أدب وتاريخ
-2-
محمد بن صامل السلمي
3- سيادة العدل والمساواة بمفهومها الإسلامي الصحيح:
وذلك أن التفاضل بين البشر قوامه الميزان الذي قرره الله في كتابه. قال
تعالى: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات/13] ، وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى» [1] .
والأدلة الواقعية والتاريخية على سيادة هذا المبدأ في عصر الخلفاء الراشدين
أكثر من أن تحصى، فهذا الخليفة الأول أبي بكر الصديق يطلب في أول خطبة له
من الرعية أن تقوّم ما ترى فيه من خطاً أو اعوجاج [2] .
وهذا عمر بن الخطاب يتقاضى وهو خليفة مع أبي بن كعب الأنصاري عند
قاض المدينة في عهده زيد بن ثابت، فيأتي عمر وأبي ابن كعب إلى مجلس القضاء، ويقول زيد لعمر: لو طلبتني يا أمير المؤمنين لأحضر عندك. فيرد عليه عمر:
مقرراً قاعدة مهمة من قواعد التقاضي وهي قاعدة المساواة: في بيته يؤتى الحكم.
ثم يحاول زيد-من باب الإكرام للخليفة-أن يدني مجلس عمر، فيأبى عمر إلا
أن يجلس مع خصمه على قدم المساواة ويقول لزيد: هذا أول الجور منك.
وبعد أن يدلى كل من الخصمين بحجته، يحكم زيد باليمين على عمر ثم
يطلب من أبى بن كعب أن يعفى أمير المؤمنين من اليمين لكن عمر أصر على تنفيذ
ذلك، فيحلف كما حكم القاضي، وبعد أن استحق الأرض المتنازع عليها قضاء
وهبها عمر لأبي بن كعب [3] .
ومرة جاء رجل من المسلمين فقال لعمر: اتق الله، فقال أحد الحاضرين:
أتقول ذلك لأمير المؤمنين، فرد عليه عمر بقوله: دعه يقلها فلا خير فيكم إن لم
تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم [4] .
ومن مظاهر المساواة والعدل توزيع الفيء وأخماس الغنائم على كافة المسلمين
فإن عمر رضي الله عنه لما دون ديوان العطاء جعل لكل مسلم حق في ذلك العطاء
حتى المواليد، فبمجرد ولادة طفل لأحد المسلمين يسجل أسمه في الديوان ويفرض
له عطاؤه وكان عمر يقول: لئن بقيت لهم ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من
هذا المال وهو يرعى مكانه دون أن يسعى لطلبه [5] . ويقول أيضاً: والله ما أحد
أحق بهذا المال من أحد، ووالله ما من المسلمين من أحد إلا وله في هذا المال
نصيب، ولكنا على منازلنا من كتاب الله وقسمنا من رسول الله [6] .
وقد واسى رضي الله عنه الناس بنفسه في عام الرمادة فامتنع عن أكل اللحم
والسمن حتى توفر ذلك لعامة الناس ومضت أزمة المجاعة وجاءهم الفرج من الله.
يقول أنس رضي الله عنه: غلا الطعام بالمدينة فجعل عمر. رضى الله عنه
يأكل الشعير وجعل بطنه يصوّت فضرب بيده على بطنه وقال: والله مما هو إلا ما
ترى حتى يوسع الله على المسلمين [7] .
وعن طاووس قال: جدب على عهد عمر فما أكل سمناً ولاسمينا حتى أخصب
الناس [8] .
4 - سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم:
مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الهامة التي توفر الأمن والطمأنينة للأفراد
والاستقرار السياسي للدولة، ويؤدي إلى إشاعةء المحبة وبث روح التعاون
والتناصح بين الحاكم والرعية، وهو ضروري حتى لا ينفرد الحاكم بالأمر والرأي
الذي قد لا يكون صواباً فإن رأي الجماعة خير من رأي الواحد لأنه يأتي بعد نظر
ودراسة وتفكر في الأمر وعواقبه. ومن ثم تضمن الأمة أكبر قدر من إصابة الحق، قال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام من لا يستشير أهل
العلم والدين فعزله واجب [9] .
وقد قال تعالى مثنياً على المؤمنين ومعدداً بعض صفاتهم: [والَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] [الشورى/38] .
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: كان الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله
عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه فمدحهم الله به. ونقل
عن الحسن البصري أنه قال: انهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا
يختلفون فمدحوا باتفاق كلمتهم [10] .
وقال تعالى مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: [فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ] [آل عمران: 159] .
