في دائرة الضوء
مأزق الفكرالدفاعي
د. محمد يحيى
يلاحظ المتابع لساحة الفكر والكتابة الإسلامية على مدى السنوات الماضية
بروز تيار من الكتابات والطروحات يمكن تسميته بالتوجه الدفاعي أو الاعتذاري أو
التسويغي كان من المظنون أن الفكر الإسلامي قد تجاوزه منذ عقود ثلاثة أو أربعة
من الزمان، وأنه عاد إلى الحجم الطبيعي الذي ينبغي له ليبدو مجردَ مكوَّن صغير
الحجم داخل الكم الفكري العام أو الطرح الثقافي في مجمله.
ويمثل هذا التطور في تصوري ردة إلى مطلع هذا القرن الميلادي عندما ساد
تيار فكري دفاعي التوجه وإن كانت هناك اختلافات جوهرية. إننا نستطيع القول
بصورة مجملة - وربما إلى حد التبسيط المخل -: إن التيار الدفاعي الفكري يعود
إلى القرون الأولى للإسلام؛ لكنه في ذلك الوقت كان ينصبُّ على الدفاع عن العقيدة
الإسلامية في وجه ما سمي بشبهات تثار ضدها من جانب أفراد أو جماعات تعيش
داخل الأمة الإسلامية وتتألف في غالبها من فلول أصحاب العقائد والمذاهب السابقة
على الإسلام، أو أناس لا عقيدة لهم أو ملة، أو مسلمين حدث لهم ضلالٌ في الفكر
أو زيغ عن قويم الاعتقاد. أما في طرحه الحديث فإن الفكر الدفاعي قد اتخذ منحى
يمكن تسميته بالاعتذاري أو التسويغي، وكان جل توجهه صوب (اتهامات وليس
شبهات) تأتي من خارج الأمة الإسلامية، وبالتحديد من دوائر التنصير
والاستشراق الأوروبية ثم الأمريكية، وهي في القرون: الثامن عشر، والتاسع
عشر، والعشرين الميلادية طليعة حركات الغزو الاستعماري والسيطرة الإمبريالية
في الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية.
هذا التحول والاختلاف في الفكر الدفاعي نحو الاعتذارية ونحو الخارج
التنصيري الاستعماري كان سمة المرحلة التي عاصرت مطلع هذا القرن أو نحوه
والتي شهدت صعود نجم هذا الفكر بل وتحوله إلى (نجم) الفكر الإسلامي عموما
بمعنى توليه صدارة طروحات هذا الفكر. غير أن التيار العام للفكر الإسلامي الذي
استعاد ثقته بالنفس واعتداده بالعقيدة والدين مع مضي عقود هذا القرن تجاوز
السقوط في أسر هيمنة الفكر الدفاعي، بل وأصبح إيجابي النزعة (هجومياً) إن
جاز التعبير بمعنى أنه أخذ يطور من نظراته وتحليلاته لشتى نواحي الحياة في ثقة
واعتزاز بالنفس دون الوقوع في الدائرة المفرغة لضرورة الدفاع عن النفس أمام
الاتهامات الأجنبية، وقد بلغ هذا التوجه الإيجابي (الهجومي) الذروة في عقدي
السبعينيات والثمانينيات مع صعود قوة الحركات والأفكار الإسلامية ونشاطها، وقوة
المؤسسات الدينية الإسلامية وتهاوي الأطروحات المضادة الواقعة تحت مظلة
العلمانية والتغريب التي عرفت في مذاهب سياسية وفكرية متنوعة يساراً ويميناً،
وساد نتيجة لهذا تصورٌ بأن مرحلة فقدان الثقة بالذات على أفضل الأحوال مرحلة
الاضطرار إلى تسويغ العقيدة والشريعة الإسلامية في وجه الطروحات العلمانية
والتنصيرية والاستشراقية القادمة من الغرب قد ولت.
