مجله البيان (صفحة 3279)

دراسات في الشريعة والعقيدة

إحياء سنة الوقف

نحو مؤسسة وقفية تمويلية تنموية

سليمان الطفيل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى

آله وصحبه، أما بعد:

فقد طرحت افتتاحية مجلة البيان في عددها ذي الرقم (138) تحت عنوان: ... (صحونا.. فلننهض) بعض الإنجازات التي حققتها الدعوة في مرحلة الصحوة، ثم

تساءلت: ما الذي عليها أن تستعين بالله في إنجازه فيما يستقبل من مراحل؟

مطالبة في ختام كلمتها أنه آن لنا أن ننتقل من مرحلة (الصحوة) إلى مرحلة ... (النهضة) لذلك عمدتُ - بعد توفيق الله تعالى - إلى الإسهام في تجلية حقيقة طالما

غابت ولعقود طويلة عن أذهان كثير من المسلمين، هذه الحقيقة لها شأن عظيم وأثر

بالغ في نهضة الإسلام وانتشاره في القرون الأولى، ألا وهي (سنة الوقف) تلك

السنة الخيرية التي امتاز بها المجتمع الإسلامي الأول لقول جابر: (لم يكن أحد من

الصحابة له مقدرة إلا وَقَفَ) [1] ، ولقد ذكر التاريخ الإسلامي في المجال التطبيقي

لفكرة الوقف كثيراً من الأوقاف التي تبارى المحسنون من المسلمين في كل أقطارهم

وعصورهم وعلى اختلاف مذاهبهم في إنشائها على جهات البر الكثيرة التي ما زال

كثير منها قائماً حتى اليوم. وهذه الأوقاف مما اختُص به المسلمون؛ لقول الإمام

الشافعي - رحمه الله -: (لم يحبس أهل الجاهلية - فيما علمته - داراً ولا أرضاً

تبرراً بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام) [2] ، وإلا فقد ورد أنهم كانوا يحبسون؛

ولكن بقصد الفخر والخيلاء؛ بل إن فكرة حبس المال والاستفادة من ريعه معروفة

من قديم الزمان وحديثه، وإن لم يسم بالاسم المتعارف عليه عند المسلمين وهو

الوقف.

تعريف الوقف:

الوقف لغة: يطلق على الحبس [3] ، كما أنه يطلق على المنع [4] ، فأما

الوقف بمعنى الحبس فهو مصدر قولك: وقفتُ الدابةَ، ووقفتُ الأرضَ على

المساكين، أي جعلتها محبوسة على ما وقفت عليه ليس لأحد تغييرها أو التصرف

فيها. وأما الوقف بمعنى المنع فلأن الواقف يمنع التصرف بالموقوف.

وأما في اصطلاح الفقهاء، فقد عُرِّف الوقف بتعاريف كثيرة تبعاً لاختلاف

المذاهب والأقوال في مسائل الوقف، وأقرب تلك التعاريف لمعنى الوقف ما ذكره

ابن قدامة في المقنع بأنه: (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) [5] ، لكونه مقتبساً

من قول أفصح البشر لساناً وأبلغهم بياناً صلى الله عليه وسلم، حينما سأله عمر بن

الخطاب عن أرض أصابها بخيبر، فقال له: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت

بها) [6] .

الأصل في مشروعية الوقف:

الأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم وكذلك إجماع الأمة.

أما الكتاب: فقول الله - تعالى -: [لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون]

[آل عمران: 92] .

أما السنة: فقد ورد في صحيح البخاري [7] عن ابن عمر - رضي الله

عنهما - قال: (أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت

حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث

وإنما هي صدقة في الفقراء والقربى والرقاب وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان

انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو

له) [8] .

وأما الإجماع: فقد اشتهر اتفاق الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على

الوقف قولاً وفعلاً [9] ؛ ومن ذلك قول الصحابي جابر بن عبد الله السابق ذكره،

وكذا قول الإمام الشافعي - رحمه الله -: (بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من

الصحابة من الأنصار وقفوا) [10] . وذكر الخصاف أن فعل أصحاب رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وما وقفوه من عقاراتهم وأموالهم إجماع منهم على أن الوقوف

جائزة ماضية [11] .

أركان الوقف: أركانه أربعة، هي [12] :

1- الواقف: وهو الحابس للعين.

2- الموقوف: وهي العين المحبوسة.

3- الموقوف عليه: وهي الجهة المنتفعة من العين المحبوسة.

