البيان الأدبي
د. محمد زين العابدين
مشى وحده حتى تعبت قدماه.. فالشلة لن تجتمع اليوم بسبب هذه الريح
العاصفة القارسة البرودة؛ خاصة أن السماء ازدحمت فيها السحب الداكنة نذيراً
بإشاعة الفوضى في أي برنامج.. كل واحد منهم اختبأ في بيته، وادخر طاقته ليوم
آخر ذي جو أصفى.. أما هو فلم يستطع أن يمكث في بيته؛ فهو يحب الحياة حتى
النخاع، ولا يتصور نفسه إلا طائراً بين أفيائها يتنسم عبير الزهر الناضر تارة، أو
يلتهم الثمر الناضج أخرى؛ حسب الظروف! ! التعب ازداد حدة ولم يعد قادراً على
مواصلة السير.
أتمنى أن أجلس، ولكن أين؟ آه.. ها هو ذا مقهى على الضفة المقابلة من
الشارع.
حاول العبور لكنه لم يستطع بسبب سرعة السيارات وكثافة المارة.. سار
على حافة الشارع متحيناً الفرصة للعبور حتى وصل النقطة المواجهة للمقهى،
وانتظر.. لكن الانتظار طال وتضاعف معه تعبه وضجره اللذان زحفا إليه كما
تزحف جيوش النمل الأبيض على جذوع الأشجار ...
صوت حشرجة معدنية عالية انبعث فجأة من مكان ما فوق رأسه.. استطاع
أن ينتفض على الرغم من إعيائه الشديد.. رفع نظره فرأى مكبراً للصوت فوق
مئذنة لمسجد.. تعجب لوجود مسجد في هذا الشارع؛ فقد سار فيه مراراً ولم يلحظ
المسجد أبداً.. المنظر في الداخل يبعث على الارتياح، والفرش على الأرض
تغري ساقيه المتعبتين.
لماذا لا أدخل لأجلس قليلاً؛ فالجلوس هنا أكثر راحة من المقهى، كما أنه لا
يكلف شيئاً..؟ ابتسم وهو يخلع حذاءه؛ فهو لا يتذكر متى كانت آخر مرة دخل
فيها مسجداً..! في محراب المسجد يجلس أحد الشيوخ يبدو أنه على وشك البدء
في حديث مَّا.. استند إلى الحائط في نهاية المسجد، ومد رجليه.. انتشرت الراحة
في جسده المنهك، وانتشت عضلاته المتعبة، وجال فكره بعيداً في الزمان والمكان
يخطط جداوله للأيام القادمة، وكيف سيكون العبُّ من ملذات الحياة. يجب ألا
يتكرر هذا الموقف السخيف ثانية؛ فهو من أنصار استثمار الشباب حتى الثمالة..
انتفض فجأة بسبب ارتفاع شديد في صوت الشيخ.. نظر حوله.. لقد امتلأ المسجد
وغص بالحضور.. عدل من جلسته وثنى رجليه.. كان المتحدث يقول: الموت
سهم فارق قوسه، ولا تعلم متى يصل إليك وهو لا يخطئ هدفه أبداً، جحظت عيناه، تدلى فكه، اندفع الدم الأحمر إلى وجهه؛ كأنه تلقى عليه صفعة قوية: الموت! !
يا لها من كلمة! إنه لا يريد أن يموت وأمامه الكثير ليفعله.. توترت أعصابه.. لم
يعد يستطيع الجلوس.. أحس بالرغبة في تدخين سيجارة.. هب واقفاً بشكل أفزع
الجالسين بجواره، وتخطى النفر القليل بينه وبين الباب بشكل عصبي، وما أن
خرج للشارع حتى ملأ صدره من هوائه المشبع بالغبار وعادم السيارات فزاده غيظاً
واختناقاً.. ذلك السهم أمَا من سبيل لتفاديه؟ ! متى سيأتي؟ وهل يمكن تضليله؟
تزاحمت الأسئلة واللعنات في عقله، واكفهرَّ صدره متحدياً الجو من حوله، ومبرزاً
قدرة البشر الفذة على الإحساس بالضيق.. مشى على غير هدى.. قادته قدماه إلى
البيت.. منزل كبير وطوابق عديدة وهو يحتل قمته. أجل إنه دائماً في القمة! !
صعد إلى غرفته فوق السطح.. دخل.. ندم على العودة، حاول الخروج.. ولكن
إعياءه الشديد أجبره على الجلوس على الفراش.. خلع حذاءه بطريقة لا شعورية..