ولكن حدثت تحولات معروفة في دنيا السياسة وأحداثها صبت جميعها في
توجه ضرب الحركات والطلائع الإسلامية السياسية والفكرية وصولاً نحو ضرب
أوضاع الإسلام نفسه ووجوده التاريخي والجغرافي الثابت. ولم يحدث هذا في
أطراف عالم الإسلام بل في مواقع القلب منه وفي بلدان تعتبر بؤرة عالم الإسلام
وعقله.
وإذا كانت ما تسمى بالنخب السياسية والثقافية والاجتماعية في هذه البلدان
الإسلامية هي التي تولت كبر هذا التدبير دفاعاً عن مصالحها ووجودها إلا أن
الغرب الذي تتصل به هذه الدوائر وتستمد منه التوجه والتوجيه والدعم بأنواعه -
ولا نقول الوجود - كان له الباع الأكبر في تحديد هدف ضرب الحركات الإسلامية
وأساليبه ومعها الدين نفسه. وقد أصبحت هذه كلها الآن أموراً معروفة تحت عناوين
الخطر الأخضر أو الأصولي، أو صراع الحضارات والثقافات، أو مكافحة إرهاب
الإسلام والمسلمين، أو معركة تحديث وعصرنة الرجعية الإسلامية ... إلخ وكان
من أبرز تدبيرات الغرب وأتباعه بين ظهراني المسلمين في خضم هذه المعارك
عملية خبيثة هدفت في غايتها إلى إعادة إحياء النزعة الدفاعية بطابع اعتذاري
تسويغي سلبي منكسر، وإحلالها محل طروحات الفكر الإسلامي الإيجابي التي
أخذت تملأ الساحة الفكرية والسياسية والاقتصادية والأدبية والثقافية والقانونية في
بلاد الإسلام.
كانت الصورة التي أَقَضَّتْ مضاجع الغربيين والدوائر اللادينية المتسلطة على
المسلمين في بلادهم هي تهاوي أطروحات الفكر العلماني المتغرب على كثرتها وقوة
النفوذ المستخدم في ترويجها وإفلاسها تاركة الساحة لفكر إسلامي جديد يملؤها
بأطروحات إيجابية فعالة وهو ممتلئ الثقة بالنفس، ومعتد بما لديه وليس منكسراً أو
متخاذلاً أمام ما يأتي به العلمانيون والغرب، ولهذا كان الهدف الاستراتيجي الأعلى
إعادة الصورة القديمة إلى ما كانت عليه قبل حوالي القرن من الزمان. كان
المطلوب هدفاً عامّاً هو إخلاء الساحة من الفكر الإسلامي الصاعد والواثق من نفسه
والإيجابي ليحل محله فكر متخاذل متراجع سلبي ذليل لا يقدم سوى الاعتذارات
والتسويغات في وجه طروح علمانية وتغريبية يعاد بث الحياة فيها بعد موتها، ويعاد
طرحها على الساحة، أو قل: فرضها فرضاً بعد أن أثبتت الأحداث على مدى
سنوات طويلة تهافتها، وبعد أن انفض من حولها من انفض إلا القليل جداً ممن
آمنوا بها.
ولا حاجة بنا إلى ذكر الوسائل التي أصبحت معروفة ومستخدمة في تحقيق
هذا الهدف الاستراتيجي العام، وقد شملت الأساليب غير الموضوعية من ضربات
قمعية وأمنية، ومنع وحظر، وملاحقة للنشاطات الفكرية الإسلامية، ومصادرات
لكتب ومجلات، ولجوء إلى وسائل الإعلام والتسلية القوية لتشويه السمعة وطمس
الصورة المشرقة وتضليل الجماهير، والدفع برموز مطعون فيها ومشبوهة وسقيمة
الولاء والعقيدة لكي تتحول في الإعلام إلى (مفكرين إسلاميين) يوصفون بالعقلانية
والاستنارة ويُستفتون في كل الشؤون! غير أن أبرز أدوات هذه العملية كانت طرح
سيل من (الاتهامات) (وليس الشبهات أو الأسئلة) من جانب أجهزة الإعلام الغربية
ومراكز الأبحاث والجامعات ودوائر السياسة والكنائس وغيرها؛ بحيث تصبح هذه
الاتهامات هي المحرك والباعث والمسوِّغ للتيار الدفاعي الاعتذاري المراد إحياؤه
كي ينطلق.
