إشراقات قرآنية
سورة القمر
وما فيها من إعجاز البيان وبديع النظام
د. محمد أسد سبحاني
هناك حقيقةٌ ظاهرة ثابتة، حقيقةٌ صدع بها الأصدقاء وشهد بها الأعداء،
حقيقة يؤمن بها المؤمنون ويعترف بها المعاندون ألا وهي أن هذا القرآن الكريم -
كتاب الله الخالد - يحتلّ ذروةً عاليةً وقمةً سامقةً من بلاغة الأسلوب وإعجاز البيان؛ بحيث لا يجارى ولا يبارى ولا يُشقّ له غبار.
فما هي ميزة القرآن التي أعجزت فرسان الكلام وفحول البيان؟
من الواقع المرّ الذي لا بدّ أن نعترف به أن الكتب التي أنشئت لإبراز بلاغة
القرآن وإعجاز أسلوبه - مع جلالة قدرها وعلو مكانتها - تعجز عن الإجابة
الواضحة القاطعة الحاسمة على هذا السؤال.
ولا نرى لذلك سبباً إلا الغفلة عن نظام الآيات ورباط معانيها؛ فإن من غفل
عن نظام الآيات أو تناوله تناولاً قاصراً عابراً لا يمكنه أن يستمتع بجمال القرآن،
ولا يمكنه أن يدرك ميزته التي تخصّه من بين سائر أنواع الكلام.
والحق الذي يحق أن يعلن ويقال: إن سرّ إعجاز القرآن هو هذا النظام.
فهذا النظام هو الذي جعل من تلك الآيات التي لا نرى فيها من ضروب
البلاغة إلا التجنيس والطباق والحذف والتكرار وما شابه ذلك، جعلنا نرى فيها
عالَماً عجيباً من الروعة والجمال، وبحراً زاخراً من المعاني والحكم؛ بحيث تهتز
لها النفس اهتزازاً وتمتلئ بها بهجة وسروراً، ولا تدري كيف تعبّر عمّا تجد فيها
من لطائف البلاغة وروائع البيان.
وقد أسهبت في بيان نواحي الروعة والجمال والبلاغة وحسن البيان المشتملة
عليه خواتيم آل عمران في كتاب بعنوان: (البرهان في نظام القرآن) .
وأما هذا المقال فهو مخصص لتسليط الأضواء على سورة القمر وإماطة اللثام
عمّا فيها من إعجاز البيان وبديع النظام، فنقول وبالله التوفيق:
إن هذه السورة الكريمة المباركة تشتمل - كأخواتها - على أبواب كثيرة
متنوعة من البلاغة وحسن العبارة، ولكنّها تبدو وكأنها ما زالت رِتاجاً مُرْتَجاً [1]
لقلة من عُني بنظامها وقلة من درس رباط معانيها.
ولا نرى من أئمة التفسير وعلماء البيان من تذوّق تلك السورة الكريمة
واستمتع بها مثلما تذوقها واستمتع بها المفسِّر والأديب البارع الموهوب الأستاذ سيد
قطب - رحمه الله - حيث يقول:
(هذه السورة من مطلعها إلى ختامها حملة رعيبة مفزعة عنيفة على قلوب
المكذبين بالنذر، بقدر ما هي طمأنينة عميقة وثيقة للقلوب المؤمنة المصدقة.
وهي مقسمة إلى حلقات متتابعة كل حلقة منها مشهد من مشاهد التعذيب
للمكذبين، يأخذ السياق في ختامها بالحس البشري فيضغطه ويهزُّه ويقول له: ... [فكيف كان عذابي ونذر] [القمر: 16] .
ثم يرسله بعد الضغط والهزِّ ويقول له: [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من
مدكر] [القمر: 17] .
ومحتويات السورة الموضوعية واردة في سور مكيّة شتى؛ فهي مشهد من
مشاهد القيامة في المطلع، ومشهد من هذه المشاهد في الختام، وبينهما عرض
سريع لمصارع قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وَمَلَئِه.
وكلها موضوعات تزخر بها السور المكية في صور شتى.
ولكن هذه الموضوعات ذاتها تُعْرَضُ في هذه السورة عرضاً خاصاً يحيلها
جديدة كل الجدّة؛ فهي تُعرَض عنيفةً عاصفةً، وحاسمة قاصمة، يفيض منها الهول
ويتناثر حولها الرعب، ويظلّلها الدمار والفزع والانبهار!
وأخص ما يميزها في سياق السورة أن كلاً منها يمثّل حلقة عذاب رهيبة
سريعة لاهثة مكروبة يشهدها المكذبون، وكأنما يشهدون أنفسهم فيها، ويحسون
إيقاعات سياطها؛ فإذا انتهت الحلقة وبدؤوا يستردّون أنفاسهم اللاهثة المكروبة،
عاجلتهم حلقة جديدة أشد هولاً ورعباً؛ وهكذا حتى تنتهي الحلقات السبع في هذا
الجو المفزع الخانق؛ فيطل المشهد الأخير في السورة وإذا هو جوٌّ آخر ذو ظلال
أخرى.
وإذا هو الأمن والطمأنينة والسكينة. إنه مشهد المتقين: [إن المتقين في
جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] } ، في وسط
ذلك الهول الراجف والفزع المزلزل والعذاب المهين للمكذبين [يوم يسحبون في
النار على وجوههم ذوقوا مس سقر] [القمر: 48] .
