالمنا الإسلامي.
وما ألصقَ مقولةَ الفاروق عمر بما نحن فيه لمَّا كتب لأبي موسى الأشعري رضي
الله عنهما: (اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور) .
هل حصاد الحركة نتائج متقدمة أم متأخرة في طريق إصلاح المرأة المسلمة؟
ليس ثمة شك في أن حركة تحرير المرأة بمصر قد نجحت نجاحاً باهراً في
ضوء الأهداف المتوخاة منها، بل حققت هذه الدعوة المضللة أعظم ما كانت تهدف
إليه في مدة وجيزة، وبسهولة غير متوقعة؛ نظراً لسياسة تكسير الموجة، واتباع
سياسة (بطيء ولكنه أكيد المفعول) وتفادي التصادم المباشر مع الإسلاميين الذين
يمثلون الغالبية العظمى في المجتمع المصري، واستدراج بعض المشايخ المعمَّمين
والعلماء ليكونوا في بداية الزحف ... إلخ وسائلهم وخططهم [3] .
وليس غريباً أن ننظر نحن الإسلاميين إلى هذه النتائج على أنها حقوق سُلِبَتْها
المرأة، ووسائل شقاءٍ جُرّت إليها [4] .
بينما يراها السفوريون التحرريون نتائج متقدمة في طريق الإصلاح،
وتعزيزاً للدفاع عن حقوق المرأة، بل إن اتساع امتياز النساء من أهم الأبعاد
الحضارية التي يمكن أن تقاس وتصنَّف المجتمعات والشعوب من خلاله، كما ذكر
ذلك الكاتب الفرنسي روجيه جارودي في كتابه: (تتم التطورات الاجتماعية
وتبدلات الزمن وفقاً لتقدم النساء نحو الحرية. إن اتساع امتيازات النساء يشكل
الأساس العام لجميع التطورات الاجتماعية) [5] .
ويمكن أن نلخص نتائج هذه الحركة في النقاط الآتية:
أولاً: إيجاد القابلية وتهيئة الجو أمام الغزو الثقافي الغربي. ونقصد بالغزو
الفكري والثقافي: (الاستلاب الحضاري، وأشكال التفسخ الأخلاقي، مع التهاون
بالواجبات والرقة في الدين، فأوجدت جهود دعوة تحرير المرأة عبر منابرها
الإعلامية ووسائلها الفعالة التي طالت الريف المصري وهو يشكل معظم
مصر [6] ، أوجدت لدى الناس شروط الهزيمة والانكسار، مع تغيب دور الإسلام الفاعل وتجريد تيار دعاة الفضيلة والحجاب من الإمكانات فاخترق الفكر الأجنبي والعدوّ الحاقد الصفوف، ليفتك كيف شاء، دون وجود مقاومة وحصانة قوية تذكر، وفعلت جهود أكثر من مائة عام فعلها في الناس (فالمسألة لم تكن قاصرة على تحرير المرأة كما يتوهم المتوهمون، وإنما كانت إرادة التغيير الجذري والشمولي باقتلاع المجتمع من جذوره) [7] .
ثانياً: قبول المجتمع وإذعانه للتعليم المختلط، وقد كان السَّبْقُ في ذلك على
يد مَن يسمُّونه: أستاذ الجيل! ! (لطفي السيد) ، فهو أول من أدخل الطالبات في
قسم الطلاب سافرات الوجوه ولأول مرة في تاريخ الجامعة المصرية يسانده في ذلك
طه حسين وكامل مرسي، وتحت الضغط الخارجي رضيت وزارة المعارف بالأمر
الواقع واعتبار هذا من حقوق الفتيات [8] .
قالت التحررية درية شفيق [9] : (في سنة 1932م ظهرت صورة للدكتور
طه حسين بك في نادي الجامعة وعلى يمينه ويساره الطلبة والطالبات جلوساً
يتساءلون ويتناولون الشاي، وقامت القيامة لهذه الصورة البريئة التي تضرب المثل
للأبوة في وجود العميد والإخوة في جلسة الطلبة والطالبات، واتُّخذت الصورة تكأةً
يتخلص بها الرجعيون من (طه حسين) و (لطفي السيد) ، ووقف الرجعيون في
مجلس النواب يحملون على الجامعة ورجالها وفكرة تعليم البنات فيها، ويرون ذلك
فضيحة من الفضائح يجب أن تحول دونها الحكومة) [10] [11] .
ثالثاً: إخضاع الثوابت من الدين والمسلَّمات من الأحكام الشرعية لاجتهاد
العلماء وتناول الباحثين ومناقشة الجاهلين والمبطلين، فاستغلها السفوريون
وميَّعوها، ولبّسوا على العامة والدهماء وجه الحق فيها.