إن المسألة اتخذت طابعاً (تعاونياَ) مريباً؛ فالغرب يستمر في توجيه
الاتهامات بشكل مستمر أشبه بالطقوس الدينية، ولا يحول دون توجيه هذه
الاتهامات السيل المستمر من الردود عليها.
وعلى الجانب الآخر يبرز أرباب الفكر الاعتذاري ليستمروا في اجترار
بضاعة (الردود) على الاتهامات ولا يحول دون الاجترار أن هذه الاتهامات قد
قُتلت رداً وتفنيداً منذ مطلع القرن. لكن التفسير لهذه الدائرة المفرغة من الاتهامات
والردود هو أنها ليست في الحقيقة عملية طبعية من شبهات تثار ثم يرد عليها ويغلق
الملف، ولكنها عملية مدبرة ومخططة يقصد بها في نهاية المطاف تسويغ إحياء
الفكر الاعتذاري التراجعي ليحل محل الفكر الإيجابي الواثق في الساحة الإسلامية؛
وإلا، فمتى يرد على اتهامات الأجانب؟
هذه هي الخلفية لصعود الفكر الدفاعي في السنوات الأخيرة، وهو فكر يتسم
كما قلنا لا بالرد على شبهات تثار في الداخل حول العقيدة بل لاتهامات وترهات ترد
من الخارج في إطار تدبير معين، وهو فكر لا يظهر ليحتل وضعاً طبعياً داخل
منظومة متكاملة من الطروحات الفكرية الإيجابية ولكن يشغل الحيز الأكبر وإن لم
يكن الوحيد داخل الإنتاج الفكري الإسلامي، وهو فكر لا يأتي ليبني على
الإنجازات الكبيرة التي تحققت للفكر والفعل الإسلامي بل ليحدث ردة وانكساراً
واستخذاءاً وتراجعاً يظهر معه الإسلام وكأنه موضوع في قفص اتهام يعاني من
مشاكل خطيرة أو كأنه دين مطعون فيه مليء بالعيوب والنواقص تؤكدها ولا تنفيها
ردود الفعل للفكر الدفاعي التسويغي، وهذا الفكر في طرحه الأخير يعاني من مأزق
أو قل مآزق جسيمة فوق ما سلف ذكره من عيوب نوجزه في أنه: يهدم وينقض من
حيث ادَّعى البناء، ويتراجع وينتكس من حيث أراد الدفاع في زعمه، ويثبت
التهمة من حيث أراد أن ينفيها، ويقر بجهة الاتهام ويؤكدها من حيث زعم أنه أراد
تخطئتها.
وعلى ضوء خلفية الفكر الدفاعي التي بسطناها يتحدد مأزقه أو مآزق الفكر
الدفاعي في عدة محاور يحسن تسليط الضوء عليها؛ لأن هذا التوجه أصبح الآن
مفروضاً، وكأنه اتجاه شبه وحيد للفكر الإسلامي. وأبرز مشكلة لهذا التوجه ...
الاعتذاري هي أنه حوَّل المسألة الفكرية والثقافية إلى ما يشبه القضية الجنائية أو
الإجرامية؛ فهناك في طروحات هذا الفكر ثنائية حاكمة هي ثنائية الادعاء أو النيابة
والدفاع، هناك جهة توجه الاتهام تلو الاتهام ولا تني وهي جهة الغرب ودوائره
المختلفة تقابلها جهة تزعم أنها تدافع عن هذه الاتهامات وتدحضها، ومن الجلي أن
التيار الدفاعي قد فرط منذ البداية بعنصر التساوي والتكافؤ؛ حيث أقر للغرب
بشعبه وجهاته بحق توجيه الاتهام وشرعية ذلك، ثم وضع نفسه ومعه الإسلام الذي
يدعي تمثيله في موضع الطرف الأضعف والموصوم منذ البداية بالاتهامات
المتنوعة. ومن الواضح ألا تكافؤ هناك بين المدعي والمدعى عليه، ولا سيما أن المتهم قد أقر بشرعية سلطة الادعاء وأحقيتها في توجيه التهم.
