قضايا ثقافية
محمد حامد الناصر
بعد أن شكك العصرانيون بحجِّية السنة النبوية راحوا يهاجمون الفقه والفقهاء، ويدعون إلى تطوير أصول الفقه (وخاصة في المعاملات) زاعمين ظاهراً فتح
باب الاجتهاد، ولكن ليس هو الاجتهاد كما عرفه الفقهاء استنباطاً من النصوص،
وكشفاً وإظهاراً لحكم الله، وإنما هو عندهم اجتهاد لتخطي النص، بل وتخطي سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكتَّاب المدرسة العصرانية أقوال عحيبة حول تجديد أصول الفقه مآلها
الفصل بين الدين والدولة، ومحاولة تمييع العلوم المعيارية للوصول إلى الفوضى،
والتمهيد لتطبيق القوانين الوضعية الغربية تحت مظلة الإسلام.
يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد: (والاجتهاد الذي نحتاج إليه اليوم ليس
اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول) [1] .
ودعا الدكتور حسن الترابي إلى تطوير أصول الفقه، للوفاء بحاجات
المسلمين المعاصرة فقال: (إن علم الأصول التقليدي لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا
المعاصرة حق الوفاء؛ لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها) [2] .
ويقول موضحاً فكرته: (إن الفقهاء ما كانوا يعالجون كثيراً من قضايا الحياة
العامة، إنما كانوا يجلسون مجالس العلم المعهودة، ولذلك كانت الحياة العامة تدور
بعيداً عنهم، والنمط الأشهر في فقه الفقهاء والمجتهدين كان فقه فتاوى فرعية، وإن
العلم النقلي الذي كان متاحاً في تلك الفترة كان محدوداً مع عسر في وسائل الاطلاع
والبحث والنشر، بينما تزايد المتداول في العلوم العقلية المعاصرة بأقدار
عظيمة) [3] .
وإنها لدعوى غريبة أن يزعم الدكتور الترابي أن العلم النقلي من نصوص
الكتاب والسنة كان محدوداً في زمن نشأة الفقه وازدهاره!
وما البديل لدى الدكتور الترابي؟ !
البديل عنده أن يشارك الشعب في الاجتهاد على طريقة دعاة الديمقراطية
الغربية! !
يقول: (الاجتهاد مثل الجهاد، وينبغي أن يكون منه لكل مسلم نصيب) .
ويضيف: (واتسم فقهنا التقليدي بأنه فقه لا شعبي، وحق الفقه في الإسلام
أن يكون فقهاً شعبياً) [4] .
ويتابع الدكتور محمد عمارة زملاءه في حملتهم على الفقه والفقهاء ودعوتهم
إلى فتح باب الاجتهاد على مصراعيه لكل مدعٍ وعامي لا علم له بالكتاب والسنة.
ويقول: (إن الاجتهاد يجب أن يخرج وأن نخرج به من ذلك الإطار الضيق الذي
عرفه تراثنا الفقهي، والفقهاء ليسوا وحدهم المطالَبين بالاجتهاد؛ بل إن المطالَب به
هم علماء الأمة وأهل الخبرة العالية فيها، ومن كل المجالات والتخصصات؛ لأن
ميدانه الحقيقي هو أمور الدنيا ونظم معيشتها، وليس إلحاق فروع الدين
بأصولها ... ) [5] .
(فالمجتهد عند عمارة يمكن أن يكون بلا علم بالقرآن والسنة واللغة
والأصول؛ لأن مجال المجتهد هو) أمور الدنيا (ولا يشترط لها كل هذا من العلوم
الشرعية، وإنما يشترط لها أن يكون المرء (مستنيراً عقلانياً) تقدمياً ثورياً
حضارياً؛ فمن جمع هذه الصفات فهو شيخ الإسلام حقاً؛ وقد بنى كلامه على باطل، هو التفريق المزعوم بين الدين والدنيا، وما بُني على باطل فهو باطل) [6] .
