دراسات في الشريعة والعقيدة
د. حمدي شعيب
[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ
فِي الحَجِّ] [البقرة: 197] .
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله
ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم
حج مبرور) [1] .
تشكِّل الآية السابقة مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملمحاً يفتح
للمسلم باباً عظيماً في الفقه نحن في أمس الحاجة إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو فقه ترتيب العقلية المسلمة، أو (فقه الأولويات) ، وهو ما يُعرف بفقه مراتب
الأعمال؛ حيث يتعلم منه المسلم أن للأعمال مراتب متباينة ومتفاضلة في أهميتها
وفي ثوابها وفضلها، وأن لكل عمل وقتاً معيناً، وأولوية متقدمة على سائر الأعمال، وهو ما يُعرف بـ (واجب الوقت) .
وعلى ضوء ذلك يمكن إعادة ترتيب العقل المسلم وصياغته، فيدرك من
خلاله أن فقه الأولويات: هو مراعاة النسب بين الأعمال والتكاليف الشرعية،
والإخلال بها يُحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. والعقيدة في الإسلام مقدمة على
العمل. والأعمال متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وهي تتفاضل عند الله سبحانه وليست على
درجة واحدة؛ فالنافلة لا يجوز
تقديمها على الفريضة، وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. ومما ينبغي
أن نعرفه: القضايا التي هي أوْلى بالاهتمام فتُعطى الجهد والوقت أكثر مما يُعطى
غيرها، وأن نعرف أوْلى الأعداء بتوجيه قوانا الضاربة، وتركيز الهجوم عليه،
وأي المعارك أوْلى بالبدء؟
وأجاب ابن القيم رحمه الله عن أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها:
الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟ ثم رجَّح أنه لا يوجد أفضل بإطلاق؛ وإنما
لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له [2] .
ولا ننسى وصيته صلى الله عليه وسلم عندما رتب أولويات الإنفاق، فقال:
(وابدأ بمن تعول) [3] .
وكذلك عندما قص علينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة عدم ترتيب
الأولويات بما حدث لجريج العابد عندما قدَّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل
صالح آخر أرجح؛ حيث قدم الاستمرار في صلاته، ولم يلبِّ نداء أمه ثلاثاً،
فأغضبها، ودعت عليه دعوة استجاب سبحانه لها فيها، وهي أن لا يموت حتى
يرى وجوه المومسات، فاتهمته إحدى البغايا بالزنا والفجور، ولكن الحق سبحانه
أنجاه بتوبته وصلاحه [4] .
والداعية أوْلى الناس بامتلاك تلك العقلية المرتبة، فيعرف حق الوقت، ويفقه
أولوياته، ويربأ بنفسه أن يكون تعامله مع القضايا تعاملاً مختلاً، مثل ذلك السفيه
الذي استجار به غريق فاشترط أولاً أن يستر هذا الغريق المسكين عورته، حتى
ينقذه!
إشارة نبوية:
تنمية روح الجندية والانضباط: وتبدأ هذه الرحلة المباركة من أماكن معينة،
تعرف بالميقات المكاني للحج، وهي خمسة حدود مكانية؛ فعن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: (وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة،
ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يَلمْلَمْ. قال: (فهن
لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، لمن كان يريد الحج، أو العمرة. فمن كان
دونهن فمَهَلُّه من أهله، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها) [5] .
ولا يجوز تجاوزها بغير إحرام إذا نوى العبد الحج أو العمرة، ومن تجاوزها
فإنه يجب عليه أن يعود إليها ويحرم منها، وإلا فعليه دم يذبحه ويوزعه على فقراء
الحرم.
من هذه الشعيرة الخاصة يمكننا أن نضع أيدينا على مغزى بعيد لها، وبُعْدٍ
تربوي تستشعره النفس من خلال تدبرها، وهو أن يتعود المسلم دوماً أن لكل عمل
ولكل أمر حدوداً معينة لا يجوز تجاوزها، بل إن تجاوزها قد يكون من الخطورة
بمكان؛ حيث ينعكس أثره على صحة العمل نفسه، وقبوله عند الحق سبحانه.