ولا أتصور أنه يمكن في إطار تحويل المسألة الفكرية إلى شبه محاكمة جنائية
ذات طرفين: قوي، وضعيف أن تكون هناك قيمة تذكر لأي أطروحات تتمخض
عنها، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أن الفكر الدفاعي قد وضع نفسه تحت رحمة
اتهامات الغرب وحصر جهوده في الرد المزعوم عليها، تاركاً للغرب أو من يمثلونه
الحرية في تحديد نطاق هذه الاتهامات ورسمها، بينما سجن نفسه هو في قفص الرد
عليها دون أن تكون له حرية طرح أي قضايا أخرى، أو حتى رد التهم على من
يطلقونها، وإلا تعرض لاتهام آخر بالتعصب وعدم الموضوعية.
ولعلنا نذكر هنا بالمناسبة أن ما يعيب العملية المسماة الآن بالحوار بين الأديان
والتي أصبحت الشغل المفروض على بعض المؤسسات الدينية الإسلامية في عالمنا
العربي هو أنها تجري في إطار هذا الفكر الدفاعي، وتحكمها قيوده؛ وعليه فلا
حوار هناك حقيقة؛ بل سيطرة من طرف يفرض شروط العملية ومحدداتها،
وإذعان من طرف آخر لا يملك إلا رد الفعل على التهم المحددة الموجهة. ...
وإذا كان الفكر الدفاعي أو بالأصح الاعتذاري الصادر من الجانب الإسلامي
المزعوم قد نسف أسسه منذ البداية بالتخلي عن حرية الحركة وحصر نفسه في
دائرة الرد على الاتهامات التي يوجهها من اعترف وأقر لهم بسهولة بمشروعية
توجيهها فإنه يعاني بعد هذا العيب القاتل من عيب آخر، وهو: إثبات التهمة من
حيث أريد نفيها؛ ذلك لأن السمة الغالبة على هذا الفكر الدفاعي الإسلامي (زعماً)
هي القول بفصلٍ بين الإسلام والمسلمين، ثم بين الإسلام (الصحيح) كما يقولون -
والإسلام الموجود في كتب الفقه والشريعة والدراسات الدينية وهو مجرد (تفسير)
للإسلام حسب الادعاء الرائج.
وإذا كانت الاتهامات الغربية توجه الآن بالأكثر إلى مجالات الشريعة
الإسلامية أو التاريخ الإسلامي القريب والحديث أو تراث المسلمين وعاداتهم (بينما
كانت في الماضي توجه ضد العقيدة نفسها وهو ما لم يعد مقبولاً كثيراً هذه الأيام في
ظل ادعاء الغرب بالتسامح وعدم تحقير الأديان) فإن الأسلوب المفضل والغالب عند
الفكر الدفاعي في الرد على هذه الاتهامات هو القول بأنها بالفعل صحيحة وثابتة،
ولكن ذلك بسبب ممارسات الغالبية العظمى أو كل المسلمين الذين خرجوا عن
الإسلام (الصحيح) ؛ فالمسلمون عند الفكر الدفاعي مدانون بالتهم التي يطلقها
الإعلام الغربي (من التعصب والإرهاب إلى اضطهاد النساء وإنكار حقوق الإنسان) ، ولكن هؤلاء المسلمين لا يمثلون الإسلام (الصحيح) أو يمثلون على الأقل
تفسيرات سيئة ورجعية للإسلام!
أما إذا حاولنا أن نعرف ما هو ذلك الإسلام الصحيح أو ذلك التفسير التقدمي
للإسلام الذي لا تنطبق عليه الاتهامات الغربية فسنجد في كتابات الاعتذاريين أنه
مسخ معلن متغرب يطلقون عليه اسم الإسلام الحقيقي الذي اكتشفوه هم بعد أربعة
عشر قرناً من المسلمين بعلمائهم وعامتهم! وهكذا ينتهي بنا الفكر الدفاعي ليس فقط
إلى إثبات التهم على المسلمين وتاريخهم بحجة أنهم لا يمثلون الإسلام الأصلي أو
التفسير (الصحيح) و (التقدمي) للإسلام؛ بل إنه يصل إلى نتيجة خطيرة وهي
أن الإسلام الحقيقي أو تفسيره السليم والعصري هو الذي يماثل آراء أهل الغرب
ومذاهبهم وقيمهم: أي من تصدر عنهم الاتهامات.