ومن غرائب الاجتهاد العصراني أن بعضهم دعا إلى صهر المذاهب الفقهية
في بوتقة واحدة، وجعلها مستمَداً لا ينضب معينه، وذلك بالتسليم بكل ما قالت به
المدارس الفقهية على اختلافها وتناكرها، بغض النظر عن أدلتها، ثم اختزانها في
مدونة منسقة الأبواب كمجموعة (جوستينان) وأعْنِي كل ما أعطت المدارس:
الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية، وذلك بجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما
يجدُّ ويحدث) [7] .
(وهذه الدعوة التي تطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد
ليفتح الباب على مصراعيه للقادرين وغير القادرين، ولأصحاب الورع وأصحاب
الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدنى عذر.. وتبيح الربا إلا ربا
النسيئة أو أصنافاً معينة وظهرت آراء تحظر تعدد الزوجات وتحذر من الطلاق؛
وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية، يهدف إلى
مطابقة الحضارة الغربية) [8] .
والنتيجة التي يود هؤلاء أن يصلوا إليها من تطوير الشريعة هو تحكيم
القوانين الوضعية، وفي ذلك تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام، الذين زعموا أن الفقه
الإسلامي مأخوذ من الفقه الروماني. وردد هذه المقولة - مقولة المستشرق اليهودي
(جولد زيهر) - الدكتور محمد فتحي عثمان نقلاً عن أستاذه السنهوري الذي يقول: ...
(الفقه الإسلامي هو من عمل الفقهاء صنعوه كما صنع فقهاء الرومان وقضاته
القانون المدني، وقد صنعوه فقهاً صحيحاً؛ فالصياغة الفقهية، وأساليب التفكير
القانوني واضحة فيه وظاهرة) [9] .
والغاية من كلام السنهوري، وإقرار تلميذه له أن يخضع الفقه الإسلامي
لإشراف القانون الوضعي، ويكيِّف نفسه حسبما يقتضيه ذلك الخضوع.
(وغني عن القول أن كل أصل من الأصول الفقهية ثبتت حجيته بالكتاب
والسنة، وقد بيَّن أهل العلم أدلة كلٍ من: الإجماع والقياس والمصلحة وحجية
ذلك.. فهي ليست مبتدعة كما يزعم هؤلاء؛ بل هي منهج الاستنباط الشرعي الذي هو من الدين) [10] .
إن دعوة العصرانيين هذه ما هي إلا علمانية جديدة تود تسويغ تحكيم القوانين
الوضعية في ديار المسلمين، أو للتهوين من شأنها، ومن ثَمَّ مساواتها بأحكام شريعة
السماء.
وقد خرج هؤلاء علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر
بانحرافاته، وإليك أخي القارئ نماذج من شذوذات العصرانيين في مسائل الفقه ... المختلفة.
شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه المختلفة:
موقفهم من الحدود:
حاول العصرانيون تسويغ رفضهم لإقامة الحدود الشرعية بحجج واهية
كالشفقة على المجرمين، وأن قطع اليد أو الرجم ما هي إلا قسوة ووحشية لا تناسب
العصر الحاضر؟ !
فالشيخ عبد الله العلايلي مثلاً: يرى أن إقامة الحدود ينبغي أن لا تتم إلا في
حال الإصرار، أي: المعاودة تكراراً ومراراً؛ إذ إن آخر الدواء الكي، وبلغ من
استهزائه بالحدود الشرعية أن قال: (إن إنزال الحد لا يتفق مع روح القرآن الذي
جعل القصاص صيانة للحياة، وإشاعة للأمن العام، وليس لجعل المجتمع مجموعة
مشوهين: هذا مقطوع اليد، والآخر مقطوع الرجل، أو مفقوء العين، ومصلوم
الأذن، أو مجدوع الأنف) .
أما الرجم: فيقول فيه بمذهب الخوارج: (لا رجم في الإسلام كما هو مذهب
الخوارج عامة) [11] .