فالأمر الرباني بغضّ البصر عن العورات، وهو أمر من الواجبات الشرعية
والعدالة والنزاهة، هذا الأمر صوَّروه بأنه عدم ثقة في النفس، ومن مخلّفات
القرون الوسطى المظلمة التي كانت تنظر إلى المرأة على أنها دون الرجل فتخفي
بصرها! ! [12] .
وقوامة الأب والزوج التي اشترطها الشرع لصحة بعض عقود المرأة
وتصرفاتها اعتبروها ممارسات تعكس اضطهاد المرأة وظلمها، وتجسِّدُ ارتهانها
لأبيها وأخيها أو زوجها، وهي ظاهرة استغلال الجهات الأقوى اقتصادياً لامتلاك
يمين المرأة، وإخضاعها لعملية القهر التاريخية [13] [14] .
وقاعدة قرار المرأة في بيتها وأنها الأصل نوزعت، وجُعِل الأصل هو العمل
دون شروط أو قيود أو ضوابط [15] .
وسفرها دون محرم لبلاد الكفر ألبسوه لباس الابتعاث وطلب العلم والدراسة،
وصار من المفاخر الاجتماعية وسمات الأسر المتحضرة والطبقات الراقية.
وإبداء الزينة للرجال الأجانب الذي هو كسابقه محرّم ومعصية صار عند دعاة
التحرر من تمام الرشاقة والجاذبية لفتى الأحلام وشريك المستقبل! ! [16] .
ووجوب نسبة الابن لأبيه وحرمة انتسابه لغيره لم تعد موافقة لروح التقدم
والفرنجة، فغيَّرن أسماءهن وانتسبن لأزواجهن فصرن: هدى شعراوي بدلاً من
هدى بنت محمد سلطان باشا، وصفية زغلول بدلاً من صفية محمد فهمي ... إلخ.
أما البيت فهو السجن ودكتاتورية الرجل، وشل للمجتمع عن الحركة، وأما
الحجاب فهو كفن من اختراع المتشددات المتطرفات وعادات القرون البدائية، ثم
تأتي (سيزا نبراوي) سكرتيرة هدى شعراوي، فتتزوج من الفنان مصطفى نجيب،
بشرط نقل العصمة إليها، وكتب لها المأذون بذلك في العقد، ونُشِرَ للناس [17] .
رابعاً: تسخرُ بعض العلماء (المعممين أدعياء العلم) واستخدامهم لصالح
حركتهم الضالة، واصطياد الأدلة لباطلهم، وليُّ أعناق النصوص لإضفاء الصبغة
الشرعية والتأصيل الفقهي على أفكارهم.
فالشيخ محمد عبده الذي ثبت أنه كتب فصولاً من كتاب قاسم أمين (تحرير
المرأة) ، هو الذي خذل أهل الإسلام يوم أن قاموا بموجة عارمة من المعارضة ضد
القضايا التي أثارها كتاب قاسم أمين، وطلبوا منه فتوى في الكتابين (تحرير المرأة)
و (المرأة الجديدة) ، ولكن الأستاذ ظل ملازماً للصمت إزاء هذه القضية التي
كانت شغل الناس والعامة آنذاك فضلاً عن العلماء والخطباء والفقهاء والدعاة، فكان
لامتناعه أعظم الأثر في تمرير أفكار قاسم أمين، مما جعل بعض علماء عصره
يرميه بالاتهامات لتواطئه مع دعاة الإباحية والفجور، وما أوضح مواقف أستاذه
جمال الدين الأفغاني الذي كان له أعظم الأثر والدور في إخراج الدين من المعركة
تحت دعوى أن الحجاب تقاليد قديمة ضد تقاليد حديثة عصرية تقدمية! حتى قال:
(وعندي أنه لا مانع من السفور إذا لم يُتخذ مطيةً للفجور) [18] .
ومن مكاسبهم استخدامهم لشيخ الأزهر حسن العطار الذي شجع رفاعة وبارك
فكرته، وكذلك كسبهم للشيخ علي عبد الرازق، والشيخ سليم البشري شيخ الأزهر
الذي أيّد قانون الأحوال الشخصية الوضعي عام 1319هـ، حتى إن رفاعة
الطهطاوي مفتي البعثة المصرية إلى فرنسا كان يقول: (إن مراقصة النساء للرجال
نظير المصارعة في موازنة الأعضاء، وإنه نوع من الأناقة والفتوة لا
الفسق) [19] ! !