فأين وأين؟ مشهد من مشهد؟ ومقام من مقام؟ وقوم من قوم؟ ومصير من
مصير؟) [2] .
هذا ما نجده عند المفسر والأديب سيد قطب رحمه الله وهو على روعته
وجلالة قدره لا يزيد على أن يكون لمحة خاطفة إلى محاسن تلك السورة ومميزاتها،
وإلا فهي تزخر بمحاسن التعبير ولطائف البلاغة بحيث لا نقضي منها العجب.
والجدير بالذكر أن هذه البلاغة وتلك المزايا يرجع معظمها إلى حسن النظام.
فمن كان يريد أن يدرك هذه المحاسن أو يتذوق تلك البلاغة فلا عليه إلا أن
يتدبر السورة متمسكاً بنظام آياتها ورباط معانيها؛ فإن ذلك سيمده بكثير مما لم
يخطر بباله ولم يتشمم رائحته عند غيره.
ونذكر هنا بعض ما لمسناه نحن من لطائف البلاغة فيها حتى يكون ذلك حافزاً
لمن تطلّع إلى الفحص عن بقيتها.
فكلما تدبرنا السورة وأنعمنا النظر في نظامها رأينا من شأنها عجباً؛ حيث
وجدناها مثالاً رائعاً لبراعة الاستهلال، وندرة الاستدلال وروعة الانتقال وسرعة
الالتفات، وحسن التلميح وجمال المقطع ودقة التصوير وشدة التأثير وكمال الإبلاغ
وعجيب الاستدراج وما إلى ذلك من دلائل الإعجاز.
براعة الاستهلال:
فأما براعة الاستهلال فيها فيكفينا لإدراكها أن نتذكر أواخر سورة النجم؛
حيث قال - تعالى -: [هذا نذير من النذر الأولى. أزفت الآزفة. ليس لها من
دون الله كاشفة. أفمن هذا الحديث تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون. فاسجدوا لله واعبدوا] [النجم: 56 - 62] .
فلما كان أعداء الله في غاية السمود [3] ؛ حيث كانوا يعجبون إذا قيل لهم: [أزفت الآزفة. ليس لها من دون الله كاشفة] [النجم: 57، 58] وكانوا يضحكون ولا يبكون ويستهزئون ولا يخافون قرعتهم سورة القمر وهزّتهم هزّاً عنيفاً حتى ينتبهوا من رقدتهم ويفيقوا من هوسهم: اقتربت الساعة وانشق القمر.
أي: جاءتكم الساعة. الساعة التي كنتم تعجبون منها وتضحكون. جاءتكم
بكل ما فيها من ويل وثبور وشرور وأهوال؛ وهذي أشراطها قد ظهرت وتحققت؛
فقد انشق القمر ولم يبق مجال لإنكار من أنكر.
وفضّل هنا هذا الأسلوب أسلوب المفاجأة والمباغتة، حتى يدركوا أن الساعة
ستأتيهم هكذا بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردّها ولا هم ينظرون، وعندئذ يندمون
ويصطرخون، كما قال تعالى: [واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار
الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين] [الأنبياء: 97] .
ولكن: ماذا يجديهم الندم، وقد فاتهم الزمن؟ !
وكان هذا الأسلوب ولا شك بحيث تتخشع له الجبال، وتتصدع له الصخور.
ولكنه لم يكن لينجع في قوم أعماهم الجهل والسمود عن النظر في عواقبهم. وكانوا
كما قال الله فيهم: [إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن
تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا] [الكهف: 57] .
فلم يكونوا ليفيقوا من هوسهم. وإنما الذي كان يخشى منهم أن يزدادوا عتواً
إلى عتوهم وعناداً إلى عنادهم، ويقولوا كما قال أشياعهم من قبل: [فأت بآية إن
كنت من الصادقين] [الشعراء: 154] .
فجاءت الآية: [وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر] [القمر: 2] .
وهذا من عجيب أسلوب القرآن؛ حيث إنه كثيراً ما يأتي بمعنيين ترى بينهما
فجوة، وما هي بفجوة، وإنما هي من لطائف بلاغة القرآن؛ إنه يأتي بمعنيين
متنائيين في بادئ النظر ويترك للذهن أن يملأ الفراغ بينهما، وإن شئت فقل: إنه
يجعل التفكر جسراً بينهما.
ومثل هذه المواطن تكون مظنة الحيرة، إلا أن رعاية النظام تعالجها بسهولة.
فكأنه قيل: إنهم الآن ينذرون ويلات الساعة، فلا ينتبهون ولا يرتعدون
ويدّعون بآية يستدلون بها على صدق هذه النبوءة.
ولو ظهرت لهم الآية تحقيقاً لطلبهم ونظراً إلى رغبتهم لأعرضوا وقالوا:
سحر مستمر، كما جاء في موضع آخر: [وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان
خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم] [الأحقاف: 11] .
وأيضاً كما ورد في موطن آخر: [فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا
أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران
تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون] [القصص: 48] .
ثم قال: على أية حال؛ فإنهم كذبوا بالساعة ولم يعتمدوا في تكذيبهم هذا على
دليل رصين أو أساس متين، وإنما اتبعوا أهواءهم. فهل تكذيبهم هذا يغيّر الوضع
ويبدّل القول؟ لا؛ فكل أمر له موعد مضروب وأجل محتوم.
