مجله البيان (صفحة 3355)

البيان الأدبي

متى ينتهي العدوان على بنت عدنان

شادي السيد أحمد عبد الله

إنّ الله - تعالى - أنزل القرآن عربياً لا عُجْمة فيه، بمعنى: أنه جارٍ في

ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب [1] ، قال الله - عز وجل -:

[إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [الزخرف: 3] . وَمن أحبَّ اللهَ

أحبَّ رسولَه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومَن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العرب، ومن أحبَّ العربَ أحبَّ اللغة العربية التي بها نزل أفضلُ الكتب على أفضل العَجَمِ

والعَرَبِ [2] . ومعلوم أنّ (تعلّم العربية وتعليمها) فرض على الكفاية، وكان

السلف يُؤدّبون أولادهم على توقِّي اللحن؛ فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر

استحباب أن نحفظ القانون العربيّ، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة

فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناسُ على لحنهم كان

نقصاً وعيباً؛ فكيف إذا جاء قومٌ إلى الألسنة العربية المستقيمة والأوزان القويمة

فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للّسان، الناقلة عن العربية العرباء

إلى أنواع الهذيان الذي لا يهذي به إلا قومٌ من الأعاجم الطماطم الصميان؟ ! ! [3] .

وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (تعلموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة) [4] .

قال ابن فارس: (وقد كان الناسُ قديماً يجتنبون اللَّحْن فيما يكتبون أو يقرؤون

اجتنابهم بعضَ الذنوب، فأمّا الآن فقد تجوّزوا حتى إنّ المُحدّث يُحدّث فيلحن،

والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب؛ وإنما نحن محدّثون

وفقهاء، فهما يُسَرَّانِ بما يُسَاءُ به اللبيب) [5] .

ولا يخفى أن اللسانَ العربيَّ شعارُ الإسلام وأهله، واللغاتُ من أعظم شعائر

الأمم التي يتميّزون بها [6] .

فما أجْدَرَ هذا اللسانَ بأنْ يُعتَنقَ ضَمّاً والتزاماً، كالأَحِبَّةِ لدى التوديعِ، ويُكْرَمَ

بنقل الخُطُواتِ على آثاره حالةَ التشييع [7] .

وما أكثر ما يجري من العدوان على هذا اللسان الذي وَسِع الدين والقرآن من

أولئك الذين يَهْرِفون بما لا يعرفون، ويقولون ما لا يفعلون! فكثُر اللَّحْنُ مِن

الخواصِ قبل العوامّ، وطغت الهُجْنَةُ حتى ضجَّتِ الهوامُّ! ! وسأضربُ مثالاً من

هذا الرُّكام، وأزيح عنه اللِّثام: فما مِن كاتبٍ، ولا شاعرٍ، ولا خطيب، ولا أديبٍ - إلا مَن رحم ربي - إلا ويستخدم كلمة (بَسِيط) بمعنى: قليل، أو هَيِّن، أو يسير ... إلخ؛ فيقول: هذا شيء بسيط (بمعنى قليل) ، ورجل بسيط (بمعنى مُغفَّل، أو طيب القلب) وهذا الاستخدام غير صحيح؛ فقد وردتْ مشتقات هذه الكلمة في خمس وعشرين آية، وجاءت على هذا النحو في القرآن الكريم: بَسَطَ - بَسَطْتَ - تَبْسُطْها - يَبْسُطُ - يَبْسُطُه - يَبْسُطُوا - بَاسِط - بَاسِطُوا - البَسْط - بِسَاطاً - بَسْطَة - مَبْسُوطَتَان [8] ؛ وليس فيها كلها معنى قليل، أو هَيِّن، أو

مُغفّل ... إلخ.

قال الفيروز آبادي: (بَسَطَهُ: نشره، وبَسَطَ يده: مَدَّهَا، وفلاناً: سَرَّه،

والمكانُ القومَ: وَسعَهم، واللهُ فلاناً عليَّ: فَضَّلَهُ، والعُذْرَ: قَبِلَهُ. واللهُ يَبْسُطُ

الرزقَ: يُوسِّعُه، والبِسَاطُ: ما بُسِطَ، والبَسِيطُ: المنبسط بلسانه، وأُذُن بَسْطَاء:

عظيمة عريضة، وانْبَسَطَ النهارُ: امتدَّ وطال، والبَسْطَةُ: الفضيلة، والبَسْطَة في

العلم: التوسُّع، وفي الجسم: الطول والكمال، والمَبْسَطُ: المُتَّسَعُ) [9] .

هذا: وإنني قد بسطتُ الكلام في هذا المقال، للتنبيه وضرب المثال؛ لصون

اللسان عن الزلل في لغة القرآن، ودعوة لنبذ سقيم الكلام والأوزان، بعد أن

(ازدادت المِحْنَةُ في هُجْنَةِ اللسانِ العربي، وطغت مولدات التغريب على لغة القرآن، ... فَعَظُمَ العُدْوان على بنت عدنان، وندر الآخذون بالثأر الموقظون لأمتهم عن تغريب اللسان) [10] . ورغم ذلك:

فإن العلماء في لغة العرب - شكر الله سعيهم - قد بذلوا جهوداً مكثفة في القديم والحديث، فأنشؤوا سدوداً منيعة وحصوناً حصينة للغة القرآن عن عوادي الهُجْنة والدخيل، ويظهر ذلك في المجامع وهي كُثر، وفي كتب الملاحن وهي أكثر، فدبّ يراعهم، وسالتْ سوابق أقلامهم، وانتشرت سوابح أفكارهم في نقض الدخيل، ونفي المقرف والهجين، فحمى الله - سبحانه - اللغة حماية

لكتابه [11] .

فهل إلى إصلاح لغتنا مِن سبيل؟ !

أفليس حراماً أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللَّسَن والبيان ويلحنوا

فيها؟ أليس حراماً أن يكون فينا من الخوارج على لغتنا من ينصر العاميّة المسيخة

أو يكتب بها؟ أليس حراماً أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية: الفرنسية، والإنكليزية ننطق بها تظرّفاً أو تحذلقاً، وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها

وتقوم مقامها؟ !

فيا أيها العرب لغتَكم. لغتَكم يا أيها العرب؛ تعلّموها وحافظوا عليها

وانشروها) [12] .

فهل مِن ملبٍّ للنداء؟ ! وهل مِن مجيبٍ للدعاء؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015