خامساً: الحصول على بعض القرارات الرسمية الوضعية التي أصدرتها
الحكومة المصرية وعممتها إرضاءاً للتحرريين ومنها:
1- تقييد عدد الطلاق ومنع وقوعه إلا بعد موافقة الحكومة.
2- منع تعدد الزوجات إلا في ظروف توافق عليها الحكومة.
3- تأخير سن زواج الفتاة إلى السادسة عشرة فما فوق.
4- المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
5- منح حق الطلاق للمرأة كالرجل.
6- إعطاء ما يسمونه الحق السياسي [20] للمرأة بدءاً بحق الانتخابات
ومروراً بعضوية المجالس البلدية والنيابية وكافة الأعمال والحرف كالرجل سواءاً
بسواء، وانتهاءاً بحق التمثيل النيابي [21] .
سادساً: حصول التحرريين على الاعتراف الدولي العالمي بالحركة؛ فأول
امرأة مصرية تحررية تعترف بها الحكومة لتمثيلها في المؤتمرات الدولية هي مَلَك
حفْني ناصف في حكومة رياض باشا عام 1911م.
ثم مثلت هدى شعراوي، ونبوية موسى، وسيزا نبراوي المرأة المصرية في
مؤتمر روما الدولي للمرأة عام 1932م والتقت سيزا نبراوي بالزعيم الهندي غاندي
عام 1931م في مصر [22] .
والتقت هدى شعراوي على هامش مؤتمر روما بالقائد الاستعماري موسوليني
ثلاث مرات وتبادلا العواطف والمشاعر الحارة، وكان مما صرح لها به قوله:
(إنني أراقب باهتمام حركات التحرير بمصر) [23] .
وفي عام 1935م التقت هدى شعراوي أيضاً بالزعيم الروحي للتحرريين
أتاتورك، كما استضافت الحركة الدكتورة (ريد) رئيسة الاتحاد النسائي العالمي التي
مهدت للمؤتمر العربي الدولي للمرأة عام 1944م، وأقيم على شرفها وسط
استنكارات الشعوب العربية واحتجاج العلماء، وأرسلت زوجة الرئيس الأمريكي
روزفلت رسالة تبارك فيها المؤتمر [24] .
سابعاً: حصول بعض أعضاء الحركة على مناصب حسّاسة في المجتمع
المصري رغم مهاجمة المجتمع لهم.
فقاسم أمين ترقى في مناصب المحاكم حتى صار مستشاراً في محكمة
الاستئناف وظل بمنصبه حتى مات بالسكتة القلبية في ليلة 23 إبريل عام 1908م.
سعد زغلول 1273-1346هـ ظل بعد تخرجه من الأزهر في المحاماة، وبعد اتصاله بحزب تركيا الفتاة لمع نجمه في صالون الأميرة نازلي فاضل، واشتهر حتى تعرف على اللورد كرومر، فأسند إليه نظارة وزارة المعارف في الحكومة المصرية في ظل الاحتلال.
هدى شعراوي أصبحت وكيلة الاتحاد النسائي الدولي بجهود حركات التحرير
الأوروبية والمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية [25] .
ومنذ نشأة الحركة وحتى اليوم ورئاسة الاتحاد النسائي المصري لا تخرج عن
تلميذات هذه الحركة [26] والزعيمة الحالية للاتحاد هي د. نوال سعداوي من
أنشط المنظرات للتحلل والسفور.
ثامناً: صبغ القضية بالصبغة القومية لكسب جميع العرب من مختلف الأديان
والملل، واستنفار طاقاتهم من الصليبيين الحاقدين أمثال: فهمي مرقص، وجرجي
زيدان، وسلامة موسى.
وبعدُ أخي القارئ فما أشبه الليلة بالبارحة! ففي كل عصر ومصر تطل من
جديد حركة تحرير المرأة مكرِّرة فصولها، وأدوارها، مع تغيير للافتات والأسماء
والوسائل، أما الأهداف والغايات والنتائج والمنطلقات فهي هي، ومن هنا كان لا
بد أن نقصد البحر وندع السواقي، ونعيد فتح ملف الحركة الأولى التي آتت أكلها
بعد مائة وثلاثين عاماً من العمل الدؤوب والتخطيط المدروس ... نعيد فتح ملفها
لنقرأه قراءة ناقدة باصرة تساعدنا في إبطال المؤامرة على المرأة المسلمة وحجابها،
ووأد الفكرة في مهدها، والذب عن الحدود والمحارم، ونفي تحريف الغالين،
وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين السفوريين [واللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ولَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .