دراسات في الشريعة والعقيدة
عبد الله بن سعد المحارب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فمن نعمة الله تعالى على الإنسانية أنه أنزل دستوراً محكماً يحكم حياتها،
ومنهجاً قويماً ينظم سلوكها شمل في تعاليمه وآدابه مجمل تعاملات الناس بعامة؛
ونظم حياة الإنسان مع نفسه، ومع خالقه، ومع خلقه الإنس وغيرهم نظاماً دقيقاً
شاملاً كاملاً لا يوجد في غيره.
هذه التعاليم وتلك الآداب تتمثل في هدي هذا الدين الإسلامي العظيم بما أنزله
الله علينا في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
لذا كانت تعاليم هذا الدين العظيم أعظم النعم التي يمتن الله تعالى بها على
عباده؛ حيث يقول: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ
الإسْلامَ دِيناً] [المائدة: 3] .
فمن هذه الأحكام التي بينتها لنا شريعتنا الغراء: تعامل الإنسان مع أجناس
الحيوانات على اختلاف أنواعها وألوانها، سواء كان ذاك التعامل بالاستفادة منها في
المعيشة، وطرق الكسب لقوله تعالى:
[والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً] [النحل: 8] . ...
والاستفادة منها بأكل لحومها لقوله تعالى: [فكلوا منها] [الحج: 28] ، أو
كان ذاك التعامل لفوائد أخرى، ولو كان للاستئناس بالنظر إليها والترنم بسماع
صوتها؛ فالله تعالى قرن ركوب الحيوان والاستفادة منه في الآية السابقة بقوله تعالى
[وزينة] ، والذي يفهم من الآية أنه كما أباح لنا الركوب والاستفادة من هذه
الحيوانات أباح لنا اتخاذها زينة؛ وهذا من سعة فضل الله تعالى على خلقه.
والأصل في ذلك أي الاستفادة أن جميع المخلوقات التي يراها الإنسان
ويتعايش معها مخلوقة له، ميسرة له، يقول تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي
الأَرْضِ جَمِيعاً ... ] [البقرة: 29] ، وهذا في سياق الامتنان على العباد بالإباحة
كما سيأتي.
والكلام في هذا الباب يطول؛ وحسبنا أن نقتصر على جانب منه هو من أهم
فروعه المتفرعة منه وأوْلاها بالاهتمام، لا سيما أن شريحة عريضة من الناس
يعايشونه، ألا وهو: أحكام صيد الحيوان في الشريعة الإسلامية، وهذا الموضوع
في الحقيقة بابه واسع ومسائله متعددة، وسأعرِّج على بعض مسائله الهامة، وألحقها بتنبيهات لطيفة؛ وكل ذلك في إطار الاختصار ليستفيد منها القارئ المبتدئ، ولا يملها المنتهي.
أولاً: تعريف الصيد:
الصيد لغة: هو مصدر صاد يصيد صيداً، ثم أُطلق الصيد على المصيد نفسه، تسمية للمفعول بالمصدر كقوله تعالى: [لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم]
[المائدة: 95] أي المصيد، واستخدم ذلك في أكثر من موضع في القرآن. ومعناه أي الصيد لغة: هو الاقتدار على ما كان
ممتنعاً ولا مالك له [1] .
والصيد شرعاً: هو اقتناص حيوانٍ حلالٍ متوحشٍ طبعاً غير مملوك ولا
مقدور عليه [2] .
فقولنا:
حيوان: يدخل فيه حيوان البر والبحر والحيوانات والطيور، وخرج الآدمي
وما ليس بحيوان.
حلال: خرج به الحيوان الذي لا يحل أكله كالخنزير والسباع، والمستقذرات
من الحيوانات.
متوحش طبعاً: خرج به من الحيوانات الداجنة الأليفة، كبهيمة الأنعام.
غير مملوك: خرج به ما يكون في حوزة الغير.
ولا مقدور عليه: خرج به ما كان في القدرة، سواء قبل إصابته أو بعدها،
فلا يجوز صيده حينئذ، ويكون رميه بالسلاح محرماً، وإن صِيد فلا يجوز أكله،
بل لا بد من تذكيته تذكية شرعية.
