أدب وتاريخ
رؤية إسلامية
في المجيز والمجاز [1]
د. مصطفى السيد
يتحتم علينا - بسبب من انتمائنا الإسلامي، وهويتنا الإيمانية - أن نستحضر
قيم الإسلام ومقوماته في قراءة أي عمل أدبي، بل في شؤون الحياة كلها وشجونها
جميعها (لأن الإسلام يتغلغل في حياة أفراده فإن مسألة التزامه في الأدب يجب أن
تكون محل تقدير) كما يقول أحد النقاد [2] .
وإبراز هذه الهوية ليس بدعاً، أو على الأقل ينبغي ألا يكون كذلك في دوائر
أنصار الأدب الحديث ومحاربيه، فهذا شيخ التحديث، وملهم الشعر العربي الحديث
رؤيته وشكله وتشكيله - ت. س. إليوت - يعلن صراحة أنه (أنكلو كاثوليكي في
الدين وكلاسيكي في الأدب، وملكي في السياسة) [3]
ولو تجرأ مثقف ورفع عقيدته بمثل هذه المقولة عن معتقداته الإسلامية
والأدبية والسياسية أمام دعاة الأدب التقدمي لانهالت عليه النقود المتهكمة من كل
وجه.
وهذا يوسف الخال النصراني ديانةً، السوري بلداً، اللبناني مهجراً، والذي
يعد قنطرة مهمة بين إليوت، وحوارييه في العالم العربي، كان يركز على بعث
المفرد التوراتي والإنجيلي، واستثمار نصوصهما في التعبير الرمزي. والدكتور
عبد الواحد لؤلؤة يخبرنا أن (الكتاب المقدس كان العمود الفقري للآداب الأوربية في
شتى عصورها) [4] .
وحضور الإسلام حَكَمَاً لا يعني استبعاد الفائدة من إبداعات الآخرين وتجاربهم
الوجدانية الناضجة في كل مجال، فالشيطان بما يتمتع به من مكانة سيئة، وحضور
بغيض قد يقول الصدق ويتلفظ بالحق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبى
هريرة عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب) [5] .
وعمالقة الأدب الحديث الذين يتوجس أكثرهم خيفة من الإسلام، هل وجدوا
في الأنظمة (التقدمية) الأمان على أنفسهم والضمان لفكرهم؟ أم كانت النظرة
الغربية المحضة للإسلام، والتجربة الإسلامية المشوهة في كثير من الأمكنة؛ كانتا
وراء توجسهم وبالتالي وراء اختيارهم لنماذج لا تحسب على الإسلام إلا اعتسافاً
وقسراً كما فعل صلاح عبد الصبور، عندما اختار الحلاج ليعرض من خلاله مأساة
الثقافة والمثقفين وحرية الكلمة، وكيف دفع الحسين بن منصور الحلاج رأسه ثمنا
لفكره [6] وللكلمة التي آمن بها مُدينا (عبد الصبور) العلماء والقضاة الذين ساهموا
ويساهمون في اغتيال (نبتة الحرية وشجرة العبقرية المتمثلة بالحلاج وبالحلاليج
المعاصرين.
والمطّلع العادي غير المتخصص على العصر العباسي يجد أن هموم الثقافة
وشجون الواقع والمستقبل وهمومه والعلاقة الأبية مع السلطة كان يمثلها الإمام
أحمد- رحمه الله - الذي لم يحل سجنه وجلده بينه وبين كلمة الحق، بل إن الموت
نفسه كان احتمالا قائما وقريبا.
إن تلك الوقفة العالية في سماء التاريخ التي وقفها الإمام أحمد - لا قتل الحلاج
-هي التي كشفت للدولة العباسية عزلتها على الصعيد العلمي والشعبي.
فلقد روى الذهبي أن عالما ممن كان له في العطاء سهم، خيرته الدولة بين
أن يناقض الإمام أحمد ويحتفظ بعطائه أو يستمر في تأييده لموقف الإمام أحمد
فيخسر عطاءه، فاختار الثانية، فعلمت العامة التي لم تكد تفهم الموضوع الذي كان
محل خلاف، فعاد الرجل إلى بيته الذي يضم بين جدرانه ثلاثين نفسا يعولهم هذا
العالم فاستقبلوه بالتلوم فرد عليهم: إن الله لن يضيعنا، فلم تغب الشمس إلا
وصاحب حانوت يقرع باب هذا العالم ثم يبادره قائلاً: ثبّتك الله كما ثبتَّ الإسلام! ! كم كان يعطيك هؤلاء؟ يقصد عطاءه من الدولة، فقال: كذا، فقال صاحبة
الحانوت: خذ هذا المبلغ المساوي له ولك مثله كل شهر.