أخرج ابن أبى حاتم بسند حسن -كما قال الحافظ في الفتح [11] عن الحسن
قال: قد علم أنه ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده.
فالشورى مشاركة في المسئولية وضمانة من الانحراف ولهذا بوب البخاري
رحمه الله في صحيحه بهاتين الآيتين باباً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة [12] .
وهذا فقه عميق ونظر دقيق من البخاري رحمه الله لأهمية الشورى وكون
العمل بها اعتصام بالكتاب والسنة وبعد عن الانحراف والبدعة، مما أحوج دعاة
الإسلام اليوم إلى تدبره وتفهمه لتسلم دعوتهم من القرارات العشوائية، والاتجاهات
الفردية. وقد وردت الآثار عن الأئمة في مدح الشورى وبيان فضائلها. قال الحسن
البصري: ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم، وفي لفظ:
إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع [13] .
وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط! ! إذا حزبني أمر شاورت قومي فعملت
الذي يرون فإن أصبت فهم المصيبون وان أخطأت فهم المخطئون [14] .
وقال البخاري: كان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم (يستشيرون
الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى
غيره) [15] .
وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، ومسار للعقول، وسبب إلى
الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا [16] .
ولقد كانت سيرة رسول صلى الله عليه وسلم وخلافة الخلفاء الراشدين من بعده
تطبيق واقعي لمبدأ الشورى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأتيه الوحي من
الله يسدده يصفه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله. ما رأيت أحدا أكثر مشورة
لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم [17] .
وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمور العامة كما في
القتال يوم بدر، وفي أسرى بدر وفى أحد والخندق والحديبية بل حتى في الأمور
الخاصة، كما في قصة حادثة الإفك.
أما الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم جميعاً فقد وقعت منهم في خلافتهم أمور
كثيرة توضح التزامهم بهذا المنهج الشوري منها: تشاورهم في اختيار الخليفة،
ومنها استشارة أبى بكر رض الله عنه في قتال أهل الردة، وقد أخرج البيهقي بسند
صحيح عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر رض الله عنه إذا ورد عليه أمر
نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى به قض بينهم وإن علمه من سنة رسول
الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة فإن
أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلمائهم واستشارهم. وإن عمر كان يفعل
ذلك [18] . وقد كان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً [19] .
وقد شاور عمر الصحابة في الصحابة في إملاص المرأة [20] ، وأيضاً في
قتال الفرس [21] ، وفى دخول الشام لما وقع الطاعون بها [22] .
وقد ترك عمر الخلافة من بعده شورى.
وشاور عثمان رضى الله عنه الصحابة أول خلافته فيما يفعل بعبيد الله بن
عمر لما قتل الهرمزان ظناً منه أن له في قتل أبيه مدخلاً [23] .. وشاور الصحابة
في جمع الناس على مصحف واحد، قال علي بن أي طالب: (ما فعل عثمان الذي
فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا) [24] ...
فهذه الوقائع من تاريخ الخلفاء الراشدين توضح بما لا مزيد عليه التزامهم
بمنهج الشورى في كافة الأعمال المحتاجة إلى ذلك مثل بعث الجيوش واختيار القادة
وحكام الأقاليم والولايات والاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها
بخصوصها.
وقد كانت الشورى طريقاً ومنهجاً في اختيار الخلفاء الأربعة للإمامة العظمى،
وإن اختلفت صور المشاورة، وقد قال عمر رض الله عنه: من بايع رجلاً من غير
مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي يبايعه [25] . مما يدل على التزام
الشورى في البيعة والخلافة.
5- قيام الجهاد والعلاقات الدولية في عهدهم على مقتضى الشرعية:
من المعلوم أن الدولة الإسلامية دولة متميزة في منهجها وتصورها وسياستها
لأنها تأخذ أحكامها ونظمها من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولذا فإن
علاقتها مع غير المسلمين محكومة بتلك النصوص والأحكام.
ولقد أقام الخلفاء الراشدون علاقاتهم مع غير المسلمين على موجب تلك
الأحكام. فالأرض إما.