ثانياً: حكم الصيد:
للصيد ثلاثة أحكام:
الأول: الإباحة، وهذا ثابت بالكتاب والسنة، والإجماع؛ فمن الكتاب قوله
تعالى: [قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] [المائدة: 4] ،
وأما السُّنة فوردت أحاديث كثيرة مشتهرة منها حديث عدي بن حاتم، وأبي ثعلبة
الخشني، المتفق عليهما وسيأتي ذكر بعضها في ثنايا البحث.
وأما الإجماع فقد قام على إباحة الصيد [3] ؛ وهذا الحكم هو الأصل؛
فالأصل في الصيد أنه مباح لدفع الحاجة، والانتفاع بلحمه، ويدل عليه قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] [البقرة: 29] ، قال الإمام الشوكاني
عند هذه الآية: (وفيه دليل أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة، حتى يقوم
دليل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي التأكيد بقوله تعالى: [جميعا] أقوى دلالة على هذا) [4] ، وقوله تعالى: [خلق لكم] معناه: من أجلكم، كما قاله جماعة من السلف [5] . ...
الثاني: الكراهة. وذلك إذا كان القصد منه التلهي به والمفاخرة، ولأنه
والحالة هذه يشغل الإنسان عما هو أنفع منه من الأعمال الدينية والدنيوية، ثم هو
يضيع الأوقات ويأخذ بعقل المشتغل به، حتى يشغف به، ومن ثَمَّ يلهيه عن
الواجبات، ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدا جفا، ومن تبع الصيد
غفل) [6] .
الثالث: التحريم؛ ويحرم الصيد في حالتين:
الأولى: إذا ترتب عليه ظلم للناس بالعدوان على زروعهم، وبساتينهم
وأموالهم وأراضيهم، وممتلكاتهم؛ لأن ذلك من الاعتداء على أموال الغير؛ ولأن
المقاصد لها أحكام الوسائل.
الثانية: إذا كان الصيد في الحرم، أو في حال التلبس بالإحرام.
أما الصيد في الحرم فلقوله تعالى: [أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً]
[العنكبوت: 67] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ينفَّر صيدها) [7] وتنفير
الصيد: إزعاجه عن موضعه، وتهييجه. فالنهي عن الصيد يكون من باب أوْلى
في الحرمة.
أما تحريم الصيد في حال الإحرام فلقوله تعالى: [حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا
دُمْتُمْ حُرُماً] [المائدة: 96] وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وأَنتُمْ حُرُمٌ] [المائدة: 95] [8] .
ثالثاً: شروط حل الصيد (المصيد) :
ذكر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الصيد لا يحل إلا بجملة من الشروط:
الشرط الأول: أن يكون الصائد من أهل الذكاة. فإن كان وثنياً، أو مرتداً
كتارك الصلاة عمداً أو من غير المسلمين وأهل الكتاب لم يُبَحْ صيده؛ لأن الشارع
لم يُبِحْ لنا غير ذبيحة المسلم، أو أهل الكتاب، فكذا في الصيد. أو كان مجنوناً،
أو صغيراً لا يميّز، فلا يحل صيده كذلك؛ لأن الصيد من جملة الأفعال التي تحتاج
إلى نية الفعل، وفاقد العقل ومن لم
يبلغ سن التمييز لا يمكن أن تصح منه النية.
الشرط الثاني: أن يسمي عند إطلاق آلة الصيد، سواء أكانت تلك الآلة
حيواناً جارحاً كالكلب، أو طيراً كالصقر، أو كانت آلة جامدة كالسهم والرمح
والبندقية، أو غيرها من الآلات التي تقتل الصيد بالجرح وتنهر الدم.
وللعلماء رحمهم الله تعالى في حكم التسمية ثلاثة أقوال:
القول الأول: وجوب التسمية على الصيد مطلقاً، فلو ترك التسمية عامداً أو
ناسياً فإن صيده لا يحل، وهذا هو المعتمد عند الحنابلة، وقال به الجماعة من أهل
العلم كالشعبي، وأبي ثور، وداود، ورجحه ابن قدامة [9] ، وهو اختيار شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله [10] .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أ - قوله تعالى: [ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه] [الأنعام: 121] .
ب - قوله تعالى: [فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا ا\سم الله عليه]
[المائدة: 4] .