هل كان عبد الصبور مهتما بالحلاج لما يمثله من رمز ثقافي رافض؛ إذا كان
كذلك فالإمام أحمد أولى بذلك، ولكن رُفِضَ رَفْضُ الإمام أحمد لأنه كان ملتزما
بحدود النص الإسلامي في أدب العلاقة مع السلطة التي هي رمز الأمة، فقد كانت
سياط المعتصم تلهب ظهره وهو يقول له يا أمير المؤمنين! ! ! لماذا؟
لأن الخلاف مع السلطة لا يعني إسقاطها، ولأن الإمام أحمد كان على وعى
تام بالنتائج الخطيرة للحركات التي أرادت إسقاط السلطة ابتداء بحركات الخوارج
والشيعة وانتهاء بحركة الفقهاء-مع ابن الأشعث - كان مزيداً من الضحايا وتعميقاً
للخلافات وإجهاضاً للطاقات العامة ومنبعاً لأحزاب جديدة.
أم لعل سر اهتمام صلاح بالحلاج لصوفيته التي ينظر إليها كحركة احتجاج
داخلية تغطي أسئلتها وتساؤلاتها بالرمز، ولربما كان الترميز المعاصر والغموض
والإبهام في الشعر والقصة موصولاً بالرمز الصوفي شكلا ومضمونا، ولعل ذلك
يكشف سر الاهتمام بالشعر الصوفي من قبل المدرسة الحديثة في الأدب.
ولئن كان فوز نجيب محفوظ (ممثل الرمزية [7] في الجناح الآخر للأدب)
بجائزة نوبل موضوع هذا المقال فإني أقول ابتداءً. إن الرجل بكل المقاييس الفنية
قد بات شيخ الرواية العربية كماً وكيفاً، وهذه حقيقة أكبر من أن يماري فيها جَدِلٌ
أو متعنِّت.
فقد توصل إلى إبداع نماذجه الخاصة، وهذا إنجاز ضخم في عالم القصة
والمقصود بالنماذج بعض شخصيات رواياته (الذين هم في حقيقتهم مجرد أفراد حين
نرجع إلى سيرهم، ولكن البشرية حين تأملت ذاتها فيهم، رفعتهم من مستوى
الفردية إلى مستوى النموذج) [8] ومثل ذلك من القرآن - فرعون - وقارون
وأيوب عليه السلام. فالأول لأش اسم شخص بعينه ورمز ونموذج لكل طغيان
سياسي، والثاني رمز لكل طغيان مادي [9] ، والثالث نموذج للصبر والمصابرة.
ولكن نماذج محفوظ كانت محدودة مكاناً ومكانة وموقعاً سياسياً، أما المكان
فهو حي (الجمالية) الشعبي بالقاهرة الذي ظل محفوظ مسكوناً بأجوائه نفسياً وتاريخياً
معلناً أن (هذا الحي هو مصر) [10] وهو عندما ينتقل منه ينتقل جسداً وتبقى
(الجمالية) مضموناً أو ينتقل إلى معادل له (كزقاق المدق) الذي هو أيضاً رمز
لمصر كلها) [11] .
ولنا أن نتساءل كيف تختزل مدينة كالقاهرة، أو كيف تختصر أمة كمصر
وتتوحد خصائصها بحي (الجمالية) أو (زقاق المدق) ؟ .
مصر بتراثها وثرائها الفكري وعطائها المتدفق في كل العصور والدهور
تضؤل لتتمثل في حي شعبي يقول محفوظ عن خصائص الطبقات الشعبية فيه
(يلعب الجنس في حياتها أدوارا رهيبة في سقوط الكثيرين وفي سلوكهم، وحيث
أكثر الناس يتمسكون بالشعارات الدينية، وحيث كثير من الانتهازيين الذين
يستطيعون ببساطة اللعب بالعقول الغبية) [12] .