4- الصيغة: ويقصد بها لفظ الوقف وما في معناه. وهناك ألفاظ صريحة

وألفاظ كناية. أما الألفاظ الصريحة فهي كقولك: وقفت، وحبست، وسبَّلت، وأما

ألفاظ الكناية فهي كقولك: صدقة محرمة، أو صدقة محبسة، أو صدقة مؤبدة.

أنواع الوقف:

ينقسم الوقف باعتبار الجهة الأولى التي وُقِفَ عليها إلى نوعين [13] :

1- الوقف الأهلي.

2- الوقف الخيري.

يُقصد بالوقف الأهلي: وقف المرء على نفسه، ثم على أولاده، ثم على

ذريته، ثم على جهة خيرية من بعدهم. أما الوقف الخيري: فهو الوقف على جهة

بر ومعروف، كالمساجد والمدارس والمستشفيات، وسمي وقفاً خيرياً لاقتصار نفعه

على المجالات والأهداف الخيرية العامة.

الحكمة من مشروعية الوقف:

لتشريع سنة الوقف حِكَمٌ عظيمة أبرزها: إيجاد مصدر تمويلي دائم لتحقيق

مصالح خاصة ومنافع عامة، وعلى أساس هذه الحكمة يمكن وصف الوقف بأنه

وعاء يصب فيه خيرات العباد، ومنبع يفيض بالخيرات على البلاد والعباد تتحقق

به مصالح خاصة ومنافع عامة؛ ولا ريب أن هذه الخيرات تكون من أموال

المسلمين وممتلكاتهم وأن حصولهم عليها يكون من جهةٍ حلال ومن طيب المال.

مؤسسة الوقف والنهضة بشؤون الإسلام:

بعد هذه المقدمة القصيرة حول تعريف الوقف وأنواعه والحكمة منه، نجد أن

الفقه الإسلامي ينظر إلى الوقف على أنه مؤسسة تمويلية تنموية لها شخصيتها

الاعتبارية، وأن مكونات هذه الشخصية لا تنحصر في التركيز على أعيان الوقف

وإنما على الجهة (الخاصة أو العامة) التي رُصدت الأوقاف لمصلحتها، وبهذا تكون

مؤسسة الوقف مصدراً مالياً من مصادر الأمة الإسلامية تستطيع - بأمر الله - تعالى- أن تنقلها من مرحلة الإعداد (الصحوة) إلى مرحلة البناء (النهضة) . بمعنى أن

مرحلة الوعي والالتزام بالدين الإسلامي (الصحوة الإسلامية) يترتب عليها عودة

كثير من المسلمين إلى طريق الرشد والاستقامة - منهج أهل السنة والجماعة -

هذه المرحلة تدفع كثيراً من المسلمين - المقتدرين - إلى الإنفاق والبذل في جهات

البر والخير المختلفة، ومن ثم قيام مؤسسات خيرية منها مؤسسة الوقف، هذه

المؤسسات تسعى إلى دعم مجالات التنمية المختلفة، فتبدأ حينئذ حركة البناء

والنهضة تظهر وتنتشر في أرجاء المجتمع الإسلامي؛ وهذا ما فعله رسول الله

صلى الله عليه وسلم عند بزوغ فجر الإسلام؛ حيث أوقف صلى الله عليه وسلم

الحوائط السبعة في المدينة [14] ، وقال عمر بن الخطاب: كان لرسول الله صلى

الله عليه وسلم ثلاث صفايا [15] ، وكانت بنو النضير حبساً لنوائبه، وكانت

فدك [16] لابن السبيل، وكانت خيبر قد جزأها ثلاثة أجزاء: جزئين للمسلمين

وجزءاً كان ينفق منه على أهله؛ فإن بقي فضلٌ رده على فقراء المهاجرين [17] ...

وقال عبد الله بن كعب: حبس المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ...

أولادهم وأولاد أولادهم [18] . وذكر الطرابلسي: حبست عائشة - رضي الله عنها

- وأختها أسماء وأم سلمة وأم حبيبة وصفية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم،

وحبس سعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر

وعبد الله بن الزبير وغيرهم - رضي الله عنهم - أجمعين [19] ، وقال الشافعي:

وأكثر دور مكة وقف [20] .