والزاني والزانية - في عرف هؤلاء - لا يقام عليهما الحد إلا أن يكونا
معروفيْن بالزنا، وكان من عادتهما وخلقهما؛ فهما بذلك يستحقان الجلد [12] .
ولحسين أحمد أمين فتوى عجيبة في حد السرقة عندما يقول: (لقد كان
الاعتداء على الساري في الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة
وسلاح في مصافِّ قتله، لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة جازمة
رادعة لجريمة السرقة في مثل هذا المجتمع) [13] .
إباحة الربا في البنوك:
وقد بدأ ذلك الاجتهاد الشيخ محمد عبده، وتابعه في ذلك تلميذه الشيخ محمد
رشيد رضا، وكانت الحجة هي الحفاظ على اقتصاد البلاد. والربا المحرم عند
هؤلاء هو الربح المركب، أي الذي يكون أضعافاً مضاعفة [14] .
وممن قال بذلك من المعاصرين: الشيخ عبد الله العلايلي، وهو يكرر ما قاله
أسلافه، يقول: (ما دام المصرف لا يزيد على أنه مقر سمسرة بتقاسم المردود
مشاركةً مع من أسلم إليه مالاً، مفوضاً إياه ليعمل به حيث قضت خبرته، ولا قائل
بحرمة عمولة السمسار! ! [15] .
فحرمة الربا واضحة، ونصوصه قطعية في الكتاب والسنة، وتحريم السرقة
في الكتاب والسنة، وطُبِّق الرجم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد
أصحابه رضي الله عنهم ولذلك فمن فضول القول أن نناقش الفتاوى السابقة؛ لأنها
واضحة الضلال والانحراف، وخارجة عن إجماع فقهاء الأمة خلال عصورها
المفضلة.
يقول الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله في هذه الفتاوى المنحرفة: (أما النظام
الوضعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات
والأرض كدعوى تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، وأن الرجم
والقطع ونحوها أعمال وحشية لا يسوغ فِعْلها بالإنسان ... إلخ) [16] .
ويكفي أن نعلم أن الأمم عندما ألغت القصاص شاعت فيها الجرائم، وضجت
المحاكم وابتليت المجتمعات، فشاعت الفوضى ونضب معين الأمن.
موقفهم من قضية المرأة:
اهتم العصرانيون بقضية ما يسمى بتحرير المرأة وإعطائها حقوقاً سياسية
كالمرأة الغربية، ودعوا إلى الثورة على الحجاب وتعدد الزوجات وإباحة الطلاق؛
لقد أكمل هؤلاء المؤامرة على المرأة المسلمة التي قادتها الحركة النسائية بعد قاسم
أمين وأعوانه.
لقد اعتبر العصرانيون مسألة تعدد الزوجات التي شرعها الله من سمات عصر
الإقطاع. يقول محمد عمارة: (إن تعدد الزوجات، وتتابع الزواج واتخاذ السراري
والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية) [17] .
ويرى هؤلاء أن الحجاب الشرعي قيد يجب التخلص منه، ثم راحوا يسوِّغون
الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها وحصنها الأمين.
فالدكتور محمد عمارة يرفض أن تعود المرأة مكبلة بحجابها ويؤكد (أن جذور
هذه القضية ترتبط بالتمدن والتحضر والاستنارة أكثر مما هي مرتبطة
بالدين) [18] .
وهذا حسين أحمد أمين يقرر أن الحجاب (وهمٌ صنعه الفرس والأتراك،
وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه) [19] .
والدكتور الترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط.
والاختلاط مباح في عرف العصرانيين؛ إذ (ليست الحياة العامة مسرحاً للرجال
وحدهم، ولا عزل بين الرجال والنساء في مجال جامع) .
(وتجوز المصافحة العفوية التي يجري بها العرف في جو طاهر وذلك عند
السلام كما يزعم) [20] .
وفي ذلك مخالفة لأحاديث صحيحة وصريحة؛ فقد جاء في الحديث الشريف
عن أميمة بنت رقيقة قالت: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه،
فقال لنا: (فيما استطعتن وأطعتن؛ إني لا أصافح النساء) [21] .