وهذا المغزى الانضباطي التربوي البعيد يكاد يكون سمة بارزة من سمات
المنهج الإسلامي التي يُربَّى المسلم عليها؛ حيث توجد عنده هذه الروح، وينميها
في حسه، فتعوِّده على حب النظام والانضباط، والطاعة للأوامر، والتزام حدود
كل عمل فلا يتجاوزه، وهي كلها جوانب تندرج تحت صفات الجندية المنشودة.
وكذلك كانت روح كل الشعائر والأعمال الخاصة بركن الحج.
وتدبر كيف أن لهذا الركن العظيم أركاناً أربعة هي: الإحرام، وطواف
الإفاضة، والوقوف بعرفة، والسعي بين الصفا والمروة؛ فمن ترك ركناً لم يصح
حجه، ولا يتم إلا به.
وتدبر أيضاً أن لهذا الركن واجبات؛ فمن ترك واجباً فعليه دم لفقراء الحرم.
وهي أيضاً روح كل العبادات والشعائر.
ويمكننا أن نأخذ مثالاً واحداً وهو الصلاة، وكيف أن لها شروطاً، وفرائض،
وسنناً معينة، كلها توقيفية لا يجوز الزيادة عليها. والمقام لا يتسع هنا إلى التفصيل
أكثر من هذه الإشارات.
وكذلك كانت روح علاقات المسلم كلها. فسلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه،
ومع أهله له ضوابط محددة، وهي حقوق في عنقه: (إن لربك عليك حقاً،
ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) [6] .
من هنا نخلص إلى أن الانضباط والتزام حدود الله تعالى من صفات المسلم
الحق.
وعكس هذا هو عدم النظام والتسيب، والمخالفة، والتعدي.
بل إن تلك القضية لها آثار خطيرة داخل النفوس وكذلك داخل الصف.
ولنتدبر هذه النصيحة العظيمة من الحبيب صلى الله عليه وسلم التي تبرز تلك
الرابطة بين النظام في الظاهر، والنظام في الداخل؛ فما هي إلا إشارة حمراء
تحذر العاملين، وتبين أن الاختلاف الظاهري ينتج اختلافاً بين القلوب. قال صلى
الله عليه وسلم: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) [7] .
والداعية أوْلى بالالتزام بصفات الجندية، وهو اللبيب الذي بالإشارة يفهم؛ فما
بالك إذا كانت تلك الإشارة نبوية واضحة جلية؟
إنذارٌ للنمل!
فضل إعلان الهوية: من عند هذه المواقيت المكانية، وفي أثناء تلك المواقيت
الزمانية يُحْرِم المسلم إذا نوى الحج أو العمرة؛ وذلك بأن يخلع ثيابه التي يلبسها،
ويرتدي ثياب الإحرام، وهي تتكون من رداء وإزار أبيضين نظيفين، أما المرأة
فتلبس ما شاءت من الثياب المباحة غير ثياب التبرج والزينة، ويستحب للإحرام
الاغتسال والتطيب ونظافة الملبس.
وإذا أحرم المسلم كان عليه أن يرفع صوته بالتلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك
لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) .
ثم يلتزم باجتناب محظورات الإحرام المعروفة.
وبتدبرنا لهذا العمل من أعمال الحج والذي يُصنَّف ركناً من أركانه، وكذلك
واجباً من واجباته، وذلك من الجانب الذي يهمنا هنا وهو البعد التربوي لهذه
الشعيرة، ودورها المهم؛ حيث تستشعر النفس أن هذا العمل يرمز إلى معنى رفيع
وهو قضية جهد الإنسان في التغيير وفعاليته في صنع الأحداث، فشرارة البداية في
التحولات الحضارية، هي محاولة تغيير النفس: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] . [الرعد: 11] .