فإذا جاء الموعد وحان الأجل وقعت الواقعة واستقر الأمر.
ومما يدعو إلى العجب أنهم يعرضون، مع أنهم جاءهم من الأنباء ما يكفي
لردعهم وزجرهم! !
جاءتهم أحاديث كلها حكمة بالغة وموعظة رادعة؛ ولكن هذه النذر كلها
ضاعت، كأنها كانت صيحة في وادٍ أو نفخاً في رماد!
روعة الالتفات:
وهنا يلتفت الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: [فتول عنهم يوم يدع
الداع إلى شيء نكر. خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.
مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر] [القمر: 6 - 8] } .
ولعمري إنه التفات عجيب ومليح؛ فإن الكلام ما زال متصلاً بالكافرين
ومتوجهاً إليهم؛ فكأنه من قبيل (إياكِ أعني واسمعي يا جارة) .
ولا يخفى ما لهذا الالتفات من وقع وتأثير في النفوس إن كان قد بقي فيها
رمق من حياة!
حسن المقابلة:
ثم نلاحظ في تلك الآيات مقابلة جميلة رائعة لا ينتبه لها إلا من يهتم بنظام
الآيات: فاليوم هم [سامدون] [النجم: 61] ، وغداً تراهم [خشعا أبصارهم]
[القمر: 7] .
واليوم تراهم معرضين عن الداعي: [وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر
مستمر] [القمر: 2] } .
وغداً تراهم: [مهطعين إلى الداع] [القمر: 8] .
واليوم تراهم يكذبون: [وكذبوا واتبعوا أهواءهم] [القمر: 3] .
وغداً يصدِّقون، حين لا ينفعهم تصديقهم: [يقول الكافرون هذا يوم عسر]
[القمر: 8] .
واليوم تراهم يتبجحون ويقولون: [نحن جميع منتصر] [القمر: 44] .
وغداً يخرجون من الأجداث: [كأنهم جراد منتشر] [القمر: 7] .
وما أروع المقابلة بين [جميع منتصر] [القمر: 44] . وبين [جراد
منتشر] [القمر: 7] .
ثم تبلغ هذه المقابلة غايتها من الحسن والروعة والجمال حينما نستمع إلى
القرآن مرة أخرى وهو يقول: [أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر] [القمر: 44، 45] } .
وما أشبه الجيش المنهزم بجراد منتشر! !
ثم نجد أنفسنا أمام تلك الآيات: [كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا
مجنون وازدجر. فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر
. وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر. وحملناه على ذات ألواح
ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ولقد تركناها آية فهل من مدكر. فكيف
كان عذابي ونذر] إلى قوله - تعالى -: [ولقد جاء آل فرعون النذر. كذبوا
بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر] [القمر: 9 - 42] .
ينظر الناظر إلى تلك الآيات ويمر بها وكأنها ليست إلا عبارات عادية لا
يقصد بها إلا توعّد الكافرين بسوء مصيرهم في الدنيا، شأن من خلوا من قبلهم،
كما صرّح به القرآن بعدما انتهى من تلك القصص؛ حيث قال: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر] [القمر: 43 - 45] .
ولكننا حينما نقيم على تلك الآيات ونطيل القيام عليها، ونتملاّها في ضوء
نظامها نقضي منها العجب لكثرة ما تشتمل عليه من عجائب البلاغة من ندرة
الاستدلال على مجيء الساعة وعجيب الاستدراج إلى أهوالها، ثم من سرعة
الالتفات ولطيف الانتقال ودقة التصوير وشدة التأثير وأشياء أخرى قد يدركها
المتأمل المتوسم ويعجز عن وصفها.
وهنا نُلمح إلى بعض ما تتضمنه تلك الآيات من روائع البلاغة ومحاسنها.
ندرة الاستدلال:
ننظر أولاً إلى ندرة الاستدلال على مجيء الساعة وهي من ناحيتين:
الأولى: أنهم كانوا يستبعدون الساعة من جهة إمكانيتها.
وكانوا يطلبون آية يستدلون بها على وقوعها.
إنهم كانوا يقيسون القدرة القادرة المطلقة بقدراتهم الضئيلة الهزيلة العاجزة،
وكانوا يتعجبون ويتساءلون:
كيف ينشق القمر؟ كيف تنفطر هذه السماء؟ وكيف تسير تلك الجبال؟
وقد أشار القرآن إلى شبهاتهم هذه؛ حيث قال: [لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا]
[طه: 107، 108] .
فقد جمع القرآن في ثنايا تلك القصص عدداً من الحوادث الكونية الكبرى،
التي ستظهر حين قيام الساعة.
فإن كان الله قادراً في فترة قوم نوح على أن يفتح أبواب السماء، وعلى أن
يفجّر الأرض عيوناً فما وجه الاستغراب إذن إذا قيل في أشراط الساعة: [وفتحت
السماء فكانت أبوابا] [النبأ: 19] أو [وإذا البحار فجرت] [الانفطار: 3] .
