مجله البيان (صفحة 3346)

الافتتاحية

اللغة والفكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته وسلم، وبعد:

فلا شك أن اللغة وعاء الفكر؛ ولذا كانت عناية السلف عظيمة بالحفاظ على

لغة القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، وازداد حرصهم ذلك بعد دخول الأعاجم

في دين الله وإقبالهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان منهم

من لا يعرف الألفاظ في أصل اللغة ولا قانونها، كما كان منهم وهذا هو الغالب

والأخطر من لا يعرف مراد الشارع بالألفاظ؛ لأنه لا يعرف سنته في الخطاب ولا

يحيط بجميع النصوص الوارجة في الموضوع محل الفهم أو البحث.

ومن جهة أخرى اهتم بعض أهل البدع باللغة العربية، فبرز منهم أكثر من

عالم لغوي؛ لأن الوجوه اللغوية كانت طريقهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه

وبابهم إلى التأويل عندما أعياهم الاستدلال على بدعهم بنصوص ثابتة في القرآن

والسنة، فأخذوا يبحثون في ضعيف اللغة وشاذها ومرجوحها عما يشوشون به على

الأصول الصحيحة التي لم تستسغها عقولها أو أهواؤهم، حتى شاع بين بعض

النحاة قولهم: (إن نزل رغيف من السماء مكتوب عليه حرام، قلنا لغيرنا) ، دلالة

على مقدرتهم في صرف أوضح الكلام وأشده صراحة إلى معنى آخر غير المعنى

الظاهر.

وعندما انفتح الفكر الإسلامي على فلسفات الأمم الأخرى ونتاجهم العقلي دخلت

على المسلمين أفكار جديدة عبر ألفاظ عربية أخذت مفاهيم محدثة أضيفت على

المعنى اللغوي الأصلي أو انحرفت به، كالجوهر والفرد والمحدث والقديم ...

وهكذا رأينا أن المعركة الفكرية بين أهل السنة وسائر الفرق كانت معركة لغوية في

جانب كبير منها.

وبالأداة نفسها (اللغة) نفشت مفاهيم جديدة كالعلمانية والوطنية والقومية

والتقدمية والرجعية في عقول المسلمين العرب في العقود المتأخرة؛ فلقد كان من

رواد النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي

بعض المتضلعين في اللغة والباحثين في علومها من النصارى وأصحاب الزيغ من

تلاميذ المستشرقين، أمثال: بطرس وسليم البستاني، وناصيف وإبراهيم اليازجي، ولويس شيخو، ولويس معلوف.. بل حاول بعضهم كس هذا الوعاء الفكري تماما

من خلال دعوات مشبوهة إلى استبدال العامية بالفصحى في لغة الكتابة كما رأينا

عند أحمد لطفي السيد (أستاذ الجيل كما يسميه العلمانيون) ، أو استبدال الحروف

اللاتينية بالحروف العربية كما رأينا عند سلامة موسى، وهذا ما فعله أتاتورك لقطع

صلة تركيا بالعروبة والإسلام.

وإضافة إلى الأهداف السابق ذكرها للاهتمام باللغة ظهر في هذه المرحلة

الزمنية وما بعدها التوجه إى الطعن في الإسلام من خلال أبحاث لغوية، كما في

كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وعند أمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله في

كتاب: (الفن القصصي في القرآن الكريم) ثم في كتابات التلاميذ المعاصرين أمثال

سيد حامد النساج، ونصر أبو زيد.. وغيرهم.

كما ظهر التوجه أيضا إلى امتلاك ناصية الأشكال التعبيرية الجديدة: كالمقال، والقصة، والرواية، والمسرحية لاستخدامها أداة لإيصال الأفكار الجديدة؛ فلمعت

أسماء: كفرح أنطون، وجوجي زيدان، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب

محفوظ. وبتحويل أعمال أمثال هؤلاء إلى أعمال فنية (إذاعية وسينيمائية

وتلفزيونية) انتشرت الأفكار التي أرادوا الترويج لها على نطاق واسع بين عوام

الأمة وخاصتهم.

وما زال هذا الأسلوب (استخدام اللغة لتقرير أفكار مستهدفة) متبعا ومؤثرا

حتى وقتنا الراهن، ومن الأمثلة الحية على ذلك: معالجة الأستاذ حسين معلوم

لمفاهيم القومية والحكم والتقدم على صفحات جريدة الحياة [1] .