ومع قناعتنا بأن التغيير المنشود هو التغيير الداخلي أي تغيير النفس والجوهر
الإنساني، ورغم يقيننا بأن الحق سبحانه لا يعامل الناس بظواهرهم: (إن الله لا
ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) [8] .
ولكن البعد التربوي للإحرام يوجهنا إلى منحى آخر مهم، وإلى دلالة عظيمة
هي: أن من أراد التغيير الداخلي فلا يهمل التغيير الخارجي؛ فالإنسان كلٌّ لا
يتجزأ، وأي خلل ظاهري له تأثير بعيد داخلياً؛ وذلك كما أشرنا إلى وصية الحبيب
صلى الله عليه وسلم التحذيرية: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم) [9] وكذلك كما نهتم
بتسوية الصفوف، خوفاً من تأثيرها على الداخل: (لَتُسَوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله
بين وجوهكم) [10] .
والإحرام رمز للانسلاخ من مرحلة إلى أخرى، ويعتبر عهداً بين المسلم وربه، وتأكيداً على صدق نية التغيير والالتزام بذلك ظاهرياً بلبس الإحرام، وإعلان ذلك
برفع الصوت بالتلبية حتى يعلم الناس جميعاً بهذا الميثاق، وبتوابعه وهي اجتناب
محظوراته، بل إن البعد التربوي لهذه التلبية ودلالاتها نستشعرها من تدبر قوله
صلى الله عليه وسلم:
(ما من ملبٍّ يلبي إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر حتى تنقطع
الأرض من هنا وهنا يعني عن يمينه وشماله) [11] .
وتدبر ذلك النداء ورفع الصوت بالتلبية وأثره الكوني والباطني، وتواصله مع
ذلك النداء الذي رفعه مؤسس هذا المشروع العظيم الخليل عليه السلام عندما أمره
الحق سبحانه أن يؤذن في الناس، فيبلغهم ويدعوهم، ووعده بالإجابة: [وَأَذِّن فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] [الحج:
27] (أي نادِ في الناس بالحج داعياً إياهم إلى الحج، إلى هذا البيت الذي أمرناك
ببنائه، فذُكِر أنه قال: يا رب كيف أبلغ صوتي ولا ينفذهم؟
فقال: نادِ؛ وعلينا البلاغ. فقام على مقامه وقيل: على الحجر، وقيل:
على الصفا، وقيل: على أبي قبيس وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً،
فحجوه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من
في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب
الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك) [12] .
وهو رمز لإعلان الهوية، وما يدل عليه من أن هذا المشروع مشروع كوني
يهش ويبش له كل الخلائق، ويتجاوب معه الوجود كله، ويباركه رب هذه الخلائق
ورب هذا الوجود كله سبحانه.
وهو رمز التميز الذي يفرق بين أصحاب هذا المشروع الرباني العظيم
وأصحاب المشاريع الأرضية المغايرة؛ يفرق بين المشروع الذي يتجاوب له
الوجود وتأنس إليه الفطرة وبين المشاريع الأخرى التي وإن لم تصطدم فهي تتنافر
مع الوجود، وتأنف منها الفطرة الإنسانية.
وهو أيضاً عنوان التحدي الذي يشمخ به أصحاب هذا المشروع على غيرهم
من أصحاب المشاريع المناوئة؛ التحدي بالركون إلى الحق سبحانه، إلى القوة التي
تباركه وتزكيه وتباهي بأصحابه ملائكة السماء؛ حيث روي عنه صلى الله عليه
وسلم أنه خرج على حِلَقٍ من أصحابه، فقال: (ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر
الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله
يباهي بكم الملائكة) [13] .
ومن هنا ندرك كم لهذا العمل العظيم من أعمال الحج من آثار كونية!
