الافتتاحية
رسالة مفتوحة إلى..
قادة الجهاد الأفغاني القدامى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فمنذ أكثر من عشر سنوات، وبعد عهود طويلة من انحسار روح الجهاد
الإسلامي، كنتم أيها المجاهدون سبباً في أن تكون بلادكم أفغانستان محط أنظار
العالم، عندما سمع هذا العالم وشاهد بالصوت والصورة الانهيار المدوِّي لكيان
الطغيان الشيوعي، بعد أن دقت سواعدكم آخر مسمار في نعشه. حينها قد تنفس
العالم بعد صُعداء، وهو يرى ذلك الغول الأحمر، يجر أذيال خيبته منسحباً من
أرضكم ذليلاً كسيراً، بعد أن كان يتهيأ للانقضاض منها على أراضي المياه الدافئة
والحقول الغنية.
نعم! فقد كنتم تخاطبون العالم كله في ذلك الوقت بخطاب الشجاعة والشمم،
وبنبرة الحق وصوت القوة ... حقاً لقد استطعتم وقتها - بفضل الله - أن تعيدوا
للإسلام أحد جوانب وَضَاءته التي طال تغييبها، وهي العزة والإباء، وبدت
أفغانستان تحت قيادتكم هي الأمل والمنطلق لدى الملايين من المستضعفين في عالم
إسلامي يضج من المظالم ويئن من القهر، في كثير من أنحائه، ويحن إلى الحرية
والكرامة.
وراحت مدرستكم الجهادية تفتح فصولاً تلو فصول، لمن أراد أن يعبَّ من
دروس البذل والفداء.
عِقْد واحد من الزمان - أيها المجاهدون - رفعتم فيه رؤوس المسلمين إلى
الثريا، وقربتم إليهم نجوم المجد حتى كادوا يبتدرونها بأيديهم ثم ... ثم ماذا؟ ! ثم
كان ما كان مما لم يَدُرْ بخَلَدٍ أو حسبان، عندما دارت عجلة التغيرات لتدوس
الأماني، وتدعس الأحلام، وتسحل في غير رحمة نَبتات الأمل وزهرات
الطموح..!
فُتحت كابل فتذكر الناس أيام مجد الفتوح.. ولكنها دُكَّت بعد ذلك دكاً دكاً
بالصواريخ التي بقيت من عتاد الجهاد، فتلوَّث الجهاد وتلطَّخ وجهه الوضَّاء على
الأيدي نفسها التي كانت قد أخرجته من حواشي الكتب وأصداء الخطب، وكيف لا
يتلوث جهادكم؛ وقد تجاوز عدد ضحايا الأفغان المدنيين على أيدي بعضكم أضعاف
ضحايا البوسنة على أيدي الصرب، أو الشيشان على أيدي الروس! ! تعالَوْا - في
هذا الشهر المبارك - نفتح معكم ملفاً طال إغلاقه، ولكنكم تصرون على فتحه
بتصرفات بعضكم المتجاهلة لكل أثر مدمر، أو فتنة محبطة لكل المسلمين في
الأرض:
تفرغ بعضكم لـ (لعبة الكراسي الموسيقية) السياسية، فراحوا يتبادلون
المناصب في احتفالات صاخبة تحت أزيز الطائرات وهدير المدافع، متجاهلين
نَصَب الناس وتعبهم الذي طال بانتظار الفرج بقدومكم!
لَبِس بعضكم بزة السطان، وراح يجوب البلدان فرحاً بألقاب الفخامة والسعادة
والسيادة، مبدياً كل التفهم أو (الإذعان) لمسعى اللئام في مطلب (التعاون) لمكافحة
دعوى الإرهاب! ! وأنتم أول من يعلم من المعنيون بالإرهاب.
نسي المتعاونون منكم أن من تُعاوِنون على تسليمهم أو سُلِّموا بالفعل ما كانوا
ليوصَموا بالإرهاب ويوصفوا بالأصولية لولا ذهابهم إليكم ووقوفهم إلى جانبكم، مع
أنهم كانوا بالأمس القريب رفاق السلاح وإخوة الجهاد الذين منيتموهم بالشراكة في
جني ثمرات الجهاد.