إن التصور المنطقي العام الذي نخرج به من تأمل مقولات أصحاب الفكر
الدفاعي وكتاباتهم هي أنهم - وقد انطلقوا بزعم رد اتهامات معينة أو بتصحيح
(صورة الإسلام) في الغرب حسب تعبيرهم الشائع ينتهون إلى إثبات التهم على
المسلمين مع نفيها عن الإسلام؛ لكنهم عندما يتحدثون عن هذا الإسلام الذي ينفون
عنه التهم نجد أنهم يقدمون - باسم (التفسير) و (التأويل) للدين صورة هي شبه
متطابقة مع قيم الغرب المعاصر وعاداته ومذاهبه وحتى القديم منها. ولعل أشهر
الأمثلة على هذه النهاية ما عرفناه على امتداد العقود الماضية من دعاة يزعمون -
مثلاً - أن التفسير (الصحيح) لمقولات الشريعة الإسلامية في شؤون الأسرة يدل
على خطر تعدد الزوجات ومنع إيقاع الطلاق من جانب الرجل، وتقييد قوامة
الرجل على أهل بيته وكلها عادات أو ممارسات تطابق الفكر المسيحي الليبرالي
الوضعي الذي هيمن على الغرب في القرن التاسع عشر وليس في القرن العشرين!
الفكر الاعتذاري يبدأ بإقرار واعتراف ساذج وغير نقدي بسلطة الغرب
واتخاذها مرجعيةً أعلى وأنضج فكرياً في توجيه الاتهامات ضد الطرف الأدنى
(وهذا هو رأي الفكر الدفاعي الضمني في الدين الذي يفترض أنه يمثله) ، وهذا
الفكر لا يجهد نفسه في تمحيص الفكر والوضعية الغربية التي تصدر الاتهامات ولا
يتعمق في خلفية مضامين هذه الاتهامات وحقيقتها، ولا يجول في خاطره بحث
الأسباب والبواعث غير الموضوعية وغير الفكرية (سياسية وتآمرية ودعائية) التي
تكمن وراء هذه الاتهامات، ولا يسعى لتحليل المؤسسات والدوائر الغربية التي
توجهها، إنه لا يفعل أياً من هذا ولا يوجه تهماً مماثلة أو حتى انتقادات متبصرة
لأوضاع الغرب الفكرية والاجتماعية والتاريخية، بل إنه يتقبل الاتهامات على
علتها حتى مع صدور معظمها عن دوائر - وبالذات الإعلام السيار - أصبحت
موضع شك وطعن في الغرب ذاته، وبعد هذا التقبل (المجاني) للاتهامات بروح
الفكر الدفاعي يفندها كما يتصور؛ فلا يخرج على الناس إلا بمبدأ ساذج وغريب،
وهو أنه لا علاقة بين الإسلام والمسلمين؛ فالأول بريء، وأما الآخرون فمدانون
بهذه التهم. والإسلام البريء من هذه الاتهامات الغربية الجزافية في صحفهم
الشعبية أو مؤسساتهم ذات التدبيرات الخفية ليس هو الإسلام الذي عرفه المسلمون
طيلة القرون؛ فهذا الآخر مدان؛ لأنه كتلة من تفسيرات الفقهاء المنحازين أو
المتأثرين ببيئات غابرة وأوضاع متخلفة.
إن الإسلام (البريء) في عرف جمهرة الدفاعيين هو إسلام جديد عصري
تقدمي يخرج على الناس لأول مرة وهو - وللمصادفة البحتة - يكاد يتطابق مع قيم
وتوجيهات وشرائع وأفضليات أهل الغرب ومشاربهم في الشؤون السياسية
والاجتماعية والفكرية؛ فهو إسلام ليبرالي (مستنير) عقلاني (نسوي) رأسمالي
يقدس حقوق الإنسان كما يفهمها الغرب ويبجل أديان الغرب.