وكم له من آثار باطنية تأخذ بتلابيب النفس، ويتراقص لها القلب لهفة وحباً
وشوقاً! وذلك استجابة لدعاء الخليل عليه السلام الذي رفعه ذات يوم من أيام هذا
المشروع العظيم: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ] [إبراهيم: 37] .
لذا فهو إعلان مادي بالالتزام بعهد الانسلاخ، والتحول من الماضي بكل
سلبياته والدخول إلى المستقبل المنشود من خلال بوابة الحاضر.
والدعاة العاملون يعون جيداً مغزى هذا العمل، ودلالاته الكثيرة، وأهمية تلك
النقلة، والعبور من مرحلة التفلُّت إلى مرحلة العمل من أجل أداء هذه الشعيرة
الإسلامية الكبرى.
لبنة التربية:
عند هذه المواقيت المكانية، وأثناء المواقيت الزمانية للحج يبدأ المسلم رحلته
المباركة، ويحدد نيته فيختار أحد الأنساك الثلاثة: إما التمتع، أو الإفراد، أو
القِران.
وكذلك عندما ينهي رحلته يكون على أحد الخيارين: إما التعجل في نهاية
اليوم الثاني عشر وقبل غروب شمسه، أو أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر.
وبتدبر هذه الخيارات سواء في بداية الرحلة أو في نهايتها التي بينها الرسول
صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أي من الأئمة، وكذلك في اختلاف الفقهاء في
أفضلية أي من الأنساك على غيرها، وبتدبر هذه الرحمة الإلهية في قوله سبحانه:
[فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى واتَّقُوا اللَّهَ
واعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ] [البقرة: 203] ، وبالنظرة الشمولية العامة،
والغوص في المغزى البعيد للنصوص، وعدم قصرها على موضوع الحج، بل
بالتوسع في معناها البعيد، ومن هذا المنطلق المنهجي نجد أن هذه النظرة لهذه
الركيزة القائمة على تدبر الخيارات في رحلة الحاج تفتح باباً عظيماً في المنهج،
وتكشف أضواءاً على قضيةٍ طالما شغلت الكثيرين في مختلف العصور؛ ألا وهي
(قضية تعدد الصواب) ، وهي من أهم جوانب إعادة صياغة العقلية المسلمة
وركائزها التي ندعو إليها ليزيد رصيدنا من هذه العقليات التي تفقه وتعي (فقه
الموازنات) أو فقه
الترجيح، وهو الفقه الذي على أساسه يقوم بنيان (السياسة الشرعية) .
ولا ننسى الفقه الآخر المرتبط بهذا الفقه ويلازمه وقد يتداخل معه؛ ألا وهو
(فقه الأولويات) .
فعلى أساس هذين الفقهين يتم الترجيح والموازنة بين الاختيارات على أساس
الأصوب والأوْلى.
وفي النهاية نخلص إلى أن ذلك من علامات سعة المنهج ومرونة الشريعة،
وكذلك من علامات نضج حاملي هذا المنهج وثقتهم في سمو فكرتهم التي يدعون
إليها وعلوها، وهي أيضاً دلالة بارزة على سعة أفق دعاة مشروعه الحضاري.
وإذا كان لهذه القضايا أهميتها في الماضي فإن هذه الأهمية تتضاعف في حلقة
الصراع والتدافع الحضاري المعاصرة أمام تيارات ومشاريع مناوئة يُلقي حاملوها
بالتهم جزافاً على حاملي المشروع الحضاري الإسلامي، ويتهمونهم بالجمود
والتحجر وأحادية النظرة.
آلامٌ ... وآمال:
ضرورة إيجاد محور تغييري واحد: ثم يبدأ الحاج طوافه، فيبدؤه باستلام
الحجر الأسود بيده اليمنى ويقبِّله، فإن لم يتيسر تقبيله قبَّل يده إن استلمه بها، فإن
لم يتيسر ذلك، فإنه يستقبله ويشير إليه بيده إشارة ولا يقبِّلها، قائلاً: بسم الله والله
أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءاً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد
صلى الله عليه وسلم.