ويرى الترابي كذلك أن للمرأة أن تسقبل ضيوف الأسرة وتحدثهم وتخدمهم
وتأكل معهم) [22] .
ويدعو الدكتور محمد فتحي عثمان إلى ما يسميه الاختلاط المأمون؛ لأن
المجتمع الذي يلتقي فيه الرجال والنساء في ظروف طبيعية هادئة، لن يغدو مثلُ
هذا اللقاء قارعة تثير الأعصاب؛ إذ سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثتها،
وستألف المرأة بدورها الرجل، وتتجمع لدى الجنسين خبرات وحصانات
وتجارب [23] .
وواقع المرأة المزري في ديار الغرب مما ينقض هذا الرأي.
ودعا العصرانيون إلى مشاركة المرأة في السياسة والقانون والتجارة
والاقتصاد بلا قيود، ويرون جواز مشاركتها في الانتخابات والمجالس النيابية؛ بل
ويرى بعضهم ولاية المرأة للقضاء، وحتى الولاية العامة جائزة عند العصرانيين
بإطلاق [24] .
إلغاء أحكام أهل الذمة:
لقد أكثر العصرانيون من الحديث حول حقوق أهل الذمة وزعموا أن أحكام
أهل الذمة كانت لظروف خلت وأن تطور العصر يرفضها، وممن تصدى لهذه
المسألة وخصّص لها كتاباً: فهمي هويدي بعنوان: (مواطنون لا ذميون) نقتطف
منه بعض آرائه؛ حيث يقول: (أليس غريباً أن يجيز الفقهاء أن يفرض المسلمون
الحرب دفاعاً عن أهل ذمتهم، ثم يحجب البعض عن هؤلاء حق التصويت في
انتخابات مجلس الشورى مثلاً؟) ، ثم يقول: (أما تعبير أهل الذمة فلا نرى وجها
للالتزام به إزاء متغيرات حدثت. وإذا كان التعبير قد استخدم في الأحاديث النبوية
فإن استخدامه كان من قبيل الوصف، وليس التعريف، ويبقى هذا الوصف تاريخياً
لا يشترط الإصرار عليه دائماً) [25] فالكاتب يحاول إلغاء الأحكام بلا دليل، وكأن
الاجتهاد في الإسلام تحوَّل إلى لعب أطفال وأوهام مبتدعة، وأمزجة منحرفة.
وفي فصل (الجزية التي كانت) يقول: (ومن غرائب ما قيل في هذا الصدد
تعريف ابن القيم للجزية بأنها هي الخراج المضروب على رؤوس الكفار إذلالاً
وصغاراً، وأن هذا يتنافى مع روح الإسلام، ودعوته للمسامحة بين الناس جميعاً:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [26] .
لقد حكمت الشريعة الإسلامية بضعة عشر قرناً من عمرها، لم يعرف في
التاريخ عدلاً وإنصافاً ورحمة بأقليات دينية كما عرفت في تلك القرون تحت مظلة
الشريعة، بل كانت الطوائف تفر من بطش أبناء دينها لتنعم بالأمن في ظل عدل
الإسلام وإنصاف المسلمين، إلا أنها التبعية والتزلف الذي تناسى أصحابه أحقاد
اليهود والنصارى التي ما زالت والغة في دماء المسلمين.
ولكن: يا ليت قومي يعلمون!
حقيقة العصرانية: علمانية جديدة:
لاحظنا فيما سبق من حلقات أن العصرانيين يلحُّون على تطوير الشريعة
محاولين التسلل نحو تحكيم القوانين الوضعية (وخاصة في قضايا المعاملات
وسياسة الحكم، وشؤون المجتمع) .
وزعموا أن القوانين الوضعية لا تخالف الشريعة الإسلامية، كما دعوا إلى
التوفيق بين الشريعة وتلك القوانين، أي أنهم دعوا إلى الفصل بين الدين والدولة،
وهذه هي العلمانية بأجلى مظاهرها.