ثم إن كان الله قادراً على أن يرسل صيحة واحدة على ثمود فيكونوا كهشيم
المحتظر، فما وجه الاستبعاد إذن إذا قيل: [إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم
جميع لدينا محضرون] [يس: 53] ؟
ثم انفلاق البحر وانشقاقه بضربة بالعصا ليس أقل غرابة من انشقاق القمر في
وقت قيام الساعة فما وجه الاستغراب إذن إذا قيل: [اقتربت الساعة وانشق القمر] [القمر: 1] ؟
الناحية الثانية: أن تلك الحلقات المتتابعة المتلاحقة للأحزاب التي حلّ عليها
سخط الله بسبب عصيانها وطغيانها تدل دلالة واضحة على أن رب العرش ليس
غافلاً عن خلقه، وهو يراقبهم في حركاتهم وسكناتهم ويعاملهم حسب تصرفاتهم؛
فيهلك العصاة الطاغين؛ ويرحم عباده الشاكرين.
فهي في الواقع شواهد على الدينونة الإلهية الحاسمة الكبرى التي ستظهر وقت
قيام الساعة على وجه أتم وأشمل؛ فإن هذه الدنيا ليست دار الجزاء وإنما هي دار
البلاء، وما يظهر فيها من وقائع الجزاء ليس إلا تلميحاً إلى ما يتبعه من الجزاء
الأوفى الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
عجيب الاستدراج:
ومما يزيد في روعة هذه الآيات ويرفع من قيمتها الأدبية البلاغية أنها نموذج
رائع لعجيب الاستدراج، كما أنها نموذج رائع لندرة الاستدلال.
فهي لا تصرّح بأدلة وقوع الساعة حتى ينفر منها من لا يؤمن بها، بل
تتضمنها في ثناياها وتخفيها في غضونها؛ فهي تمشي في عروقها كما يمشي الماء
في عروق الشجرة وأغصانها.
فالسامع يستمع إلى تلك القصص واحدة واحدة؛ وما يكاد ينتهي منها حتى
يلين وينكسر من حيث لا يشعر، ويتوجس في نفسه خيفة الحساب وخيفة الجزاء؛
مع أنه كان منكراً للحساب ومنكراً للجزاء.
ثم حينما ينتهي السياق من تلك القصص المخيفة المرجفة لا يباغتهم بوعيد
الساعة، بل يراعي ذلك الاستدراج، ويأخذ الجانب الذي كان من الوضوح بحيث
لا يحتمل المراء، ويوجه إليهم سؤالين اثنين: [أكفاركم خير من أولائكم أم لكم
براءة في الزبر] [القمر: 43] .
وكان هذان السؤالان من القوة وإلزام الحجة بحيث لا يسعهم إلا أن يجيبوا
عليها بـ (لا) ..
فأردفهما سؤالاً آخر بدون أن يقف عندهما وينتظر الجواب عليهما: [أم
يقولون نحن جميع منتصر] [القمر: 44] .
وكان في الموقف احتمال أن تستيقظ فيهم نوازع الأنفة والحمية الجاهلية،
وكان من المحتمل أن يسارعوا بالجواب عليهم بـ (نعم) فأزاح عنهم حجاب
الغرور، وهزهزهم بالواقع المرّ: [سيهزم الجمع ويولون الدبر] [القمر: 45] .
سرعة الالتفات:
ثم الذي يبين شأن هذه الآيات ويُظهر مدى مستواها الأدبي البلاغي هو سرعة
الالتفات.. سرعة الالتفات مع عجيب الاستدراج.. سرعة الالتفات من الغيبة إلى
الخطاب، ثم إلى الغيبة؛ حيث قال تعالى: [ولقد جاء آل فرعون النذر. كذبوا
بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر. أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في
الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة
موعدهم والساعة أدهى وأمر] [القمر: 41 - 46] .
علماً بأننا لأول مرة نرى في تلك السورة هذا الخطاب المباشر إلى الكفار..
نراه بعدما قطعنا ثلاثة أرباع السورة ودخلنا في الشوط الأخير منها.
ثم هذا الخطاب يفاجئهم بسرعة مذهلة ويمضي، بحيث يتحرك له الوجدان
وتهتز له المشاعر.
فما هو السر في هذه المفاجأة المذهلة أو هذا التحول السريع يا ترى؟
ما نظن هذا السؤال يمكن عليه الإجابة إلا بعد ترداد النظر وإمعانه في نظام
تلك الآيات.
لقد أسلفنا أن الله راعى في تلك القصص نوعاً عجيباً من الاستدراج؛ فما يكاد
السامع ينتهي من تلك القصص بشرط أن لا يكون مطموساً إلا وهو يتوجس الروع
ويداخله الفزع من حيث لا يشعر، ويجد نفسه مدفوعاً مضطراً إلى أن يراجع
سلوكه ويفكر فيما يؤول إليه أمره.
وهنا ينتهز السياق تلك الفرصة السانحة ويوجَّه إليه هذا السؤال بسرعة
كسرعة البرق، حتى يكون ذلك له معواناً على مراجعة نفسه: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر] [القمر: 43] .
علماً بأنه لم يكن مهيأً نفسيّاً قبل هذا حتى يوجّه إليه هذا الخطاب المباشر.