ووجه الدلالة من الآيتين السابقتين واضح؛ ففي الأولى نُهي عن أكل ما لم
يذكر اسم الله عليه، والنهي يقتضي التحريم. وفي الثانية أمر بالتسمية، والأمر
يقتضي الوجوب، أي: وجوب التسمية.
ج - حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(وإذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله عليه فكُلْ. قلت: أرسلُ كلبي فأجد
معه كلباً آخر؟ قال: (لا تأكل؛ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمِّ على
الآخر) [11] .
د - حديث أبي ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله: إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي، وأصيد بكلبي المعلَّم،
وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلَّم. فأخبرني: ماذا يصح لي؟ قال: (أمَّا ما ذكرت
أنكم بأرض صيد، فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك
المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته
فكل) [12] .
القول الثاني: أن التسمية واجبة مع الذكر، وتسقط مع النسيان، فلو ترك
التسمية عند الصيد عمداً فلا تحل، أما لو تركها سهواً فإن الصيد يحل.
وبهذا قال الحنفية [13] والمالكية [14] وهو رواية عن الإمام أحمد [15]
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أ - حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن ناساً قالوا: يا رسول الله! إن
قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ !
قال: (سموا أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر [16] .
وجه الدلالة: لو كانت التسمية واجبة لم يُرخص لهم صلى الله عليه وسلم إلا
مع تحققها. وهذا في التذكية، فيقاس عليها الصيد.
وأجيب: (بأن الحديث يدل على الوجوب؛ لأن الصحابة فهموا أنها لا بد
منها، وخشوا ألا تكون وُجِدتْ من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بما يخصهم من
التسمية عند الأكل) [17] .
وأجيب أيضاً: (بأنا لو سلمنا لكم ذلك فإن هذا في التذكية لا في الصيد،
وبينهما فارق. قال ابن قدامة رحمه الله:) والفرق بين الصيد والذبيحة: أن الذبح
وقع في محله، فجاز أن يتسامح فيه، بخلاف الصيد ( [18] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه) [19] .
وأجيب: (بأن الحديث يدل على سقوط الإثم عن الناس، لا جعل الموجود
كالمعدوم. بدليل ما لو نسي شرطاً من شروط الصلاة فإن الصلاة حينئذ تبطل، ولا
ينظر في سهوه أو عمده) [20] .
القول الثالث: أن التسمية سنة مؤكدة. وعليه فلو ترك التسمية عند الصيد
عمداً أو سهواً فإن الصيد حلال، وبهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله [21] .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة، منها:
أ - قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم يذبح على اسم الله، سمى أو لم
يسم) [22] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم حينما سُئل: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى
أن يسمي؟ فقال: (اسم الله في قلب كل مسلم) [23] .
وأجيب عن هذا الأحاديث: (بأن الأول مجمع على ضعفه) [24] . والآخر
ضعيف كذلك؛ لأنه مُرْسَل، فلا تقوم بهما حجة، ولو صحت فهي في الذبيحة
خاص ة لا الصيد.
قال ابن قدامة: (وأما أحاديث أصحاب الشافعي، فلم يذكرها أصحاب السنن
المشهورة، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها؛ لما ذكرنا، مع ما في الصيد من النصوص الخاصة) [25] .
الترجيح: والذي يترجح من هذه الأقوال والله تعالى أعلم هو القول الأول؛
لقوة الأدلة الصحيحة الصريحة في وجوب التسمية.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وهذه نصوص صحيحة لا يُعَرَّج على منْ
خالفها) [26] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وهذا أظهر الأقوال؛ فإن الكتاب
والسنة قد علَّقا الحِلَّ بذكر اسم الله عليه في غير موضع) [27] .
وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله عن الصيد الذي لم يسمَّ
عليه؟ فأجاب: (إنها تُرمى ولا تُؤكل) . ونوقش بأن هذا من إضاعة المال،
والشارع نهى عن إضاعة المال؟ فأجاب قائلاً: (جوابنا على ذلك أن نقول: إن
الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ليست بمال؛ لأنها محرمة، وما كان محرماً
فليس بمال، وعلى هذا فلا تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة
المال. بل إن ترك أكلها طاعة لله عز وجل حيث قال تعالى: [ولا تأكلوا مما لم
يذكر ا\سم الله عليه] [الأنعام: 121] [28] .