ثمرات الجهاد هذه لمن أطعمتموها أيها المجاهدون؟ !
لعلكم ستقولون: إن الأمريكان سرقوها وتآمروا مع باكستان علينا! ! ولكننا
نعلم - وأنتم تعلمون - أنكم أطعمتموها للأمريكان ولمن هم أسوأ من الأمريكان.
وهل هناك أسوأ من الأمريكان؟ ! نعم! إنهم الروس الملحدون الذين صادقتموهم
بعد أن قاتلتموهم، والهنود الوثنيون الذين هادنتموهم والتجأتم إليهم.
ها هي أعوام خمسة تمر وأنتم تصرون على الحرب حتى آخر حمامة سلام
في أفغانستان!
إننا نخاطبكم بخطاب الدين الذي قمتم لنصرته أول مرة: احذروا حبوط العمل، واخشوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، فوالله! إن أحدكم مهما جاهد وعمل فإنه لا
يقوى على الوقوف يوم التغابن أمام طفل بُترت ساقه أو فُقئت عينه، أو وليدة فقدت
أمها أو غاب أبوها، أو عجوز تهدم مأواها أو أُقعد عائلها..
انظروا إلى تغيُّر الأمور حولكم؛ فلعل فيها عبرة؛ فإن المسلمين جميعاً كانوا
أنصاركم بالأمس، فمن أنصاركم اليوم؟ ! المؤمنون كانوا جميعاً يدعون لكم
بالأمس فمن يدعو لكم اليوم؟ !
إن بعضكم لا يزال يلوم المسلمين على صفحات الجرائد والمجلات؛ لأنهم
تخلوا عن (الجهاد الأفغاني) ، ألا يعلم هؤلاء أنهم هم أول من تخلى عن هذا الجهاد
وخذله يوم استبدلوا بالراية الإسلامية الجهادية راية عِمِّيَّة عنصرية، ويوم استنكفوا
عن قبول النصيحة التي أسداها المشفقون من كبار علماء الأمة ودعاتها الذين تجشم
بعضهم صعوبة الوصول إليكم للإصلاح، ولكنكم أبيتم إلا مداراتهم ثم مخالفتهم؟
ولا ينسى هؤلاء المسلمون الذين تتهمونهم الآن بالتخلي عن الجهاد، يوم
اجتمعتم في أشرف البقاع في مكة المكرمة، وحينها قال الناس مستبشرين: لعل
جلال المكان وهيبة الموقف تعيد الصواب إلى العقول، والصلاح إلى النفوس،
ولكن - وبكل أسف - تبخرت تلك الآمال، وذهبت أدراج رياح الفتنة التي هبت
من جديد.
وفتنة القتال المتجدد بينكم - أيها الإخوة - لم تنته باختياركم، بل انتهت لمَّا
سُحب البساط من تحت أرجلكم، وعندها عز على عناد بعضكم أن يلقي سلاح
التناحر، فبدأ بإشعال نار (المعارضة) بعد أن خبا دخان المصارعة.
قد يقول قائلكم: هَبْ أننا جاهدنا ثم انتصرنا، ثم اختلفنا فتحاربنا، ثم انقلب
بعضنا على أعقابه وارتمى في أحضان أعدائه، فما دخل منتقدينا والناقمين علينا؟
أليست هذه قضايا خاصة، ومسائل داخلية؟ ! ولماذا ينقم علينا ما لا ينقم على
غيرنا؟
والجواب: إن الجهاد الأفغاني الذي كانت نصرته واجبة علينا وعلى جميع
المسلمين - كما أفتى علماء الأمة وقتها - هو الجهاد الذي أُهدرت فيه الأرواح
والأموال بلا حدود، وهذا الجهاد ليس من حق بضعة أفراد أن يحتكروا تحديد
مصيره وتوجيه نهايته مهما كان أمرهم. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: فإن الأمة التي ناصرتكم في الدين هي التي ناصحتكم فيه،
ولهذا فإن قضية أفغانستان (الإسلامية) التي رُفعت فيها راية الإسلام من أول يوم
ليست كأي قضية من القضايا التي رُفعت فيها الرايات العلمانية.