هذا، وكان هناك وراء هؤلاء الجماهير فريق من قادة الكفر الذي قد بلغ من
السمود غايته، ولم يكن مهيأً بعدُ حتى يوجه إليه الخطاب المباشر؛ فإنه على الرغم
من هذا القرع المزلزل العنيف مصرّ على سموده واستكباره، نشوان ثمل من قوته
وشدة بطشه، ويتلوى ويتبجح في غروره:
على أية حال؛ فنحن جميع منتصر!
وهنا يبادر النص القرآني بردّ هذا الغرور في وجه أصحابه مع الإعراض
عنهم: [سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر]
[القمر: 45، 46] .
ولا شك أن هذا الإعراض يزيد أحياناً في شدة الوعيد، ويكون أوقع في
النفس وأنجع في التقريع.
ومما يشير إلى هذا الفرق أن السياق لا يقول في آية الخطاب:
أيها الكفار أأنتم خير أم أولئكم؟
بل يعدل عنه إلى قوله: [أكفاركم خير من أولائكم] [القمر: 43] .
وعلى هذا فيكون تأويل الآية هكذا: أيها الناس، هل ترمقون قادتكم
وطواغيتكم هؤلاء: أهم خير وأقوى من أولئك الذين سحقوا قبلهم ودمّروا؟
وهل ترون هؤلاء يفلتون من عذابنا، إذا أُخِذوا وحوسبوا؟
وإلا فكيف أخذتم طريقهم وربطتم مصيركم بمصيرهم؟
أم هل تحسبون أن ربكم كتب لكم صك العفو والغفران وصك البراءة من
النيران وأعطاكم الرخصة للفجور والعصيان؟
براعة الترجيع:
نرجع مرة أخرى إلى القصص ونتأمل من خلالها في ترجيع قوله تعالى: [ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر] [القمر: 40] .
فقد رُجِّعَت هذه الآية في تلك السورة أربع مرات، رُجِّعَت بعد كل مشهد من
مشاهد المثُلات.
فما الفائدة من هذا الترجيع يا ترى؟
هل يضيف هذا الترجيع شيئاً جديداً إلى موحيات هذه السورة؟ وهل له دور
ملحوظ ملموس في جمال السورة وفي إيقاعاتها؟
أم هو تكرار محض وليس وراءه شيء ملحوظ مذكور يتصل بجمال السورة
وموحياتها؟
تلك أسئلة وجيهة هامة تفرض علينا أن نمعن النظر في نظام الآيات، إن
الجواب عنها يكمن في نظامها، ومن أراد الإجابة عليها ساهياً عن نظامها فلا نعتقد
أنه يختلف في جوابه عن الإمام الشوكاني رحمه الله حيث يقول: (لعل وجه تكرير
تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل
عن شكرها) [4] .
بينما التأمل في نظام تلك الآيات لا يدعنا نقف عند هذا الحد الأدنى بل يفتح
أمامنا آفاقاً واسعة في الموضوع، ويجسِّم لنا جمال هذا الترجيع ويشخِّص لنا بلاغته
وإعجازه من عدة وجوه، وهي كما يلي:
الوجه الأول: هذا الترجيع يسبغ على تلك المشاهد الرهيبة المخيفة المفزعة
ثوباً ضافياً فضفاضاً من الرقة والعذوبة والرحمة، فنشعر كلما ينتهي مشهد من هذه
المشاهد المرجفة كأن ربنا تجلّى لنا برأفته.
وهو يحذرنا أن نتورط فيما تورط فيه أولئك المتمردون من الخزي والعذاب
والخسران، وينادينا بحنوّ وتأكيد وإصرار:
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر؟
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟
الوجه الثاني: هذا الترجيع بما فيه من تكرار ضمير الجلالة (نا) يبين لنا
مدى رأفة الله بعباده، ويقرّبنا حتى يجعلنا نستشعر كأننا في كنف ربنا، ونسمع
صوته في آذاننا وهو يدعونا وينادينا: [فهل من مدكر ... فهل من مدكر ... ]
[القمر: 40] .
الوجه الثالث: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات مشهداً مستقلاً
بنفسه. ويبرز كلاً منها وهي وحدها تكفي للعظة والتذكار.
وكم كان الله بعباده رحيماً، وكم كان عليهم حنوناً؛ إذ قصّ عليهم تلك
القصص تباعاً، حتى لو فاتتهم قصة أيقظتهم أخرى:
ولقد صدق نبينا عليه الصلاة والسلام إذ قال: (ولا يهلك على الله إلا
هالك) [5] .
الوجه الرابع: هذا الترجيع يجعل كل حلقة من تلك الحلقات متميزة من
صاحبتها، ويجعل لكل واحدة منها إيحاءاً يخصها، ويدعونا إلى أن نطيل المكث
عند كل واحدة منها ونستوعب إيحاءاتها.
ثم إذا رجعنا إلى تلك الحلقات وعشنا مع تلك الآيات المباركات وتأملنا فيها
من هذه الناحية وجدناها كذلك، وسنفصّل فيه القول بإذن الله.
فلننظر كيف كشف لنا التأمل في نظام تلك الآيات عن نواحي الجمال والروعة
والإشراق في هذا الترجيع.
والآن فلا نبالغ إذا قلنا: إن هذا الترجيع تعرَّض في تلك السورة تعرُّض أثناء
الوشاح [6] المفصّل، وإن شئت فقل: إنه يتلألأ فيها كما يتلألأ الثريا في كبد
السماء.