وقال فضيلة الشيخ د. صالح الفوزان: (فالقرآن والسنة قد علَّقا الحِلَّ بذكر
اسم الله على الذبيحة في غير موضع، ولم يصح ما يخصصها بحالة دون حالة، أو
يصرفها عن الوجوب إلى الاستحباب) [29] .
وبهذا يتبين رجحان وجوب التسمية عند الصيد، وأنه يتوقف عندها الحِل من
عدمه. وإنما بسطت هذه المسألة بأدلتها وردودها، لأهميتها، ولتوقف حل الصيد
عليها؛ ولأنه غالباً ما يسأل الصيادون عنها، وغالباً ما يلتهي عنها من يشتغل
بالصيد.
الشرط الثالث: النية: أي يقصد الصيد: بأن يرسل الجارحة على الصيد أو
يطلق البندقية أو السهم عليه. أما إذا استرسلت الجارحة بنفسها فقتلت فلا تحل،
وكذا لو رمى سهماً عبثاً هكذا، فأصاب صيداً، فإنه لا يحل الصيد حينئذ، لعدم
النية؛ لكن لو لحق به قبل أن يموت وذكاه وسمى عليه فإنه يحل.
الشرط الرابع: أن يكون الجارح معلَّماً. سواء أكان صقراً أم كلباً؛ لقوله
تعالى: [ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ] [المائدة: 4] ؛ ولحديث أبي ثعلبة الخشني السابق رضي الله عنه.
ما يُعرف به المعلَّم من غيره ثلاث:
- إذا أرسله الصياد استرسل.
- وإذا زجره انزجر.
- وإذا أمسك لم يأكل.
ويتكرر منه هذا مرة بعد أخرى، حتى يصير معلماً في حكم العرف [30] .
وقد اختُلف في صيد الكلب الأسود البهيم أي الخالص فالجمهور على حله؛
لعدم الفارق عن غيره من الكلاب. والحنابلة على تحريمه؛ لأن الكلب الأسود
البهيم أُمِرَ بقتله [31] .
الشرط الخامس: ألاَّ يأكل الجارح الكلب أو الصقر من الصيد. فإن أكل لم
يُبَحْ صيده في أصح القولين، وروي هذا عن جمع من الصحابة والتابعين، لقوله
تعالى: [فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه] [المائدة: 4] ، ولحديث
أبي ثعلبة: (إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك.
فقلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل. إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل؛ فإني
أخاف أن يكون أمسكه على نفسه) [32] .
وهذا إذا وجد الصياد صيده ميتاً، أما إن وجده حياً فيه رمق الحياة فسمَّى
وذكَّاه، فحيئذ يجوز الأكل منه.
الشرط السادس: أن تكون آلة الصيد حادة تنهر الدم من أي موضع في
الحيوان ويموت بها، فإن مات خوفاً، أو جزعاً فلا يحل، وإن مات غرقاً بأن سقط
في الماء فينظر في سبب الموت، فإن كان السبب هو الماء فلا يحل، وإن كان
جرحه موجباً بحيث نعلم أن الماء لم يؤثر فيه فإنه حلال، وإن شُكَّ في ذلك فيغلَّب
جانب الحرمة، فلا يجوز أكله لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن وقع في الماء فلا
تأكل) [33] .
ويدل على هذا الشرط ما رواه البخاري عن عباية بن رفاعة عن جده قال: يا
رسول الله! ليس لنا مِدى جمع مُدية وهي السكين فقال: (ما أنهر الدم، وذكر اسم
عليه فَكُلْ، ليس السن والظفر) [34] .
وعلى هذا فلا يجوز أكل ما قُتِلَ بمُثَقَّلٍ أو بمعراض السهم، أو قتلتِ الآلةُ
بثقلها، وبهذا نعلم أنه لا يجوز القتل بما يسمى (بالنباطة) أو (المقلاع) لأنها تقتل
بالثقل [35] .
ولا يجوز كذلك أكل ما لم يخرج منه دم؛ لأنه قُتل بثقل الآلة؛ فإنها من
الموقوذة المحرمة. وأما اشتراط خروج الدم، فللرواية السابقة: (ما أنهر الدم
فكل) .