ومن جهة ثالثة: فإن المسلمين الذين كانوا يفاخرون بكم الدنيا، أصبحت
الدنيا تعيِّرهم بكم على مستوى الشعوب والجماعات، وحتى الأفراد، فلا يكاد مسلم
يلتزم بالدين، أو يدعو إلى نصرته، أو الجهاد من أجله في مكان من العالم، إلا
ويقال له: هل نسيت أفغانستان؟ !
إن كل قضية إسلامية جهادية - بعد تجربتكم - قد أُضِيرت أشد الضير بسبب
ممارساتكم، بدءاً من قضية البوسنة، ومروراً بكوسوفا، وانتهاء بالشيشان،
الشيشان التي يتفرج العالم عليها اليوم وهي مخذولة من جل المسلمين عامتهم
وخاصتهم، دون أن يرف لهم جفن، أو يتحرك فيهم ساكن لأجل آلاف الضحايا
والمشردين، فلماذا هذا الخذلان؟ ! لأنهم قاموا باسم الجهاد في داغستان،
والناس - بسببكم - قد سئموا حديث الجهاد! ! وتشاءموا من عاقبة المجاهدين.
إننا - أيها المجاهدون - كان بوسعنا أن نواصل السكوت سنوات أخرى، فلا
نُقْدم على خدش مشاعركم، ومس أحاسيسكم، ولكنكم أصررتم في الآونة الأخيرة،
على حفر الخنادق في مشاعر كل مسلم، عندما طيرت الأنباء خبرين فجَّرا الغيظ
في قلوبنا، فسالت له أقلامنا، وأخرجت التحفظ معكم من قائمة اهتمامنا.
الخبر الأول: هو إعطاء الأمريكان الضوء الأخضر للروس لكي يدعموكم بلا
حدود إلى النهاية، ضمن حلف ثلاثي في المنطقة لـ (محاربة ما يسمونه بالإرهاب) ! ولكي تعودوا إلى السلطة في أفغانستان، ونحن نعلم أن هذه العودة لن تكون - إذا
كانت - إلا فوق الجماجم والأشلاء.
والخبر الثاني: أن أسدكم الهصور دعا علانيةً في حديث خاص مع إحدى
الصحف الناقمة على (الأصوليين) إلى طرد جميع من أسماهم (الإرهابيين) ! من
جميع أنحاء أفغانستان! !
فإذا كانت هذه عودتكم فلا مرحباً بعودتكم إلى حكم أفغانستان إذا كانت لا تمر
إلا عبر الكرملين، والبيت الأبيض، ولا مرحباً بعودتكم إذا كان المستضعفون هم
قربانكم على عتبات المجرمين.
وأخيراً: نعلم أن كلماتنا هذه ثقيلة وشديدة: ثقَّلتها مسؤوليةُ الكلمة، وشدَّدتها
أمانة النصيحة؛ فما جرى ولا يزال يجري أشد على القلوب، وأثقل في النفوس.
وحسبنا الله لديننا، ولدماء شهدائنا، وأعراض إخواننا، وتضحيات أمتنا،
أما أنتم - أيها المجاهدون - فعودوا.. عودوا إلى الجهاد الأكبر؛ فباب التوبة
مفتوح، وهو خير لكم من أبواب موسكو، ودلهي، وواشنطن، وطهران.
عودوا - كما وعدتم - إلى جهاد أعداء الدين الحقيقيين، فلا زلنا نذكر وعدكم
بألاَّ تتوقف راياتكم حتى تُنْصَب بإيلياء! ! فهل تذكرون؟ !
والسلام ... السلام عليكم ما دمتم مجاهدين صادقين، وإنا لله، وإنا إليه
راجعون.