تميز وتماثل:
والآن نأتي لنرى تميز تلك القصص في إيحاءاتها مع تماثلها في جوّها
وصياغتها.
وتلك ناحية عجيبة من بلاغة أسلوب القرآن، وما يفطن لها إلاّ من كان مهتماً
بنظام الآيات، وكان عاكفاً على التأمل فيها والتشبع بعلومها وكنوزها، فنقول وبالله
التوفيق:
القصة الأولى: وهي قصة نوح، يغلب عليها لون رعاية الله لعباده الأنبياء.
ألا ترى كيف بدأ القصة بقوله: فكذبوا عبدنا.
ولا ندري كيف نعبر عما تفيض به كلمة عبدنا من حفاوة ومودة تأخذ القلوب
وتملك الشعور، وخاصة في هذا الجو الخانق المكروب قالوا مجنون وازدجر.
ثم نلاحظ كذلك أنه ما تتحرك شفتا نوح بإظهار ضعفه وعجزه أمام ربه،
حتى يسرع إليه ربه بعطفه ورعايته، ويحرك له الكون كله للانتصار من أعدائه:
[فدعا ربه أني مغلوب فانتصر. ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر. وفجرنا
الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر] [القمر: 10 - 12] .
ولننتبه لضمير الجلالة هنا: ففتحنا وفجرنا فإن التصريح بضمير الجلالة هنا
يشعر أنه - تعالى - قد تولى أمر نوح بنفسه ولم يسنده إلى غيره اهتماماً بشأن
عبده!
ثم نرى نوحاً يحمله ربه على ذات ألواح ودسر، وهي تجري بأعينه وفي
ظلّ رعايته سبحانه وتعالى!
وكان هذا جزاءاً وإكراماً لمن كفر به قومه فأكرمه ربه وأسبغ عليه فضله: ... [وحملناه على ذات ألواح ودسر. تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر]
[القمر: 13، 14] .
والمراد بذات ألواح ودسر هو السفينة كما هو معروف ومفهوم؛ إلا أن النص
القرآني عدل عن كلمة السفينة إلى قوله: ذات ألواح ودسر حتى يصوّر لنا ذلك
المشهد الفذ الجميل، ويجعله حاضراً شاخصاً أمام أعيننا.
فنشعر كلما تلونا تلك الآية الكريمة كأننا واقفون أمام تلك الألواح وهي تحمل
نوحاً في رعاية ربه، والأمواج الصاخبة حوله تريد أن تصل إليه ولكن بدون
جدوى؛ فإنه في رعاية ربه، وربه يرعاه بنفسه!
وهكذا نرى السياق يبرز في هذه القصة مشهد الحماية والرعاية والكرامة.
وأما المشهد الأخير وهو مشهد الإهلاك والإغراق فيطويه طيّاً، ويكتفي بالإشارة
إليه: [فالتقى الماء على أمر قد قدر] [القمر: 12] .
ثم تأتي الحلقة الثانية: وهي قصة قوم عاد، وتلك القصة بأكملها تمثل سوء
عاقبة المستكبرين، كما أن القصة الأولى كانت عبارة عن تأييد الله للمرسلين.
فهي تنذر من يغتر بقوته أنه سيصرع صرعاً فظيعاً، وما يستطيع من قيام
ولو لطرفة عين؛ فإن جنود الله الجبارين يمرِّغون أنوف المستكبرين في التراب،
مهما بلغت قوتهم، ويلصقون جباههم بالرغام مهما عظمت شوكتهم.
فتلك عاد شمخوا بأنوفهم أمام ربهم: [وقالوا من أشد منا قوة]
[فصلت: 15] .
فسلط الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، فألقتهم صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية.
[كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر. إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر. تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر. فكيف كان عذابي
ونذر] [القمر: 18 - 21] .
فنرى السياق يذكر هلاكهم الفظيع بكل سرعة وإيجاز وينتهي ولا يتعرض
لشيء بعده.
ثم تأتي الحلقة الثالثة: قصة ثمود؛ وهي وإن كانت في لونها العام شبيهة
بقصة عاد، إلا أنها متميزة منها من جهة، فإنها تحذير للكافرين على طلبهم آية
العذاب، وتنبيه إلى أن الأمة إذا طلبت آية العذاب، ثم هتكت حرمتها فلا تمهل
بعدها.
فالآية قد تكون حسرة وندامة في حق من يطلبها، ويكون موعد ظهورها هو
موعد هلاك تلك الأمة: [كذبت ثمود بالنذر. فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا
لفي ضلال وسعر. أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر. سيعلمون غدا
من الكذاب الأشر] ... [القمر: 23 - 32] .
ثم تأتي الحلقة الرابعة: قصة قوم لوط؛ وهي وإن كانت شبيهة بقصة قوم
نوح على طريق العود على البدء، إلا أنها متميزة عنها؛ حيث إنها تبشر بتنجية
المؤمنين كافة، وتنادي بحسن جزاء الشاكرين قاطبة.
إنها تصرح بتنجية آل لوط كلهم، ولا تقتصر على ذكر نجاة نبي الله لوط
وحده.