إن النهاية التي يصل إليها الفكر الاعتذاري في طرحه الجديد حسب تصور
هذا الكاتب أو ذاك وبشكل عام مجرد تؤدي بنا إلى سقوط الفكر الدفاعي واختفائه؛
فأي دفاع يتبقى بعد أن تثبت التهمة على جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء على مر ...
التاريخ من ناحية، وتنفى عن مخلوق في علم الغيب يسمونه بالإسلام التقدمي أو
التفسير الصحيح؟ ! لكنه يتضح بعد رسم الملامح والخطوط أنه يتطابق مع
طروحات وتيارات الغرب السائدة، أقول: أي (دفاع) يتبقى بعد الإقرار بصحة
الاتهامات من ناحية، ثم (تبرئة) الإسلام المعلمَن المتغرب من ناحية أخرى؛ في
تأكيد غريب وشاذ بالمرجعية العليا والمشروعية والصحة للغرب؛ بحيث إن
(الإسلام) لا يمكن أن ينجو من التهم والشبهات إلا إذا قدمت له (صورة) هي طبق
الأصل أو قريبة جداً من الممارسات والتصورات الغربية؟ ! لقد قال ماركس عن
الرأسمالية: (إنها تحمل بين طياتها بذور فنائها) ونستطيع الآن القول بأن الفكر
الدفاعي - لو سلمنا بصحة النوايا - يحمل في طياته بذور فنائه كما أوضحنا.
ولطغيان الفكر الدفاعي الاعتذاري على ساحة الكتابة الإسلامية في السنوات
الأخيرة خلفية وسمات؛ فقد اكتشفنا أنه يعاني من مأزق أساس وهو أنه لا ينتهي في
الحقيقة إلى دحض شبهات حول الدين تصدر هنا وهناك بقدر ما ينغمس - بوعي أو
بدون وعي - في لعبة سقيمة تنصبها بعض الدوائر الغربية والإعلام هناك بأهداف
تحويل الفكر الإسلامي عن مسار الاهتمام والإبداع الإيجابي تطويراً لمفاهيم هذا
الدين، وبسطاً لها على مختلف جوانب الحياة، ورداً للطاقات الفكرية الإسلامية إلى
الاجترار العقيم لمقولات مملة ما تزال تتردد في جوهرها وإن اختلف الأسلوب منذ
قرن، وقلنا: إن الطابع الاعتذاري التراجعي الذي يطغى على هذا الفكر قد وسم
بنوع من الخوف - ولا أقول الاستخذاء - وعقد النقص والدونية أمام الطروحات
والاتهامات الغربية والعلمانية المحلية التي تتكرر بأسلوب يشبه الطقس الديني؛
بحيث إنه أصبح يسلم بالتهم ولا ينفيها ويقبلها على علتها دون أن يدحضها؛ بل
يسارع إلى الخروج (بتفسيرات) للإسلام تعترف ضمناً بالاتهامات لكنها تسعى من
خلال تقديم صورة معلمنة ومتغربة و (تقدمية) و (عصرية) و (مستنيرة) للدين
إلى أن ترضي الغربيين والعلمانيين أصحاب الاتهامات، والواقع أننا بدل الحديث
عن مأزق يعاني منه الفكر الدفاعي الاعتذاري يجدر بنا أن نتحدث عن (جنايات)
ينتجها هذا الفكر على الفكر الإسلامي.
إن أبرز هذه الجنايات هو رد الفكر الإسلامي من مواقع الطرح الإيجابي
الواثق العريض المساحة والواسع الاهتمام إلى مواقع التراجع والارتداد وتضييق
الجبهة وتقليص الاهتمام وزعزعة الثقة، والأمثلة على هذا كثيرة لا تعد؛ ففي
العقود القليلة الماضية كان هناك إنتاج كبير في ميادين الدراسات الاقتصادية
والإنسانية للخروج بفلسفات ومواقف ونظريات إسلامية فيها. أما الآن فالكتابة
الغالبة أو التي تحظى بالترويج الإعلامي الرسمي والغربي هي التي لا تقدم مثل هذه
الدراسات؛ بل التي تقتصر على الجانب التسويغي المتراجع وعلى زوايا ضيقة إلى
حد يبعث على الريبة.