ثم يستلم الركن اليماني بيمناه، ويكمل سبعة أشواط مع مراعاة سُنَّتَيْ
الاضطباع والرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى.
وحول هذا الركن من أركان الحج، ومن خلال تأملاتنا التي تدور من الجانب
الذي يعنينا في هذه الدراسة وهو البعد التربوي له نجد أننا أمام عدة قضايا مهمة:
أولها: عندما يرنو المسلم إلى هذه الأعداد الغفيرة من كل جنس ولون، ومن
كل أرض وصقع، ومن كل لسان ولغة، وكيف توحدت في زيها، وفي خطواتها
ونداءاتها.
لذا فإننا نؤكد أن هذا الدين هو الفكرة الموثوق بها والوحيدة المرشحة من قِبَلِ
الحق سبحانه ركيزةً لتجميع الأمة كل الأمة بعد إخفاق الأفكار الأخرى التي
استوردت على أيدي حفنة من بني جلدتنا، فكانت كالنباتات الشيطانية الغريبة على
تربتنا.
ثانيها: أهمية وجود القضية المحورية التي لا بد منها لإيقاظ الأمة كل الأمة
لتكون مشعلاً يبث الحماسة، وعاملاً يحرك مشاعر الجميع سواء الفرد أو الأمة.
فبرغم توحد اللباس والخطوات والكلمات لهذه الجموع الغفيرة إلا أن المشكلة
هي وجود القضية أو الفكرة التي توحد اهتمامات الأمة، وتحرك جماهير الشارع.
ولقد حاول المخلصون مراراً أن يوجدوا المشروع الذي يجمع شمل الأمة،
والذي يشعل حماس أبناء الأمة؛ فإن أمة لا يجمعها قضية خطيرة ومصيرية مثل
ضياع أوَّل قبلتيها ومعراج رسولها الخاتم صلى الله عليه وسلم وموطن مقدسات كل
الرسالات السماوية فلن تجمعها قضايا أخرى.
وللأسف يغفل كثير من أبناء الأمة الإسلامية عن هذه القضية التي لا يختلف
عليها اثنان لتعبئة الأمة حوله، ولتوجيه الأنظار للخطر المحدق بالجميع، ومن
أجل مناهضة المشروع الصهيوني الغربي الذي يهدد كل الأمة.
أما بالنسبة للفرد المسلم فالكل يطوف ظاهرياً حول محور واحد، والكل يردد
الكلمات نفسها، والكل يسكب عبراته، ولكن كلٌ يبكي على ليلاه، حقاً: (إنما
الأعمال بالنيات) [14] .
ثالثها: أهمية التنظيم؛ وهو ما يُعرف بفقه تنسيق الجهود وتوفير الطاقات،
وتوظيف الإمكانات. وهذه القضية تبدو واضحة في كل أعمال الحج؛ ففي وقت
معين وفي أماكن معينة تسير هذه الجموع المليونية في سلاسة وفي يسر وفي نظام
عجيب ومعجز، وما كان هذا ليتأتى إلا بالتنظيم الجيد والدقيق الذي وضعه صلى
الله عليه وسلم عندما حج سنة عشر من الهجرة، وتبعه المسلمون حتى يومنا هذا
دون تبديل أو تحريف.
رابعها: عندما ينظر الداعية إلى هذه الجموع المليونية نظرة ذات بُعد كمي؛
فيملأ جوانحه الأمل، ويتذكر مؤسس هذا المشروع العظيم؛ يتذكر الخليل عليه
السلام وهو يقف وحيداً، ويؤذن بالحج كما أمره الحق سبحانه (نادِ وعلينا البلاغ) ، فتكون النتيجة هي هذه الجموع التي لا تُحصى، والتي تأتي من كل حدب
وصوب، حتى قيام الساعة،
مشاة وراكبين، وكلهم شوق وبقلوب تهوي إلى هذا المكان الطاهر.