فالعلمانية مصطلح غربي يعني إقامة الحياة على غير الدين على مستوى الفرد
والأمة، وقد ساد هذا المذهب أوروبا رد فعلٍ على تسلط الكنيسة ومبادئها المحرَّفة
إثر صراع دام بين الكنيسة والعلم.
والعلمانية فكرة مستوردة بعيدة عن مناهجنا وتراثنا وهي تعني بداهة: الحكم
بغير ما أنزل الله، وهذا هو معنى قيام الحياة على غير الدين، وهي نظام جاهلي
بعيد عن دائرة الإسلام، قال تعالى: [من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون] [المائدة: 44] .
وقد سلك العصرانيون لتحقيق هدفهم هذا سبلاً متعددة منها:
1 - محاولاتهم الجادة لتنحية الشريعة:
لقد هاجم العصرانيون الفقه والفقهاء، وشككوا في حجية السنة النبوية،
واتفقوا باسم الاستنارة على ضرورة تجديد الإسلام ذاته، بمعنى تعديل أحكامه
وتشريعاته أو اقتلاعها من الجذور.
فالدكتور محمد أحمد خلف الله: (يرى ضرورة انعتاق الأحكام من إسار
الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، وأن خروج المعاملات من نطاق الشرع
إلى نطاق القانون قد حقق لها ألواناً من الحرية والانطلاق، لم يكن لهم بها عهد من
قبل) [27] .
(وهو يعجب من الجامدين الذين يتمسكون بتلك المعايير البالية لمجرد أنها
وردت في القرآن والسنة) [28] .
ويعتبر الدكتور محمد عمارة أن الشريعة ما عادت تلائم قضايا العصر فيقول:
(إن أحداً لن يستطيع الزعم بأن الشريعة يمكن أن تثبت عند ما يقرره نبي
لعصره) [29] .
ويدعو كذلك إلى مدنيَّة السلطة، وجعل حق التشريع في يد جمهور الأمة
عندما يقول: (فأصحاب السلطة الدينية قد احتقروا جمهور الأمة عندما سلبوها حقها
في التشريع وسلطاتها في الحكم) على حين قرر القائلون بمدنيَّة السلطة (أن الثقة
كل الثقة بمجموع الأمة؛ بل جعلوها معصومة من الخطأ والضلال) [30] .
أما الدكتور أحمد كمال أبو المجد (فهو يتعجب ويتأفف من هؤلاء المسرفين
الذين يرون ضرورة إسقاط القوانين الوضعية، ومن ثم يدعو إلى زلزلة قواعد
الشريعة؛ حيث لا يُقتصر الاجتهاد على الفروع فحسب، بل والأصول
أيضاً) [31] .
إن الأقوال السابقة تدعو صراحة إلى إسقاط الأحكام الشرعية. والشريعة
الإلهية هي حكم الله، والقانون الوضعي حكم جاهلي كله سفه ونقص وعجز
وقصور.
والشريعة الإلهية فصّلها الله الذي خلق الإنسان، وهو أعلم به؛ فهي ثابتة
باقية إلى يوم القيامة، أما القانون الوضعي فهو صناعة بشرية من أناس يتصفون
بالعجز والنقص والتحريف، وتتحكم فيهم الشهوات [32] .
إلا أنها التبعية عند العصرانيين الجدد الذين يرون التقدم في القوانين الأجنبية
منذ أقدم العصور، يقول محمد فتحي عثمان: (وعلينا ألا نتنكر لأنظمة مرت
بمراحل تقدمية كبرى في الفكر والتطبيق، قبل أن نتطور بثروتنا الفقهية التي
تكدس عليها غبار القرون من التعطيل والتجميد) [33] .
ولنا أن نتساءل عن هذه المراحل التقدمية؟ ! !
