دراسات في الشريعة والعقيدة
د.أحمد بن شرشال
القرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة اللفظية فحسب؛ بل نزل من أجل هذا
ومن أجل ما هو أعم وأكمل؛ وهو فهم معانيه وتدبر آياته ثم التذكر والعمل بما فيه، وهو المنصوص عليه في قوله - تعالى -: [ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو
عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم] [البقرة: 129] .
إن تلاوة كتاب الله - تعالى - تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو
بغير صوت، إنها تعني تلاوته بفهم وتدبّر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد
ذلك وسلوك.
إن تلاوة كتاب الله لا تعني الحرص على إقامة المدّ والغنّة ومراعاة الترقيق
والتفخيم فحسب؛ وإنما تعني ذلك مع ترقيق القلوب وإقامة الحدود.
وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية المبالغة والحرص في تحقيق ذلك وسوسة
حائلة للقلب عن فهم مراد الله - تعالى -[1] .
والأمر الجامع لذلك: كما أننا مُتعبدُون بقراءة ألفاظ القرآن صحيحة وإقامة
حروفه على النحو الذي يرضيه - جلّ وعلا - متعبدون بفهم القرآن والتفقه فيه
دون سواه، والاستغناء به عن غيره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما
اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم
السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [2] .
قال - تعالى -: [الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته] [البقرة:121] وقد فسر قتادة أن الصحابة هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته [3] .
والتلاوة لها معنيان:
أحدهما: القراءة المرتلة المتتابعة، وقد أمر الله بها رسوله صلى الله عليه
وسلم في قوله تعالى: [وأمرت أن أكون من المسلمين. وأن أتلو القرآن]
[النمل: 91، 92] . وكان يتلوه على كفار قريش قال - تعالى -: [قل لو شاء الله ما تلوته عليكم] [يونس: 16] .
والثاني: الاتباع؛ لأن من اتبع غيره يقال تلاه؛ ومنه قوله - تعالى -: ... [والقمر إذا تلاها] [الشمس: 2] ، روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (يتبعونه حق اتباعه) ، ثم قرأ: [والقمر إذا تلاها] أي: اتبعها [4] .
ونقل القرطبي عن عكرمة قوله: (يتبعونه حق اتباعه باتباع الأمر والنهي
فيُحلون حلاله، ويحرمون حرامه ويعملون بما تضمنه) [5] ، أقول: والجمع بين
المعنيين هو المتعين، ويصح فيها جميعاً؛ فالتلاوة بإقامة الألفاظ وضبط الحروف،
ثم العمل بما تضمنته الآيات المتلوة، وعبّر عن الفهم والتدبر بالتلاوة حق التلاوة
ليرشدنا إلى أن ذلك هو المقصود من التلاوة، وليس مجرد التلاوة وتحريك اللسان
بالألفاظ بدون فهم وفقه واهتداء.
وقد بين عبد الله بن مسعود رضي الله عنه معنى حق التلاوة فقال: (والذي
نفسي بيده! إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله،
ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئاً على غير تأويله) [6] ، وهذا
البيان من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واسع وجامع لمعنى التلاوة، وهي
قراءته كما أنزل، وفهمه وتفسيره والعمل به.
ولهذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - لا يتجاوزون خمس آيات أو عشراً
حتى يعلموا ما فيهن من العلم والعمل.
قال أبو عبد الرحمن السلمي - أحد أكابر التابعين -: حدثنا الذين كانوا
يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا
من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من
العلم والعمل، قالوا: (فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً) [7] .
وروى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان
الرجلُ منَّا إذا تعلمَ عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرفَ معانيهن والعمل بهن) [8] ، وهذا يدلُّ على أن الصحابة - رضي الله عنهم - نقلوا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة [9] ؛ فبين لأصحابه معاني القرآن
كما بين لهم ألفاظه: [وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم]
[النحل: 44] فنقل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء، ... بدليل قوله - تعالى -: [وما على الرسول إلا البلاغ المبين] [النور: 54] ، 0 ... (وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان) [10] .
قال ابن تيمية وابن القيم: (والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن
الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه) [11] .
وهكذا تلقى الصحابة - رضي الله عنهم - هذا القرآن لفظاً ومعنى، وكان
التعلم والتعليم عندهم مبناهما على التفقه في القرآن دون سواه.
ذكر الحافظ ابن كثير عن الضحاك فقال: (قال الضحاك في قوله - تعالى -: [كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون] [آل عمران: 79]
قال: (حقٌّ على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً) ومعنى تَعْلَمون: تفهمون
معناه، وقرئ: تعلمون بالتشديد من التعليم وبما كنتم تدرسون تحفظون ألفاظه، والجمع بين القراءتين متعيَّن، فكانوا يَعْلَمونه ويُعلِّمونه ولا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم [12] .
قال الرازي: (ودلّت الآية على أن العلمَ والتعليم والدراسة توجب كون
الإنسان ربانياً؛ فمن اشتغل بذلك لا لهذا المقصد ضاع سعيُه وخاب عملُه) [13] .
ونقل هذا المعنى رشيد رضا وقال: (فبعلم الكتاب ودراسته وتعليمه للناس
ونشره والعمل به يكون الإنسان ربانياً مَرضِيّاً عند الله) [14] . هكذا كان دأبُ
الصحابة - رضي الله عنهم كما ذكره ابن القيم فقال: (ولم يكن للصحابة كتابٌ
يدرسونه وكلامٌ محفوظ يتفقهون فيه إلاَّ القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه
وسلم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك) [15] .
فكان القرآن عندهم هو العلمُ الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً.
وقد فسر حَبْرُ الأمة ابن عباس الحكمة بفهم القرآن وفقه ما فيه من علوم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله - تعالى -: [يؤتي الحكمة من يشاء
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا] [البقرة: 269] قال: (المعرفة بالقرآن:
ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه،
وأمثاله) [16] .