ولأن الدم المتحجر في الحيوان من جراء قتله بمثقّل يُفسِد الدم، ويكون ضاراً
للإنسان، وإذا خرج الدم المسفوح فإن الجراثيم والميكروبات تخرج منه فيكون
اللحم طبيعياً، وهذا ثابت في الطب الحديث، وهو من أسرار هذا الشريعة،
وحِكَمِها البالغة.
الشرط السابع: أن يكون الصيد مأذوناً في صيده زماناً ومكاناً، فلا يحل صيد
المُحرِم، أو الصيد في الحرم؛ لقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم] [المائدة: 95] .
الشرط الثامن: أن يكون الحيوان مأكول اللحم.
والأصل في جميع الحيوانات برية أو بحرية الحل، إلا ما جاء الشرع
بتحريمه، ومن ذلك الخنزير والحمار والبغل، وكل ذي ناب من السباع:
أي التي تأكل اللحوم كالذئب والأسد والكلب والنمر وغيرها من
المفترسات [36] ؛ وكل ذي مخلب من الطيور كالعقاب والباز والصقر، وكذا ما استخبث من الحيوانات وما استقبح منها كالخنافس والحشرات والوزغ، وهوامّ الأرض، وما كان مضراً كالحيوانات السامة كالحية والعقرب وغيرها. وما عدا هذه الأنواع فإن الأصل فيها الحل.
رابعاً: آداب يجب التحلي بها لمن أراد الصيد:
1- عدم التهاون بالصلوات المفروضة، وأداؤها في وقتها المحدد جماعة إن
كانوا جماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجبة فلا تسقط في أشد الظروف وأقساها: في
حال الحرب، وحال لقاء العدو، فكيف بحال الصيد؟ !
2 - ألاّ يكون الصيدُ شُغْلَ الإنسان الشاغل لمن كان لا يعتمد في رزقه
واكتسابه عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من تبع الصيد غفل) [37] .
3 - ينبغي للإنسان أن يتجنب صيد الحيوانات والطيور المستقرة والثابتة في
مكان، والتي لها صغار تأوي إليها وتطعمها، وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد بن
عثيمين عن صيد الطيور التي تكون حولها صغار، فأجاب حفظه الله: (إذا علمنا
أن هذا الطير المعيَّن له أولاد يضيعون بصيده فإن الأوْلى بل شك ألاّ يُصاد؛ لأنه أخشى أن يكون هذا من جنس فعل المرأة التي كانت لها هرة، فحبستها حتى ماتت جوعاً، فرآها صلى الله عليه وسلم تعذب في النار، إلا إذا كان يعلم أين يكون أولادها، ليذهب إليهم، فيأخذهم فينتفع بهم؛ فإن هذا لا بأس به) [38] .
4 - ينبغي كذلك للصياد أن يتجنب أذية الناس بالمرور في أراضيهم، أو من
بين زروعهم، وأشجارهم وممتلكاتهم؛ فإن الصيد في هذه الحالة يكون محرماً كما
سبق ذكره؛ وذلك لأن فيه أذية للناس، والله تعالى حرم الاعتداء على الناس، وفيه
نوع تمتع بأموال الناس بدون إذن، ومال المسلم لا يحل إلا بطيب نفس منه.
5 - ينبغي للصياد أن يحرص على التسمية وألاّ يتهاون بها؛ لأنه يتوقف
عليها حل الصيد من عدمه. وإني بهذه المناسبة أقترح على كل صياد أراد الصيد
أن يضع ما يذكّره بالتسمية، كأن يجعل لفظه (بسم الله) على البندقية أمام عينه
حينما يستعد للإطلاق؛ ليكون في تلك اللحظة الأخيرة متذكراً، فيسمي ثم يطلق.
6- ينبغي للصياد كذلك أن يكون في صحبته سكين حال الصيد؛ ليجْهز على
الحيوان، أو الطير الذي أصابه بالرمي ولم يمت؛ فإنه لا يحل قتله حين الاقتدار
عليه إلا بالذكاة الشرعية، وهذا من أعظم الأمور التي تحتاج إلى تنبيه؛ حيث إن
كثيراً من الصيادين يجهزون على الصيد وهو بين أيديهم بما معهم من سلاح، وهذا
أمر لا يجوز، ولا يحل أكل الصيد حينئذ، بل لا بد من الذكاة الشرعية، كما مر
معنا.