يقرر البحث العلمي أن مراحل القانون الوضعي تبدأ بقانون (حمورابي)
وقانون (مانو) وقانون (أثينا) والقانون (الروماني) والقانون (الكنسي الأوروبي) مأخوذ من القانون الروماني ومما شرعه الرهبان، ثم قانون نابليون، وهذه هي المراحل التقدمية الكبرى في الفكر والتطبيق عند المؤلف [34] .
يقول تعالى: [أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم ...
يوقنون] [المائدة: 50] .
2 - تأييد سقوط الخلافة:
لقد تكالب الأعداء على إسقاط الخلافة، وكان من أهم شروط اتفاقية (سايكس
بيكو) 1915م، أن اشترط الحلفاء (إلغاء نظام الخلافة وطرد السلطان العثماني
خارج الحدود، ومصادرة أمواله، ثم إعلان علمانية الدولة) [35] .
وهاجم العصرانيون نظام الخلافة متبعين في ذلك كبيرهم الشيخ علي عبد
الرازق، صاحب كتاب: (الإسلام وأصول الحكم) الذي وصف الخلافة بأنها ... (خطط دنيوية صرفة لا شأن للدين بها، وليس لنا حاجة إليها في أمور ديننا ولا
دنيانا، ولو شئت لقلنا أكبر من ذلك؛ فإنما كانت الخلافة، ولم تزل نكبة على
الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد) [36] وهو يستعير في عرضه هذا آراء
المستشرقين من قساوسة صليبيين ويهود حاقدين وأن الإسلام دين لا دولة، وكان
التوقيت لصدور كتابه هذا خبيثاً؛ ذلك أنه أصدره عام 1925م لإجهاض محاولات
إحياء الخلافة آنذاك بعد إلغائها على يد كمال أتاتورك [37] .
ويقول محمد أحمد خلف الله: (والفكر السياسي في نظام الحكم هو فكر بشري
خالص، وتستطيع المؤسسات العلمية من أمثال كليات العلوم السياسية أن تجتهد
فيه) [38] .
ويرى محمد فتحي عثمان (أن الخلافة الإسلامية كانت صورة تاريخية، ولم
تعش طويلاً، فعلى المسلمين ألا يفكروا فيها مرة أخرى) [39] .
ويقول محمد عمارة: (لم تكن الدولة هدفاً من أهداف الوحي، ولا مهمة من
مهام النبوة والرسالة، ولا ركناً من أركان الدين وإنما اقتضتها ضرورة حماية
الدعوة الجديدة) [40] ، (إن موقف الإسلام في مجال السياسة والدولة ينكر وجود
سلطة دينية لبشر خارج نطاق الموعظة والإرشاد، ولم يحدد نطاقاً معيناً
للحكم) [41] .
وهذه آراء علي عبد الرازق وسادته من المستشرقين الحاقدين نفسها.
لقد كان منصب الخلافة شوكة في حلوق أعداء الإسلام، وهدفاً طالما تحالفوا
لإسقاطه، وتمزيق ديار المسلمين، وها هم تلامذة اليهود والنصارى ينادون بما
خطط لهم سادتهم، والويل والصَّغار للمرْجفين.
3 - دعوتهم الصريحة إلى علمانية الحكم:
يصرح بعض العصرانيين بحقيقة دعوتهم في الحكم وفصل الشريعة عن
قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويدعون إلى علمانية مصبوغة
بمفهومهم عن الإسلام.
فالدكتور حسن حنفي يرى أن العلمانية هي أساس الوحي ويقول: (العلمانية
هي أساس الوحي؛ فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع
التاريخ) [42] .
ويقول الدكتور محمد عمارة: (أما إسلامنا فهو علماني، ومن ثم فإن مصطلح
العلمانية لا يمثل عدواناً على ديننا، بل على العكس يمثل العودة بديننا إلى موقفه
الأصيل) ويقول: (فالسياسة والحكم والقضاء وشؤون المجتمع ليست ديناً وشرعا
يجب فيها التأسي والاهتداء بما في السنة من وقائع؛ لأنها عالجت مصالح هي
بالضرورة متطورة ومتغيرة) [43] .