وإذا كان المقام لا يتسع هنا لمناقشة جميع ما ورد في هذه المقالات فإنه لا

يسعنا إلا أن نشير إلى مأخذين على مقال واحد هو مقال: الإسلام والقومية:

أولا: انطلق الكاتب في قبول فكرة القومية المعاصرة من التحليل اللغوي

والاستعمال القرآني لمادة قوم، مما جعله يعد القوم بطونا وعائلات، وتارة شعب

مصر، وطورا الملة الموسوية، وهذا كله حق، ولكنه ليس كل الحق في الموضوع

الذي يعالجه؛ فإن الدعوة إلى القومية في منشئها وحاضرها لم تهدف إلى الاقتصار

على هذا المعنى اللغوي فقط، ولكنها أرادت جعل القومية رابطة يجتمع عليها

مجموعة من البشر تذوب فيها جميع الروابط الأخرى ومنها الدينية بحيث تعلو

القومية وتقدم عليها وكأنها عقيدة أخرى، فإذا قدمنا عليها أي ولاء آخر كالإسلام

مثلا لم يصبح لهذه القومية أي معنى عندهم، وهذا ليس كلامنا ولكنه تقرير روادها

أنفسهم. يقول الدكتور نبيه أمين فارس: (لقد غرس هؤلاء (الرواد الأوائل) بذرة

القومية والوطنية، وبعثوا حركة مستوحاة من تاريخ العرب ومآثرهم تستهدف مثلا

قومية بدلا من المثل الدينية والطائفية) [2] ، وهكذا فإن القومية عند دعاتها تجمع

بالإخاء المسلم مع النصراني واليهودي أو مع البوذي والهندوسي إذا كانوا يعيشون

في إطار واحد لقوم أو قطر، ولكنها تفرقه عن أخيه المسلم وقد يعاديه إذا كان من

قوم آخرين.

ثانيا: يقرر الكاتب أن الفكرة هي ابنة واقعها الاجتماعي (وهذا كلام صحيح

في العموم، ولكننا نعجب أنه لم يطبق ذلك على فكرة نشوء القومية ذاتها، بل ذهب

عند تطبيقها إلى فكرة أخرى مترتبه عليها هي كون القومية نوع من أنواع العصبية

المرفوضة في الإسلام) ، فهو يرى أن هذه الفكرة الأخيرة سكنت الفكر الإسلامي

عن طريق سيد قطب الذي نقلها بدوره عن أبي الأعلى المودودي رحمهما الله وهذا

الأخير كان متأثرا بواقعه الاجتماعي في الهند؛ حيث كانت فكرة القومية سبيلا

لسيطرة الأغلبية الهندوسية على الأقلية المسلمة هناك (هذا بالإضافة إلى أنه رآها

بمحتواها العلماني أيديولوجية معادية للإسلام) .

وإذا كنا هنا لا نناقش ولا نهتم بضحة دعوى التأثير والتأثر بين المفكرين

الإسلاميين المذكورين فإننا نذكر بأن فكرة القومية بمعناها المضاد للإسلام سكنت

الفكر العربي القومي قبل مولد المودودي وسيد قطب رحمهما الله، بل كان هذا

المعنى مصاحبا لهذه الفكرة منذ مولدها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

الميلادي على يد بعض نصارى الشام أمثال بطرس البستاني وناصيف اليازجي،

وهذه حقيقة يقررها كتاب علمانيون ونصارى قبل أن يقررها الكتاب الإسلاميون،

ومن يراجع على سبيل المثال كتابات ألبرت حوراني وجورج أنطونيوس وساطع

الحصري لا يخالجه شك في ذلك، فلم يكن الواقع الاجتماعي في الهند هو الذي

أعطى هذا التصور عن القومية العربية بل كان تنظير المفكرين القوميين العربي

وخاصة في الشام هو الذي نحا هذا المنحى؛ رغبة في قطع الروابط مع المسلمين

غير العرب (العثمانيين) ؛ حيث كانوا جميعا منضوين تحت لواء دولة واحدة في

إطار الرابطة الإسلامية.

كما أن فكرة القومية بهذا المعنى مضادة بطبيعتها وليس بواقعها فقط للإسلام

الذي جاء فيه: [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: 10] أيا كانت أجناسهم

وقومياتهم، وفيه أيضا: [لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد

الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم] [المجادلة: 22] .

وبعد: فهل أمثال هذه المقالاتتعد تطبيقا لدعوات تكتيكية صدرت من بعض

القوميين واليساريين للمزاوجة بين الفكر القومي والإسلام، لتجديد الدعوة القومية،

وكسب الشارع العربي والاستفادة من طاقات الإسلاميين ورصيدهم الشعبي؟ إذا

كان الأمر كذلك فالواضح أنهم يريدون أن تكون القوامة في هذا التزاوج للفكر

القومي، وأن تكون اللغة والتاريخ شاهدي زور على ذلك! !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015