1- دار إسلام: وتطبق فيها أحكام الشريعة على كافة المقيمين فيها سواء
كانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأن غير المسلم لابد أن يدفع الجزية للأحكام
الإسلامية التي شرعها الله في حق أهل الذمة، وللشروط التي وضعها الخلفاء،
وهى مفصلة في كتب الفقه ومنها أن يلتزموا بآداب المسلمين الظاهرة ولا يرفعوا
صليبا ولا يشربوا خمرا ولا يؤذوا مسلما ولا يبنوا كنيسة ولا يدعوا أحدا إلى دينهم
ولا يرفعوا دورهم فوق دور المسلمين، ولا يحتفلوا بأعيادهم ظاهراً ولا ينشروا
شيئاً من كتبهم بين المسلمين [26] .
ب - أو دار كفر، وتنقسم هذه الدار إلى قسمين: دار صلح وعهد، ودار
حرب.
فأهل الصلح والعهد يوفى لهم بعهدهم إذا حصل منهم الوفاء، والعهد والصلح
لا يكون مستمراً إلى الأبد بل لابد من توقيته بأجل، ومن العلماء من جعل أطول
مدة للعهد والصلح عشر سنين أخذاً من أطول مدة صالح بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم المشركين في صلح الحديبية [27] .
أما أهل الحرب فلا علاقة بينهم وبين المسلمين إلا السيف والقتال والأخذ بكل
طريق ومرصد -إذا أقيمت عليهم الحجة وكان بالمسلمين قوة واستطاعة- لإرغامهم
على الخضوع لله ولدينه وليكون الدين كله لله، قال تعالى: [فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ
الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ
مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
[التوبة /5] .
وقد طبق الخلفاء الراشدون هذه الأحكام بأعلى وأتم ما يكون التطبيق وكسرت
في عهدهم أكبر دولتين في العالم في ذلك الزمن الدولة الفارسية والدولة الرومانية
وأورث الله المسلمين أرضهم وأموالهم وأنفقت كنوزهما في سبيل الله وخضعت
أراضيهم لحكم المسلمين وأصبحت دار إسلام، ومن لم يسلم من أهل تلك المناطق
طبقت عليه أحكام أهل الذمة وأخذت منه الجزية مقرونة بالذل والصغار كما أمر الله
تعالى: [قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ
وهُمْ صَاغِرُونَ] [التوبة: 29] .
كما ضربوا العشور على تجار غير المسلمين إذا مروا بأرض الإسلام أما
المسلمون فلا يؤخذ منهم عشور ولا ضرائب وإنما تؤخذ منهم الزكاة المفروضة،
ووضع الخلفاء الراشدون الخراج على الأرض حسب التفصيلات المقررة في
مواطنها.
أما جزيرة العرب فقد أخرجوا منها اليهود والنصارى ولم يبق فيها إلا مسلماً
تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته في آخر حياته حيث قال:
«لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلماً» [28] ،
وقوله: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب [29] .
6- الحماس في نشر الإسلام:
وظيفة الدولة الإسلامية هي نشر الدين حتى يعبد الله وحده، ولهذا عرف ابن
خلدون الخلافة بقوله: هي نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة
الدنيا [30] .
والدولة تنفذ هذه الوظيفة بالجهاد وفتح البلدان وبالدعوة والتعليم لأوامر الدين
ونواهيه وكافة أحكامه الشرعية. فحركة الجهاد والفتح العسكري لا بد أن يصحبها
ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم وهذا التلازم بين الفتح العسكري
والتعليم أمر ضروري لابد منه لاستقرار الدعوة والدولة ولابد من ملاحظة التوازن
المطلوب في هذا الجانب، فبقدر التوسع في الأرض يكون التوسع في الدعوة
والتعليم حتى لا يختل ميزان التربية وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي وتتوسع
الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية
تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية.
وقد بذل الخلفاء الراشدون ما استطاعوا في سبيل حدوث هذا التوازن بين
حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم
في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولكن رغم وجود البذل والحماس في ميدان التقليم والتربية على تعاليم هذا
الدين إلا أن الملاحظ أن التوسع في الأرض كان سريعا وواسعا فقد فتحت العراق
وما وراءها والشام ومصر في سنوات قليلة معدودة فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية
في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها
كما لم يكن الزمن كافيا لرسوخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم مما ساعد مع
غيره من العوامل فيما بعد على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج
الإسلامي مما سبب ظهور الفرق والأهواء المتشعبة.
وبعد فهذه جملة من أهم المعالم البارزة في تاريخ الخلافة الراشدة أردنا بالتنبيه
إليها توجيه أنظار دعاة الإسلام إلى الاستفادة من هذا التاريخ المشرق والسير على
منوالهم فإنهم القوم بهم يقتدى وبهديهم وسنتهم يسلك ويتبع، والله الموفق والهادي.