وهذا ما يؤكد أهمية فقه الدور المطلوب وأجره الموعود؛ فالداعية عليه البلاغ، والحق سبحانه يرعى النتائج بعد ذلك، ويبارك في الأجر العظيم الذي ينتظر
الداعية عند القيام بوظيفته البلاغية.
وكذلك حَمَلَةُ الفكرة الربانية العظيمة، ودعاة هذا المشروع الحضاري، لقد
كلفهم الحق سبحانه بوظيفة، أو دور معين، ووعدهم بالأجر العظيم على حسن أداء
تلك الوظيفة.
ولا نريد أن نكرر هنا ما أكدنا عليه ووضحناه آنفاً، ولكننا نذكِّر الداعية أن
يفقه وظيفته من حيث ماهيتها، ومنهجية تنفيذها، والأجر المترتب عليها، وكيفية
تلقي التكاليف، وحسن تنفيذها، وحسن عرض البضاعة الربانية العظيمة،
وضرورة أن يصل إلى درجة البلاغ المبين للفكرة، ثم وهذا هو الأهم عليه أن
يستشعر هذا التفاعل والتعاضد الفريد بين دور البشر، ودور المدد الرباني في تنفيذ
جمع شمل الأمة المنشود، وكيف أن هذه النقطة هي النبراس الذي يعطي الأمل
للعاملين، وهو العلامة الفارقة التي تميزهم عن غيرهم من أصحاب المشاريع
المغايرة.
خامسها: عندما يُتْبِع الداعية هذه النظرة، بنظرة أخرى ذات بُعدٍ نوعي؛
فيملأ قلبه الأسى عندما يتأمل ذلك الفارق الشاسع بين ثقل تلك الأعداد القليلة التي
كانت تطوف معه صلى الله عليه وسلم وأثرها في صنع أحداث الكون حولها،
ودورها في صنع حركة التاريخ، وبين ثقل هذه الجموع المعاصرة، وهم يطوفون
الطواف نفسه، ويرددون الكلمات نفسها، ولكن أصابهم مرض العصر، مرض
الغثائية، أو الإمَّعية، وكيف تداعت عليهم أرذل الأمم، فشتتت جموعهم،
وأصبحوا على هامش الأحداث.
وهي مرحلة القصعة التي حذر منها صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى
الأمم عليكم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ !
قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور
عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله وما
الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [15] .
ويعود الداعية بعد تدبره لهذا الملمح التربوي، إلى نظرة واقعية يراجع بها
منهجيته، فيدرك أهمية التركيز على التربية، ويهتم بالتقييم النوعي لثماره، ولا
يغتر بالتجمعات الغثائية القطيعية.
سادسها: عندما يستلم المسلم الحجر الأسود، تعاوده السكينة، ويطمع في
وعده صلى الله عليه وسلم: (إن مسحهما يحطَّان الخطايا حطّاً) [16] .
سابعها: عندما يتأمل الداعية مشروعية سُنَّة الرَّمَل في الأشواط الثلاثة الأولى، ويدرك مغزى حرصه صلى الله عليه وسلم أن يكون سلوك المسلمين وحركتهم
بمنهجهم عنواناً يرد كيد الأعداء، ويطمس الشبهات، ويزيل الإشاعات التي رددتها
يهود حول حُمَّى يثرب التي أصابت المسلمين.
ثم يأسى على واقع أمته وكيف أن مجرد تلك الإشاعات حول الوهن الصحي
الظاهري الذي زعموا أنه أصاب الصحابة رضوان الله عليهم قد استحالت إلى
حقيقة مُرَّة وهو إصابة مسلمي عصرنا بوهن أخطر، وهو الوهن الباطني،
والهزيمة الداخلية النفسية.