لِمَ هذا الجمع بين المتمسكين بالشعارات الدينية وبين الجنس ذي الأدوار
الرهيبة في السقوط؟
لم الزج باسم الدين في هذا التشكيل المتنافر؟
أما المكانة فهل هذه النماذج المنحرفة هي المثل الاجتماعي الوحيد الموجود في
هذا الحي؟ وهل تقلص الخير إلى الحد الذي يخيل فيه القارئ (نجيب) تفرد
النموذج الساقط وانفراده واستئثاره بالساحة؟
وهل مسؤولية الكاتب فقط تشريح النموذج وتقبيحه حتى تتحدد مواقف القراء
من هذه الحشرات البشرية؟
إن ذلك إنجاز مهم ولا شك، ولكنه ليس كافياً، فالقرآن ذكر خيانة امرأتي
نوح ولوط ثم أعقبهما مباشرة بنموذج مضيء - امرأة فرعون - ولعله سلك هذا
المسلك (والله أعلم) حتى لا تفتقد المرأة صورتها الطيبة بسبب هاتين المرأتين
المترديتين بما أغضب الله ورسوليه، وربما كان في استقدام نموذج امرأة فرعون
من بيئة تجاوزت في فسادها حي (الجمالية) -كانت امرأة فرعون تحت رجل يقول
(أنا ربكم الأعلى) - ربما كان في ذلك إشارة واضحة إلى أن الزهور قد تتفتح في
أسوأ الأمكنة مناخاً وبيئةً.
ولما كان فرعون يتهدد ويتوعد ويطلب ألا يحال بينه وبين موسى [ذَرُونِي
أَقْتُلْ مُوسَى] [غافر: 26] ، وكان الجمهور غارقاً في التصفيق رغبة أو رهبة لهذا البهلوان، كان القرآن يسمعنا صوت احتجاج متعقل يجبه هذا الطوفان بقوة هادئة أو بهدوء قوي! وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: [وقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ] [غافر:28-34] ... ألم يكن في (حي الجمالية) رجل رشيد؛ أم أن الكاتب لم يشأ أن يوجد هذا الرجل؟
في رواية (السكرية) يقول محفوظ على لسان سوسن حمّاد:
(المقالة صريحة ومباشرة، ولذلك فهي خطيرة، أما القصة فذات حيل لا
حصر لها، إنها فن ماكر) [13] .
يقول الأستاذ إبراهيم عامر في عدد الهلال الخاص عن نجيب محفوظ 1970
معلقاً على ذلك:
(هذه العبارة تبدو لي وكأنها الدستور الذي التزم به نجيب محفوظ منذ بدأ
يكتب) .
هل تخفّى (نجيب) من خلال قصصه بأبطاله أو من وراء أبطاله ليعرض
شكوكه أو أزمته الإيمانية، لا أزمة هؤلاء الأبطال؟
إن أبطال القص ليسوا إلا وجوها مختلفة للكاتب، وبينهم وبينه مشاعر متبادلة، وتطورهم أو انحدارهم في عالم الفن القصصي ذو صلة قوية بوجودهم في عالم
الواقع أحيانا كثيرة؛ كان نجيب محفوظ يكتب في (المجلة الجديدة) 1934-1938
التي كان يصدرها سلامة موسى مقالة عن (الله) وصفت بأنها جريئة عدد يناير
1936 ثم يقول في عدد مارس 1936 بعد عرضه (لفكرة الله في الفلسفة) :
(والآن فلنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما الذي تتركه في النفس جميع هذه الآراء
من الأثر؟ إن البراهين العقلية تمهيد حسن، ولفت قيّم، ولكنها لا تبلغ بالإنسان
درجة الاعتقاد الحقيقي… وإني أجد نفسي بعد الاطلاع عليها حيث كانت من القلق
والاضطراب) [14] .
ويقول أحد كبار النقاد:
(تحضرني لنجيب محفوظ هنا مجموعته القصصية (دنيا الله) وفيها شجب
أسلوبه التقليدي في القص، وتخطى حدود المظهر من الوجود إلى مطلق الوجود،
ولقد اصطنع العبث أو اللامعقول أحيانا ولجاً إلى الرمز في أثناء مناقشته لقضيتي
الحياة والإيمان، ونلحظ بسهولة أنه وهو يطلب منا أن نتجاهل الموت
لعشوائيته [15] ينادي بعفوية العقيدة، ولكنه يلح على الإحساس بالغربة والضياع.
أتراه فقد الإيمان؟
لماذا يبدو وكأنه يرفض السعادة ويأبى أن يرسم طريق النجاة؟ .
(نستطيع أن نقول إن نجيب محفوظ الذي سلّم بمقدرات الدين في أكثر أعماله، وقف إزاءها هذه المجموعة - أي دنيا الله - وقفة المواجه المتحدي، أو وقفة
المتسائل المشدوه، ولنقل وقفة المحيَّر أمام أخطر المشكلات) [16] .
أما محدودية نماذج محفوظ في الموقع السياسي فأضرب لذلك مثلاً بقصته
(ميرامار) والتي جعل فيها (زهرة) البطلة رمزاً للثورة المصرية (23يوليو) كما
يرى كثير من دارسي هذه القصة. وبقية الأبطال رمز لمواقف القوى القائمة في
الساحة من الثورة، (عامر وجدي) صحفي قديم شارك في كفاح الشعب، (حسني
علام الماجن، منصور باهي) التقدمي فكراً الخ ... هل هؤلاء فعلاً وغيرهم الذين
في القصة هم وحدهم الذين كانت لهم آراء ورؤية وموقف من ثورة يوليو؟
ألم تكن قوى أخرى وقفت مستندة إلى عقيدتها الإسلامية تحاور ثم تناوئ هذه
الثورة [17] .