فبدل تكوين نظرية اقتصادية إسلامية وجدنا الخطاب الاعتذاري الذي فُرض
على الساحة يركز في السنوات القلية الماضية على نقاط مثل إباحة الفوائد الربوية
المصرفية.
وبدل طرح المفاهيم الإسلامية المتكاملة في مجال الأسرة كي تهدي وتعالج
ملايين الحائرين في خضم فتن العصر وإباحيته نجد الفكر الدفاعي يفرض على
الأمة مسائل مثل: إلغاء رخصة تعدد الزوجات، وتقييد حق الرجل في الطلاق مع
منح المرأة حق إيقاع الطلاق بكل سهولة، ثم تقييد حق الرجل في القوامة على
أهل بيته أو حتى إلغائه؛ وكل ذلك بحجج واهية من التمشي مع العصر، أو
مراعاة حقوق الإنسان، أو إنصاف المرأة، أو تحقيق (روح) الدين؛ بينما الهدف
النهائي هو أن تتحول تعاليم الأسرة وأحكامها في الإسلام إلى نسخة من نظيرتها في
القوانين الغربية المسيحية والوضعية.
وبدل الحديث عن النظام السياسي في الإسلام يطرح الفكر الدفاعي بعد أن
ينكر وجود مثل هذا النظام قضيةً وحيدة تقول: إنه لا خلافة ولا حكومة في الإسلام؛ بل نظام حزبي فقط أشبه بالنظم الليبرالية الغربية.
وبدل الحديث عن النظام القانوني في الإسلامي - أي تطبيق الشريعة -
يخرج الفكر الدفاعي بمفهوم شاذ يقول: إن الشريعة في المحك الأخير ليست سوى
نظام قانوني وضعي يصاغ وفق الاحتياجات المتغيرة للناس - حسب ما يزعمون -، ونكتشف رغم ذلك أن ما يريدونه حقاً هو نظام وضعي يساير نظام الغرب
ونماذجه، وليس احتياجات المسلمين، والأمثلة كثيرة ولكن في هذا كفاية.
ومن الجنايات الأخرى التي يرتكبها الاتجاه الدفاعي الاعتذاري في حق الفكر
الإسلامي القضاء على روح الابتكار والخلق والنقد والبحث الواثق؛ فهذا الاتجاه
كما قلنا يحصر الفكر في قضايا معدودة ما زالت تتكرر منذ القرن الماضي، وهو
يتقبل اتهامات الغرب على علتها دون أن يمارس أي نقد أو حتى تمحيص لها،
وهو يتقبل الغرب مشروعيةً فكريةً عليا دون أن يدرس هذا الزعم بموضوعية
وإدراك بالعوامل التاريخية ودورها.
إن الغرب نفسه لم يعد يقبل أن يمنح مدارسه الفلسفية والفكرية وضع
المرجعية العليا التي تسمو على النقد والمراجعة، لكن الفكر الدفاعي وفي جهل
غريب ومريب بكل التطورات الفكرية في الغرب نفسه والتي أسقطت مفهوم
المرجعية المطلقة لمدارسهم ومذاهبهم التي أسست الفكر النقدي يروح في سذاجة أو
ذيلية يعلي من شأن الفكر الغربي في شتى اتجاهاته، ويجعل له مشروعية توجيه
الاتهامات، ثم يتقبل هذه الاتهامات باعتبارها حقاً مطلقاً قبل أن يتولى (الرد) عليها
بالطريقة التي وصفناها سابقاً.