ومن خلال تلك القضايا التي ذكرنا طرفاً منها يتبين للداعية مدى أهمية
المشاركة في جولة التدافع الحضارية المعاصرة، وذلك بحمل المشروع الحضاري
الإسلامي؛ فبه وبه وحده تستطيع أمتنا أن تجابه المشروع الصهيوني الغربي.
فهو المشروع الذي به تتوحد اهتمامات الأمة وجهودها، فيكون تمحورها
وطوافها حول محور تغييري واحد، وذلك للخروج من مرحلة القصعة؛ فلعل هذه
المشاركة تزيل الوهن والغثائية، وتُري أعداء الأمة من المشاركين معنى القوة
والعزة.
ساعة ... وساعة:
تنمية خُلق التيسير: بعد إتمام الطواف، وقبل أن يبدأ السعي، يُسن للحاج أن
يصلي ركعتين جاعلاً مقام إبراهيم عليه السلام بينه وبين الكعبة ولو بَعُدَ، وإن لم
يتيسر له صلَّى في أي موضع، ويُستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة
(الكافرون) ، وفي الثانية (الإخلاص) .
بعد ذلك يُستحب له أن يذهب إلى زمزم ويشرب منها، ويصب على رأسه،
وإن تيسر له رجع وكبَّر واستلم الحجر الأسود.
ولو تدبرنا نوعية تلك السنن وموضعها لوجدناها تتكرر بصفات أخرى طوال
رحلة الحج، ونجدها أيضاً تفصل بين كل عملين شاقين.
أو بمعنى آخر كأنها لحظات لالتقاط الأنفاس قبل الشروع في الأعمال التي
تتطلب جهداً ومشقة.
وتدبر جلسات الاستراحة الإيمانية المتعددة تلك، والتي تأتي على هيئات
مختلفة عملاً ووقتاً مثل يوم التروية قبل الخروج إلى عرفة، والمبيت بالمزدلفة قبل
أعمال يوم النحر الشاقة من رمي ونحر وحلق وطواف.
وهذا الملمح التربوي يفتح باباً عظيماً في المنهج، ويدلنا على سمة عظيمة
من سمات ذلك المشروع الحضاري، وهو مراعاة الطبيعة البشرية، ومراعاة
قدرات المشاركين في حمله، وكذلك يدل على يسر هذا المنهج وواقعيته وملاءمته
للجميع.
وتدبر كيف أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قد راعى قدرات أصحابه
رضوان الله عليهم، فجعل ذروة سنام الدين وهو الجهاد درجات ومراتب، فلم يُحرَم
أحد من شرف القيام به، حتى وإن قصرت همته، وضعفت قدراته، بل وإن
اعترف بها؛ وذلك لأن الجهاد هو سبيل الأمة ومصدر عزها، ولا بد من أن
يشارك الجميع في الركب؛ لذا صُنِّف الحج على أنه جهاد الضعفاء، فعن الحسن
بن علي رضي الله عنهما قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني جبان، إني ضعيف، فقال صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ إلى جهادٍ لا شوكة فيه:
الحج) [17] .
وكان منهجه صلى الله عليه وسلم هو الوسطية، بمراعاة الفطرة الإنسانية،
وحدود الاستطاعة البشرية: (مَهْ، عليكم بما تُطيقون، فوالله! لا يملُ الله حتى
تملوا) [18] .
وذلك روح الدين، وأساس القاعدة الربانية التي يقوم عليها المنهج الإسلامي:
[يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] [البقرة: 185] .
ويخرج الداعية من هذه الركيزة، بأن يراعي الطبيعة البشرية، وقدرات
المشاركين، ويوظف كلاًّ في مكانه، ولا يُشعر أحداً بأفضلية مكانته على الآخر.