علماً بأن القصة الأولى لا تذكر إلا نجاة نبي الله نوح: [وحملناه على ذات ألواح ودسر]
وكذلك تناولت هذه القصة هلاك المجرمين بنوع من التفصيل، بينما القصة
الأولى لم تتناوله بتفصيل وإنما أشارت إليه إشارة عابرة خاطفة: [كذبت قوم لوط
بالنذر. إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر. نعمة من عندنا كذلك
نجزي من شكر ... ] [القمر: 33 - 39] .
ثم تأتي الحلقة الخامسة: وهي قصة آل فرعون، وهذه القصة تنبه إلى أن
وفرة العتاد والأوتاد أو كثرة الجيوش والجنود لا تغني من ذي الجلال والجبروت؛
فإنه يقصف الطغاة ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر: [ولقد جاء آل فرعون النذر.
كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر] [القمر: 41، 42] .
إلا أن هذه الحلقة تختلف عن أخواتها؛ بحيث إنها ليست في الحقيقة حلقة
مستقلة، وإنما هي معْبرة لطيفة للتخلص من حديث الغابرين إلى واقع الحاضرين.
ولذلك ترى الآذان والأذهان تنتظر بعد ذكر آل فرعون ذلك الترجيع
المألوف: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر.
فإذا بها قد فوجئت بسؤال يهز الوجود ويرجف القلوب: [أكفاركم خير من
أولائكم أم لكم براءة في الزبر. أم يقولون نحن جميع منتصر. سيهزم الجمع
ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر] [القمر: 43 - 46] .
ثم هناك ظاهرة أخرى تميز المشهد الأخير عن أقرانه هي أن المشاهد الأخرى
جاءت مفصولة بعضها عن بعض؛ بحيث لا يربطها رابط من واو الوصل: فقال
تعالى: كذبت ثمود ... كذبت قوم لوط....
بينما نرى المشهد الأخير جاء بواو الوصل؛ حيث قال تعالى: [ولقد جاء
آل فرعون النذر] [القمر: 41] وتلك لمحة مليحة إلى أن المشهد الأخير يختلف
عن سائر المشاهد في نوعيته وطبيعته ودلالته.
وتلك لطائف عجيبة من لطائف أسلوب القرآن، بحيث يتحرك لها الوجدان
وتهتز لها حاسة البيان، ولا يمكن العثور عليها إلا بعد ترداد النظر في تصاريف
النظام.
براعة الترتيب في القصص:
لا يخفى على الباحث المتأمل أن القرآن ليس له عادة معلومة أو قاعدة مطردة
في ذكر القصص والأخبار، بل له في ذلك مناحٍ وأساليب في غاية الدقة.
فأحياناً يسرد القصص سرداً حسب ترتيبها في الزمان، وأخرى يعدل عنه إلى
ترتيب آخر تقتضيه حكمة البيان.
فلنرجع إلى ما كنا فيه من سورة القمر، ولنمعن النظر في ترتيب قصصها
عسى أن ندرك ما فيه من الحكمة البالغة والبلاغة الساحرة المعجزة.
من المعلوم أن هذا الترتيب الذي نلاحظه في هذه السورة جاء على وفق
الزمان.
فذكر السياق أولاً قوم نوح ثم عاداً ثم ثمود ثم قوم لوط ثم آل فرعون.
ولا شك أننا إذا مررنا على مصارع هؤلاء الأحزاب، هكذا على ترتيبهم في
الزمان؛ حيث يتبع بعضهم بعضاً، تمثلت لنا سنة الله التي عملت عملها دائماً،
وغلب على حِسِّنا أن أيَّ أمة من الأمم - على مدار التاريخ - لما ركبت مركب
الكفر والمعصية ذاقت وبال أمرها، وكان عاقبة أمرها خسراً.
فهذا النظم له دور بارز ملموس في إعداد هذا الجو الرهيب المفزع.
والآية التالية لتلك القصص قد نجد فيها نوعاً من التأييد لهذا القول؛ فإنه لماّ
تهيأ هذا الجو وتمكن من القلوب الروع تقدم النص خطوة أخرى، وهزّ أعداء الله
هزاً [أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر] [القمر: 43] .
أي: إذا كانت تلك سنة الله في الأمم، وكانت سنة قائمة على مرّ الزمان؛
بحيث لم تركب أمة من الأمم هذا المركب الخشن إلا جنت الندم، ودارت عليها
دائرة المحن، فما بالكم يا طغام الأحلام أمنتم على أنفسكم وتجرأتم على ربكم؟
أأنتم خير من أولئكم؛ فلا تمسكم نفحة من عذاب ربكم؟ أم كتب لكم ربكم)
صك (البراءة والغفران؛ فلا تقطفون ثمار كفركم وإنكاركم؟ !
ولمثل هذا النظم نظائر أخرى وشواهد تترى في القرآن، ولكن الأمر ليس
بحاجة إلى أن نفيض فيه الكلام ونقيم عليه البرهان.
براعة المقطع:
وأخيراً نأتي على مقطع من السورة غاية في الحسن والروعة: [إن المتقين
في جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
ولكي ندرك روعة هذا المقطع لا بد لنا أن نضع في اعتبارنا ذلك الجو
الرعيب المكفهر الذي يسود السورة، والذي مررنا عليه قبل قليل.
ويزداد هذا الجو تجهماً ويشتد حين تستقبلنا هذه الآيات: [إن المجرمين في
ضلال وسعر. يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر. إنا كل شيء
خلقناه بقدر. وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر. ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر
. وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر] [القمر: 47 - 53] .