7 - ينبغي كذلك ألا يكون هذا الصيد هواية فقط، بمعنى: أن يصيد الصياد
لا للأكل بل للتسلية؛ فإن الصيد يكون حراماً، وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد
العثيمين حفظه الله عن صيد الحيوان فقط، ثم ترك الصيد ميتاً بعد ذلك لا يستفيد
منه هو ولا غيره؟ ! فأجاب حفظه الله:
(الصيد لهواً وعبثاً محرم؛ لما في ذلك من اللهو والغفلة عن ذكر الله؛ ولأن
ذلك يوجب ضياع المال في غير فائدة، وقد صرح بعض العلماء بكراهته، ولكن
قواعد الشريعة تقتضي تحريمه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة
المال) [39] .
8 - كذلك يباح للصياد إذا بلغ مسافة القصر أن يترخص برخص السفر؛
لأن هذا السفر لأمرٍ مباح، فيقصر الرباعية، ويباح له الفطر في رمضان، وعليه
التأدب بآداب السفر من الأدعية الواردة وغيرها.
9- ينبغي للصياد ألا يخرج للصيد وحده، بل الأوْلى أن يكون في صحبة
أحد من أصحابه، خصوصاً إذا كان محل الصيد بعيداً بحيث يبلغ مسافة القصر؛
لأن الوحدة يحصل فيها أخطار؛ ولأن السفر مفرداً منهي عنه؛ فالمسافر شيطان،
والمسافران شيطانان، والثلاثة ركب، كما ورد في الحديث.
10 - ينبغي كذلك للصيادين أن يتجنبوا عند اجتماعهم المزح بالسلاح؛ وذلك
بأن يرفع أحدهم السلاح على الآخر، أو يرمي من جانبه ليروعه، أو غير ذلك من
أنواع المزح بالسلاح التي تصْدُر أحياناً من الصيادين إذا اجتمعوا، وهذا الفعل
محرم من جهتين: إحداهما: أن حمل السلاح في وجه المسلم حرام كما وردت بذلك
السُّنَّة. ثانياً: أن ضرره واضح للعيان، بل ومتحقق؛ فكثيراً ما نسمع بتلك
القصص الدامية التي راح ضحيتها نفوس بريئة سببها المزح الثقيل الذي ليس في
بابه، وكثيراً ما نسمع بأن أحدهم وجَّه البندقية إلى صاحبه يظنها فارغة فإذا بها
ترميه وتلقيه صريعاً على الأرض؛ فما أحلى الامتثال لأمر الله وأمر رسوله!
وقد سُئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين عن رفع السلاح على وجه المسلم من
باب المزاح؟ ! فأجاب حفظه الله: (لا يجوز رفع السلاح على المسلم سواء كان
ذلك من باب المزاح، أم من باب الجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يُشِرْ أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري
لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار) [40] . وروى مسلم عن أبي
هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من أشار إلى أخيه بحديدة فإن
الملائكة تلعنه حتى ينتهي وإن كان أخاه لأبيه وأمه) [41] .
11 - كذلك ينبغي للصياد أن ينتبه لثيابه وملابسه حال الصلاة؛ خشية أن
يكون أصابها شيء من دم الحيوان أو الطير؛ لأن الدم الذي ينزف من الصيد بعد
رميه نجس، فلا بد من إزالته وتطهيره، ولأن الله تعالى حينما ذكر المحرمات ذكر
منها [أو دما مسفوحا] [الأنعام: 145] وهو الدم المنهمر منه.
12 - كذلك ينبغي ألاَّ يترك السلاح بين الأطفال إذا كان معه أطفال؛ لأن
ذلك قد يسبب أخطاراً ومن ثم يقع في الحرج والإثم من جراء تفريطه فيه.
13- كذلك ينبغي للصياد أن يصطحب معه ما يحفظ به صيده من التعفن؛
فبعض الصيادين ربما يصيد صيداً كثيراً ويتركه في سيارته أو في مكان جلوسه،
فإذا ما جلس مدة فإذا بالصيد يصيبه العفن، فتعافه نفسه فيرميه، وهذا من التفريط
في حفظ المال، وكما سبق معنا في الحديث بأنا قد نُهينا عن إضاعة المال.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً بالاقتداء، والاهتداء بالسنَّة، وأن ينفع بهذه
الأسطر كاتبها وقارئها؛ إنه على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب
العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.