وقصة (السراب) التي ولد فيها البطل من رحم الدراسات النفسية الغربية -
لا من البيئة المصرية - وذلك ليكون للعرب نموذج كأوديب وهاملت والاخوة
كارامازوف، ولو كانت الحقائق الاجتماعية العربية لا تسعف الكاتب، فهل يعقل
أن يظل الطفل (كامل رؤية لاظ) طفلاً في تعلقه بأمه يكبر فيه كل شيء (إلا هو)
(يستحم معها فتضعه في الطست عاريا وتجلس أمامه متجردة، وكان لا يطيق
فراقها، وكانت هي كذلك لا تطيقه (أي الفراق) كانت قد حشدت كل أمومتها من
أجله بعد أن استرد زوجها الطفلين الآخرين وفضلاً عن هذا كان بين الطفل وأمه
تشابه كبير، فقد كان وجهه نسخة من وجهها، وقد اعتاد أن ينام في سرير أمه حتى
بلغ السادسة والعشرين من العمر، وحين أنبه جَدُّه على ذلك ابتاع سريراً آخر ولكنه
وضعه في حجرة أمه) [18] .
والكلمة الأخيرة في (المجيز) أي مانح الجائزة، فمن المعلوم أن قمة أعمال
محفوظ الأدبية كانت قد تحددت وظهرت قيمتها وتم نضجها قبل منح الجائزة
بسنوات وما أضيف أخيراً لم يعط الكاتب وقصصه مزايا تنتزع الجائزة.
ولكن المزايا جاءت من خارج النص الأدبي ومن خلف سور القص، من عالم
السياسة عندما أضفى محفوظ على أدبه (طابع الإنسانية) وذلك (بضرورة العلاقة مع
إسرائيل، والصلح مع اليهود والتفاهم مع الصهيونية لعيش مشترك في فلسطين
ومصر ولبنان) .
في كلمة مختصرة للناقد جهاد فاضل في مجلة الحوادث 1987/11/13
بعنوان سقوط جائزة أم سقوط حضارة؛ أنقل بعض ما جاء في هذه الكلمة الرائعة
وإن كانت جديرة كلها أن تنقل:
(إذا كان القانون يقول: الأصل براءة كل إنسان حتى يثبت العكس فالأصل
في جائزة نوبل أنها متهمة حتى يثبت العكس، ذلك أن الواقع يثبت أن وراء منح
هذه الجائزة الأدبية الهامة، مقاصد غير بريئة فهي لا تعطى كل سنة ومنذ سنوات
بعيدة إلا لكاتب يهودي، أو لكاتب منشق أو لمولى من موالي الغرب، ولو كان
كاتبا من الدرجة الثالثة ولو كان في العالم عشرات الكبار الأصلاء والمستحقين.
في أدق تعريف لجائزة نوبل، يمكن القول أنها جائزة النظام العام الغربي
الأدبي والفكري والسياسي، وليست شيئاً آخر، جائزة النظام العام للغرب لا جائزة
الأدب والقيم الأدبية
والإنسانية الرفيعة، وتاريخها ناطق أنها لا تمنح إلا من زاوية خدمة أهداف
الغرب العليا، أداة من أدواته تماماً كالبندقية والمدفع والرادار وما إلى ذلك.
ويفضل (في المنهج) المنشق على أيدلوجية الشرق والمبهور بالغرب وثقافته
وحضارته) .
(وعندما يدعى هذا المنشق في الأسباب الموجبة لمنحه الجائزة ثائراً عربيا أو
إسلامياً في حين أنه ثائر على العروبة والإسلام) .
(بدأت جائزة نوبل عندما أراد عالم سويدي اسمه نوبل -التكفير عن ذنب
ألحقه بالإنسانية هو اختراعه للديناميت ولكن اللجنة القائمة على الجائزة كثيرا ما
تعطيها للتفجير لا للتكفير، وبذلك تراعي الاختراع الأصلي أكثر مما تراعي رغبة
التوبة عند مؤسسها.
***
[اجعل بينك وبين صنم الإفرنج بونا شاسعاً..
فعهده وميثاقه لا يساويان حبة شعير..
خذ النظرة من عين الفاروق..
وضع القدم الجريء في العالم الجديد..]
محمد إقبال