ضجة على السطح المقابل.. إنهما صبيَّان يصوِّبان بقوس ونشَّاب على أهداف
وضعاها على السور القصير في نهاية السطح.
اللعنة.. اللعنة.. سهام مرة أخرى، كان الهدف مواجهاً للشباك؛ بحيث يمكن
أن تدخل السهام لو كانت بالقوة الكافية لعبور الشارع.. ضاعف ذلك ضيقه إلى حد
الجنون.. صاح فيهما لكي يبتعدا، فسخرا منه.. ماذا يفعل لهذه الشياطين الصغيرة؟ لا شيء بيده.. استسلم للصفاقة الصغيرة ونام على السرير؛ لكنه لم يستطع؛ فقد
اصطدم سهم بالحائط خارج الشباك بشكل أفزعه.. ماذا لو دخل أحد هذه السهام إلى
الغرفة وأصابه؟ إنها خشبية وغير مدببة بما فيه الكفاية، لكنها قوية.. ماذا لو
أصابت عنقه؟ !
أقلقته هذه الأفكار جداً؛ فوقف في منتصف الحجرة حائراً تتقافز نظراته يمنة
ويسرة.. في النهاية تقدم إلى الشباك وأغلقه.. دقائق.. فتحه! ! لم يستطع أن
يعيش داخل علبة مغلقة، لا بد من منفذ على الدنيا، إن الشباك هو أهم شيء في
هذه الغرفة، لقد فضلها على عديدات غيرها أكبر وأرخص؛ لأنها تفتقر إلى مثله،
تمدد على السرير ثانية لكن صوت العفاريت على السطح المقابل دفعه إلى القيام،
جال بعينيه في وكره مرة ثانية.. وقع نظره على الدولاب الضخم الذي ورثه عن
أبيه.. إنه يقف شامخاً كسائر أهل جيله مزهواً بصلابة خشبه ومتانته وكأنه يقول: أنا أقوى من الزمن.. خطرت بباله فكرة مجنونة لذَّت له فقام لينفذها على الفور:
جمع ملابسه القليلة في الرف الصغير أعلى الدولاب، حمل اللحاف وبسط نصفه
في أرض الدولاب، ثم نام فيه وغطى جسمه بالباقي، كان الدولاب بجوار الشباك
وفي غرفة صغيرة، كان أحد المصراعين لا يفتح تماماً.. السماء فوق رأسه قاتمة
تتصارع فيها وحوش رمادية ضخمة أو لعلها تتقافز مرحة سعيدة بالإحساس
بالامتلاء بعد وجبة برنامج يومه الدسم الذي التهمته؛ وتركته خاوي الوفاض..
نظر إلى السحب بغيظ وحقد:
الشؤم على هذا الشتاء وعلى هذه الشيطنة التي تستطيع اللعب في طقس كهذا.. استسلم جسمه للدفء والراحة، وعقله لسبات عميق.. اشتد الهواء في الخارج
فأغلق مصراع الدولاب وأحكم غلقه تماماً.. أجفله الصوت؛ لكن السبات الذي
يسيطر على عقله والظلمة منعاه من إدراك حقيقة الموقف.. على كلٍ ليس هناك ما
يُخْشَى؛ فعند اللزوم يكفي أن يضرب المصراع بيده فيفتحه.. لا مشكلة.. الصبيَّان
ما زالا يلعبان، ازدادت حدود الشيطنة وسئما الأهداف السهلة.. اقترح أحدهما
التصويب لإدخال السهام خلال مقابض دولاب الجار المشاكس.. صوَّبا كثيراً لكن
السهام لم تصل بسبب الريح.. تضاعفت الحماسة والرغبة لقهر هذا الهدف
المتحدي. إنهما ماهران جداً.. تراهنا؛ وانطلقا يبحثان عن الأسهم المناسبة، ثم
رجعا وبدآ في المحاولة من جديد؛ لكن بلا جدوى.. انتهت السهام؛ لكن أحدهما
قرر استخدام سلاحه الأخير.. أخرج سيخاً حديدياً ووضعه في النشَّاب، وصوبه
جيداً وأطلقه.. إنه ولد ماهر ماهر، لقد دخل سهمه من مقبض الدولاب الأول، ثم
الثاني، ثم توقف، لقد أصبح القضيب الحديدي مزلاجاً على باب الدولاب. وعلى
السطح المقابل تقافز الصبيَّان وهما يصيحان جذلين: لقد وصل السهم.. لقد وصل
السهم.