وعلى سبيل المثال: نجد الفكر الدفاعي عندما يستمع للاتهامات الغربية حول
اضطهاد الإسلام للمرأة يتقبل هذه الاتهامات ولا يفكر حتى في اتخاذ موقف نقدي
بسيط وأولي، يرى فيها مجرد إسقاط لمفاهيم وممارسات غربية بحتة وتاريخية
نابعة من ثقافتهم وظروفهم الخاصة على عالم وحضارة الإسلام. وحتى إذا تجاهلنا
الحديث عن الطابع الكيدي والمغرض لهذه الاتهامات وصدقنا أنها تصدر بحسن نية
فإننا لا نستطيع أن ننكر على أنفسنا اتخاذ موقف نقدي بسيط يفحص هذه الاتهامات، ويرى أنها تعبر عن موقف ورؤية ومفهوم خاص بالغرب ونابع من ظروفه
التاريخية والثقافية الخاصة المختلفة عن عقيدة الإسلام والمسلمين ودينهم وتاريخهم
وحضارتهم، كما يرى هذا الموقف النقدي أن الاتهامات الغربية تنبع من صورة
للإسلام تنطبع في تلك الحضارة عن الإسلام باعتباره لديهم عدواً تاريخياً وعقدياً لهم
منذ أيام الحروب الصليبية. لكن الفكر الدفاعي الاعتذاري وفي غمرة تراجعه وتقبله
المطلق للغرب لا يفكر في اتخاذ حتى أبسط المواقف النقدية، أو الفاحصة. ...
وفي نهاية المطاف تنعكس هذه المثالب الناجمة عن فرض الاتجاه الدفاعي
الاعتذاري ممثلةً توجهاً طاغياً أو وحيداً في ساحة الفكر الإسلامي على جمهور
المشتغلين بالفكر والثقافة في الساحة الإسلامية؛ حيث يؤدي إلى إشاعة الظن بأن
ذلك التوجه بعيوبه هو القدوة الوحيدة التي تحتذى، وبحيث يعتقد المشتغل بالفكر أو
القارئ أنه مطالب بتقديم تسويغ ودفاع واعتذار أمام محكمة الغرب عن كل فكرة
تطرأ على باله أو فعل يمارسه أو عادة يعتادها، ولعلنا نشبه هذا الموقف بمن يمشي
وهو يتلفت وراءه حتى يظنه الناس مريباً؛ كما تغيب عن أذهان المشتغلين بالفكر
الإسلامي نتيجة لسيادة التوجه الدفاعي كل الإنجازات والطروحات الإيجابية التي
أفرزتها الصحوة الإسلامية وصعود الإسلام في السنوات الماضية؛ وهذا في حد
ذاته هو المستهدف من وراء تلك (الهجمة) لفكر الدفاع والاعتذار والتسويغ التي
تحتاج إلى وعي كامل بها وبأبعادها حتى نستطيع أن نفوِّت الفرصة على من
فرضوا هذا الفكر وجعلوه تياراً شبه وحيد على الساحة، ومهدوا له كي يخدم
أغراضاً هي أبعد ما تكون عن الدفاع حقاً عن الإسلام أو تصحيح صور مشوهة
عنه يقال لنا: إنها تسود في الغرب.
وتبقى كلمة أخيرة وهي أن بعضاً منهم أصبح الآن مهتماً قبل أي شيء آخر
بما يسمونه تصحيح صورة الإسلام المشوهة في الغرب، وتبلغ بهم الوقاحة حد
الزعم بأن السبب في هذه الصورة الشائهة هم المسلمون أنفسهم وليست أية توجهات
أو مكائد غربية، وهذا هو أحدث أو آخر ما أنتجه الفكر الدفاعي من مثالب؛ حيث
انتهى به الأمر إلى اختزال كل جهود الفكر الإسلامي في تصحيح لصورة إعلامية
بعد اتهام المسلمين بالمسؤولية عنها رغم أنها محض (صورة) في إعلام غربي تافه
سوف يظل يكررها عشرات السنين مهما حدث لها من تصحيحات وتسويغ ودفاع؛
لأن المقصود بترويجها ليس طلب التصحيح؛ بل التشويه والكيد والإساءة، وتنفير
الناس من الإسلام.