يا لهول المصير! ! ويا لخطورة الموقف! ! [وكل شيء فعلوه في الزبر. وكل صغير وكبير مستطر] [القمر: 52 - 53] .
فكأن هذا العذاب البئيس الذي دمرهم ومزقهم وجعلهم كهشيم المحتظر لم
يحسب في حسابهم ولم ينقص من أوزارهم؛ بل كل صغير وكبير مسطور في
زُبُر [7] أعمالهم؛ وهم سيحاسبون عليه واحداً بعد واحد.
والنتيجة واضحة معلومة؛ فهم يُسحبون في النار على وجوههم؛ وكل شيء
حولهم يسخر منهم ويقرعهم.
ذوقوا أيها السامدون! ذوقوا مسّ سقر!
في مثل هذا الجو العبوس القمطرير ترد هاتان الآيتان: [إن المتقين في
جنات ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
يا لروعة هذه الكلمات في هذا الجو المكفهر القاتم!
فوالله! إنها لأروع من كوكب دريّ كريم يضيء في ليل بهيم! وهي أغلى
في نفس المؤمن من كل كنز ثمين ومن كل متعة ونعيم!
وتجيء سورة القمر لتفصِّل تلك المصارع بأسلوب ينطق بقدرة الله وملكه
وتفرده بالسلطان دون غيره؛ فله الملك وله الحكم؛ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد؛
يبطش بالطغاة وينتصر من البغاة؛ ويأخذ من يشاء أخذ عزيز مقتدر.
ثم هذا ليس نهاية المطاف؛ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ؛ فهم
يسحبون في النار على وجوههم ولا يجدون لديهم من يشفع لهم أو يخفف عنهم من
عذاب ربهم.
وأما المتقون فهم ينعمون ويفرحون وهم اليوم في شغل فاكهون: [في جنات
ونهر. في مقعد صدق عند مليك مقتدر] [القمر: 54، 55] .
فاليوم يومهم والمليك مليكهم.
فهم اليوم في عزة وسرور وفي سعادة وحبور.
والمليك يُتوِّجهم بتاج العز والكرامة، ويخلع عليهم حُلل الشرف والسعادة،
ويرفع شأنهم حتى يجلسهم حول عرشه وينزلهم في كنفه؛ فإنهم عرفوا لصاحب
الملك ملكه، وخشعوا له وسجدوا، وأوذوا في سبيله فصبروا، وقَتَلوا وقُتِلوا.
وأما الذين عدلوا عن المليك وتعلقوا بأهداب الشفعاء فلهم الويل كل الويل؛
فإنهم أسخطوا المليك ولم ينفعهم البديل.
وما أروع مشهد المتقين؛ حيث ينعمون في جنات ونهر في مقعد صدق عند
مليك مقتدر.
ما أروع هذا المشهد إذا قسناه إلى مشهد الكفار وهم يُسحبون على وجوههم
ويمثُلُون إلى نيرانهم؛ وكأن الملائكة الذين كان يحلم هؤلاء بشفاعتهم يتبرؤون منهم
ويعنفونهم: ذوقوا مس سقر.
ثم تدهشنا روعة هذا المقطع وبراعته من ناحية أخرى إذا قسناه إلى سورة
الرحمن؛ وبيانه أن سورة القمر تطفح بلهيب الإنذار وتجيش بغضب الجبار؛ فقد
تكررت فيها كلمة (النذر) و (الإنذار) اثنتي عشرة مرة، وتكررت كلمة العذاب
سبع مرات؛ وهذا شيء يخص سورة القمر دون سائر السور؛ حيث لم تتكرر
هاتان الكلمتان بهذا الشكل في أية سورة من السور.
ولعل هذا القدر من الكلام يكفينا لإدراك ما نحن بصدده من أن هناك جوانب
وأطرافاً من البلاغة القرآنية العالية المعجزة لا يطّلع عليها إلا من يدمن النظر في
نظام الآيات، ويلتمس الوشائج التي تربط المعاني بعضها برقاب بعض.
ومما يروى في كتب السيرة أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام
والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه وكلٌّ لا يعلم مكان
صاحبه؛ فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا؛ فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا؛ فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه
شيئاً ... [8] .
لقد كانت تمر بنا تلك القصة وأمثالها في كتب السيرة فكنا نتحيّر: كيف كان
يحرص الأعداء على سماع القرآن مع شدة عداوتهم، وحنقهم على الإسلام؟
وما الذي كان يسوقهم إليه سوقاً في جنح الظلام؟
وكيف كانوا يؤخذون بروعة آياته وجمال أسلوبه مع أنّ العداوة تعمي العيون
وتصم الآذان؟
ولكن لم يطُلْ بنا الزمان حتى تعرفنا على فكرة النظام فانقشعت عنا الحيرة،
وعرفنا أن هذا القرآن ينطوي في نظام آياته ورباط معانيه على عالم عجيب من
الروعة والجمال؛ بحيث لا يكاد يصبر عنه من يتذوق اللسان ولو قد جعلته العداوة
من أعمى العميان.
فسبحان ربنا الرحمن الذي كرّمنا بهذا القرآن وفضلنا به على سائر الأقوام.