وعليه: إذا كانت المجتمعات الإسلامية عاشت حياة الصحوة مع بداية هذا

القرن الخامس عشر الهجري ونهاية القرن العشرين الميلادي؛ فإن المناداة إلى

عودة الوقف للإسهام في تمويل مجالات الدعوة ورعاية المؤسسات الخيرية،

والإنفاق على القائمين عليها (تمويلاً للنهوض بشؤون الإسلام) يعد فرصة مواتية

لإعادة الاعتبار لهذه السنة بما يتلاءم مع مستجدات العصر الحالي؛ لأن مؤسسة

الوقف لها أهداف تتعلق بشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، تسعى دائماً لنشر الخير، وتنمية المجتمع الإسلامي، وإشاعة روح السخاء والبذل

الذي يحرك أبناء الأمة الإسلامية ويقودهم إلى ساحات التكافل والتعايش، وبذل

المعروف والإحسان، ويبعث في نفوسهم معاني الإسلام؛ تمهيداً للمستقبل المشرق

الواعد، وتوطئة لمقدم جيل إسلامي صميم أشد أخذاً بالإسلام في نهضته الحديثة

الراقية [21] .

ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن ظهور هذه المؤسسة الوقفية وانتشارها داخل

المجتمعات الإسلامية كفيل - بعد الله تعالى - بأن تقوم بالدور الريادي للأمة

الإسلامية خلال هذا القرن الهجري الجديد، بجانب المؤسسات الإسلامية الأخرى؛

ذلك أن مؤسسة الوقف بمثابة الكيان الحسي والمعنوي الذي ينسج داخل جسم

المجتمع الإسلامي خيوطاً محكمة في التشابك، وعلاقات قوية من الروابط يغذي

بعضها بعضاً، تبعث الروح في خلايا المجتمع حتى يصير كالجسد الواحد إذا

اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. ويصدق على ذلك قول

الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم

مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [22] .

الوقف مؤسسة تمويلية تنموية:

لقد أثبتت التجربة التاريخية عبر القرون الإسلامية الماضية، الدور الكبير

والعطاء المتميز لمؤسسة الوقف في تمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية

والصحية والمجتمعية، وفي رعاية المساجد والمكتبات، ... إلخ، مما ساعد على

نمو الحضارة الإسلامية وانتشارها؛ حيث انتشرت بسببها المدارس والمكتبات

والأربطة وحِلَق العلم والتأليف، وتحسنت بدعمها الأحوال الصحية للمسلمين

وازدهر علم الطب، وأنشئ ما عرف قديماً بالبيمارستانات أو المارستانات

(المستشفيات) ، إضافة إلى دور هذه المؤسسة في دعم الحركة التجارية والنهضة

الزراعية والصناعية وتوفير البنية الأساسية من طرق وقناطر وجسور.

والمتأمل في أساليب الانتفاع الاقتصادي لمؤسسة الوقف في العصور

الإسلامية الأولى سيجد أنه شمل أنواعاً مختلفة من مصادر ثروة المجتمع تمثلت في

أراض زراعية وحدائق وبساتين إلى مختلف العقارات والدكاكين وأدوات الإنتاج

فضلاً عن السفن التجارية والنقود.

أما عن الآثار التنموية لمؤسسة الوقف التي تظهر في حياة المجتمع فهناك آثار

اقتصادية أبرزها: الأثر على التشغيل والتوظيف وتوزيع الثروة وتشجيع

الاستثمارات المحلية، كما أن لها آثاراً اجتماعية، أهمها: تحقيق التكافل

الاجتماعي والترابط الأسري، وبناء المساكن للضعفاء، ومساعدة المحتاجين،

وتزويج الشباب، ورعاية المعوقين والمقعدين والعجزة، وبناء القبور وتجهيز لوازم

التغسيل والتكفين للموتى.

إضافة إلى ذلك فإن لهذه المؤسسة الإسلامية العريقة الأثر الواضح في عملية

التنمية البشرية التي تعنى ببناء الإنسان بجميع جوانبه (الروحية والعقلية

والجسمية) ، وذلك من خلال تركز أموال الوقف في بناء المساجد والجوامع ... (دور العبادة وتركيزها على جانب الروح) ، والمدارس والجامعات والمكتبات وكفالة الدعاة (دور التعليم وتركيزها على جانب العقل) ، والمستشفيات والمراكز الصحية (المارستانات أو البيمارستانات) وتركيزها على جانب الجسم.

وما أحوج المجتمعات الإسلامية في هذا العصر إلى وجود مؤسسات وقفية

تتولى كثيراً من شؤون حياتهم؛ فقد تتوفر متطلبات الحياة في مكان بينما نجد أماكن

أخرى يعيش أهلها في شظف من العيش.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015