إذا لم تكن العلمانية هي ما يقوله العصرانيون فماذا ستكون؟ ! فهم بفصلهم
الدين عن شؤون الدولة والحياة، يدعون إلى علمانية قد يسمونها إسلامية، ولكنها
في الحقيقة أشد بعداً عن الدين من العلمانية اللادينية؛ لأن هؤلاء يخدعون العامة
باسم الإسلام، وتحت أسماء: (المفكر الإسلامي، الداعية الإسلامي، العقلاني
المستنير) .
ويريد هؤلاء الكتاب حكماً علمانياً، وفي أحسن أحواله ديمقراطياً برلمانياً على
طريقة الغرب في أن يكون للأمة حق التشريع. رغم أن واقع الديمقراطية الغربية
يشهد بإفلاس شعاراتها عند التطبيق، كما يريد بعضهم حكماً اشتراكياً يسارياً، باسم
اشتراكية الإسلام أو اليسار الإسلامي [44] .
ويقول محمد فتحي عثمان: (واليسار المسلم يتمسك بالديمقراطية؛ إذ هي
حكم الله في المصالح والعلاقات الإنسانية؛ حيث لا يكون النص الإلهي الملزم
القاطع) [45] .
والحقيقة: (أن الفاصل بين العصرانيين والعلمانيين إن وجد دقيق جداً،
وكأنهما وجهان لعملة واحدة، واسمان لمسمى واحد. وقد استفاد العصرانيون مما
واجهه العلمانيون من استنكار، فراحوا يغيرون ويبدلون في المسميات، ويبحثون
عن الشبه والزلات، ليلبسوا العلمانية ثوباً إسلامياً مزوراً، ويضفوا عليها صفة
الشرعية، ويتمكنوا من التمويه على العوام، والتلبيس على أهل الإسلام ولو إلى
حين) [46] .
إن تنحية الشريعة عن شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الانحراف في
مجتمعات المسلمين الحديثة؛ وإلاَّ؛ فما الفرق بين قول قريش في جاهليتها: يا
محمد! اعبد آلهتنا سنة ونعبد آلهتك سنة، وبين قول العلمانيين لفظاً أو واقعاً: نعبد
الله في المسجد، ونطيع غيره في المتجر أو البرلمان أو الجامعة؟ !
وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: (إن من
الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب
محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين) وقال رحمه
الله: (من اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكم الرسول
صلى الله عليه وسلم وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع،
إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير
الأحوال، فلا ريب أنه كفر) [47] . وقال ابن تيمية رحمه الله في (منهاج السنة) :
(ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر؛ فمن
استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر) .
ومن الخطأ أن تنقل تجربة غريبة هجينة في التصور والاعتقاد إلى ديار
المسلمين.
(إن الغلطة من الأصل هي محاولة وضع الإسلام وتطبيقاته على ميزان
التجربة الأوروبية، واستخدام المصطلحات الغربية ذات الدلالات المحلية البحتة،
كأنها اصطلاحات عالمية تصلح للتطبيق على أي شيء، وفي أي مكان، دون
النظر إلى الفروق الجوهرية بين الاصطلاحات التي وضعها البشر في ظروف
معينة، والمصطلحات التي أنزلها الله لتحكم الحياة، أو اجتهد المجتهدون بها، وهم
ملتزمون بما أنزل الله) [48] .
ولقد تميزت العصرانية بتبني الآراء الشاذة، والأقوال الضعيفة، واتخاذها
أصولاً كلية الهدف منها عند أصحابها هدم القديم أكثر من بناء أي جديد؛ إذ دأبوا
على محاولاتهم لتطويع الإسلام بكل وسائل التحريف والتأويل كي يساير الحضارة
الغربية فكراً وتطبيقاً، ومن أجل ذلك دعوا إلى التقريب بين الأديان والمذاهب،
وهوَّنوا من أمر الجهاد وقصروه على جهاد الدفاع فقط، ولكن الله غالب على أمره،
والعاقبة للمتقين.