وإن كان الركب يحتاج إلى طلائع قوية، ودعائم صلبة تتحمل التبعات فإن
الصف أيضاً يضم بجانب هؤلاء الرواحل آخرين من أنصاف الرواحل، والأقل
منهم درجة، أو درجات، ولكل قدراته وطاقته التي توضع في عين الاعتبار،
ولكل دوره الذي لا يستطيع أحد غيره القيام به، ولكل ثغره الذي لا يستطيع أن
يحرسه غيره، بل ولكل فضله ومكانته التي لا يمكن لأحد بخسها.
وعلى الداعية كذلك ألا يهمل فترات الترويح على النفس، ولكن بشرط أن
تنضبط بشرعيتها مع الأهداف والغايات الربانية للمسيرة؛ فهو المجاهد الذي لا
ينسى قضيته حتى وإن استراح لبعض الوقت، وكذلك يجب ألا تطول فترات
الراحة المباحة والاستجمام البريء فتنسيه مهمته.
وهو من باب الوسطية؛ أو التوازن والاعتدال، كما في نصيحته صلى الله
عليه وسلم: (يا حنظلة! ساعةً وساعةً) [19] .
الشقائق:
دور المرأة في المشروع الحضاري: بعد ذلك يتجه الحاج إلى المسعى، فإذا
دنا من الصفا تلا قوله سبحانه: [إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ومَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]
[البقرة: 158] ، ثم
يقول: (نبدأ بما بدأ به الله) . ثم يبدأ من الصفا فيرتقي ثم ينظر إلى الكعبة،
فيكبر ويوحد، ويدعو ثلاثاً من خيري الدنيا والآخرة، ثم يبدأ السعي متجهاً إلى
المروة ويذكر الله عز وجل ويدعو وهو يمشي. ويركض هرولة بين الميلين. ثم
يمشي حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع كما صنع على الصفا. ثم يعود إلى
الصفا ويكرر ذلك سبعاً.
وعندما نتأمل هذا العمل العظيم من أركان الحج أو واجباته وذلك من زاوية
بحثنا المتواضع، ومغزاه التربوي من حيث دلالاته باعتباره ركيزة من ركائز
المشروع الحضاري فإننا نرى بدايةً أنه قد شُرع للأمة كما في قوله صلى الله عليه
وسلم: (اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي) [20] ، شُرع ليربط الأمة بتاريخها
الناصع، ويذكر الأمة بجذورها،
وأصالتها تذكرة دائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، يذكرها بتلك
التجربة العظيمة، والجهد الشاق الذي قامت به هاجر الصابرة المؤمنة المثابرة،
عليها السلام وهي تبحث عن الماء لرضيعها ولها بعد أن نفد الماء الذي كان معها،
و (عطشت، وعطش ابنها أي انقطع لبنها فعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى
أي يبكي ويتقلب، وفي رواية: يتلبط أي يتمرغ ويضرب الأرض برجليه، وفي
أخرى: يتلمظ أي يخرج لسانه فيبل به شفتيه وكانت سنه حينئذ سنتين، فانطلقت
كراهيةَ أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه،
ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى
إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، أي قميصها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة، فقامت عليه، فنظرت: هل ترى أحداً،
فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فذلك سعي الناس بينهما. فلما أشرفت على
المروة سمعت صوتاً؛ فقالت: صهٍ تريد نفسها ثم تسمَّعت، فسمعت أيضاً! فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواثٌ، أي ساعدني لأني سمعتك فإذا هي بالمَلَكِ أي
جبريل عليه السلام عند ماء زمزم فبحث بعَقبهِ أي عظم مؤخر القدم أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء) [21] .
وبتدبر هذه التجربة العظيمة نستطيع أن نتلمس بعض الملامح التربوية حول
بعض القضايا الفرعية، ثم حول القضية العظيمة والمغزى الرفيع الذي نخلص إليه
وذلك في الحلقة التالية إن شاء الله.