وفسرها الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف وهو ما
أُخِذَ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم:
(ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [17] .
ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من
العلوم، وهو من أوسع التفسيرات، وهو لا ينافي من فسّر الحكمة بالسنة؛ لأن بها
يحصل بيانُ القرآن وفهمُه وفقهُه؛ فهي المفسّرة والمبيّنة للقرآن، وتعني - من بين
ما تعنيه - الفقه والفهم، يدلّ على ذلك قوله - تعالى -: [وآتيناه الحكمة وفصل
الخطاب] [ص: 20] .
قال مجاهد: (يعني الفهم والعقل والفطنة) [18] ومن أعطاه الله ويسّر له فقه
القرآن وعلومَه والعمل به فقد حاز فضلاً عظيماً وخيراً جزيلاً.
قال القرطبي: (إن من أُعْطِيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل مما أُعطي
مَنْ جمع علم كتب الأولين من الصحف وغيرها) [19] .
فكتاب الله حكمة، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم حكمة، وأصل الحكمة ما
يُمتنَع به من السفه، ومن ثَمَّ اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: [ويعلمهم
الكتاب والحكمة] [البقرة: 129] وقد حث الله - عز وجل - على التدبر
والاعتبار بما في آي القرآن من المواعظ فقال: [كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا
آياته وليتذكر أولوا الألباب] [ص: 29] ، وقال: [أفلا يتدبرون القرآن أم على
قلوب أقفالها] [محمد: 24] ، وقال: [ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل
مثل لعلهم يتذكرون] [الزمر: 27] ففي مثل الآيات ونحوها دليل على وجوب
معرفة معاني القرآن والاتعاظ بمواعظه وفقه ما فيه من الهداية والرشاد، ولا يقال
لمن لا يفهم تفسيره: اعتبر بما لا فهم لك به، ولا يقال ذلك إلا لمن كان بمعاني
القرآن بصيراً وبكلام العرب عارفاً [20] .
وأقول: وتدبر القرآن مرحلة تالية لمرحلة الفهم، ولا يمكن أن يتأتى التدبر
لمن لم يفهم معاني القرآن.
قال القرطبي: (وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل
على أن الترتيل أفضل من الهذّ؛ إذ لا يصحّ التدبر مع الهذّ) وقد شكا رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه للقرآن فقال: [وقال الرسول يا رب
إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا] [الفرقان: 30] .
وهجر التفسير والفهم والتدبر نوع من أنواع هجره. قال ابن القيم وابن كثير: ... (ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه،
وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى
غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من
هجرانه) [21] .
قال ابن تيمية: (وأما في باب فهم القرآن فهو {أي: قارئ القرآن} دائم
التفكر والتدبر لألفاظه واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس،
وإذا سمع شيئاً من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية
قَبِلَهُ وإلا ردّه) [22] .
ويشهد لما تقدم ما رواه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري حيث قال: (والله
ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كلَّه ما
يُرى له في خُلُقٍ ولا عملٍ) [23] .
فكلام ابن كثير يدل على أن انصراف الطلاب إلى طلب العلم في غير القرآن
نوع من أنواع هجره، وكلام شيخ الإسلام يدل على أن الواجب على الطلاب أن
يستغنوا بمعاني القرآن وأحكامه عن غيره من كلام البشر، ويدل لهذا ما ذكر ابن
أبي الحواري أن فضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: لو طلبتم
كتاب الله لوجدتم فيه شفاءاً لما تريدون، فقالوا: تعلمنا القرآن، فقال: إن في
تعلُّمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم، قالوا: كيف يا أبا علي؟ قال: (لن
تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه - تفسيره وبيانه - ومحكمه ومتشابهه وناسخه
ومنسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة) [24] .
فهذا فضيل بن عياض اعتبر التفقه في غير القرآن شغلاً لا طائل من ورائه،
ثم هو يصحّح لهؤلاء الطلاب التوجهات الصحيحة لطلب العلم في زمنه ويردهم إلى
طلب التفقه في القرآن نفسه.
وهكذا كان بعض السلف يقدمون القرآن وعلومه وتفسيره على أي علم آخر؛
فقد وجد من يمنع طلب علم الحديث وكتابته قبل حفظ القرآن، وكانوا يختبرونهم
في بعض معانيه؛ فهذا عبد الله بن المبارك يختبر من جاء يطلب الحديث عنده في
القرآن وبعض علومه [25] .
وذكر ابن عبد البر عن علي قوله: (أعزم على كل من كان عنده كتاب إلاّ
رجع فمحاه؛ فإنما هلك الناس حيث يتبعون أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم) ،
وذكر عن عمر: (أن قوماً كانوا يكتبون كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب
ربهم) [26] ، نقل ابن القيم عن الإمام البخاري قوله: (كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنةَ نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخرى وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي به يعتنون حفظاً وفهماً وتفقهاً) [27] .
ما أشبه الليلة بالبارحة! والقصة نفسها تتكرر في بعض طلبة هذا الزمن؛ إذ
يهجرون حفظ القرآن وفهمه وتفسيره والتفقه فيه إلى كتب فلان وفلان، وإنك
لتعجب من بعضهم؛ إذ انحرف في الطلب، فتجده لا يحفظ من القرآن إلا قصار
السور ونحوها ولا يفهمها، وتجد له جرأة عجيبة على اقتحام علم الجرح والتعديل
ونحوه؛ فمثل هذا وأمثاله لم يستوعب التصور الصحيح لمنهج التربية والتعليم الذي
رسمه القرآن وبيَّنه.
فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه القرآن وفعله
السلف، ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن والتفقه فيه، وما حظهم من هدايته؟