مجله البيان (صفحة 326)

أدب وتاريخ

دفاع عن اللغة العربية

منصور الأحمد

(يعلم كل من له إلمام بأسرار العربية أن الأسلوب المصطلح عليه في ترتيب

معاجمها لا يناسب حتى ولا الكثيرين ممن نالوا قسطاً وافراً من الإحاطة بقواعد

الصرف وأحكامه، ليتمكن من رد الكلمة إلى أصلها المجرد، توصلاً إلى الاهتداء

إلى مكانها من القاموس، على أن الاشتقاق وما يلحق أبنية الكلم من عوارض

الإدغام والإدغام الإعلال، وغير ذلك لمن أشد الأمور تعقيداً في اللغة العربية) [1] .

هذه (الكلمة) التي قدمناها تصلح نموذجاً لدعاوى كثيرة، تصدر عن أناس

متعددي المشارب، مختلفي النوايا، لكن يجمعهم هدف واحد، هو تزهيد الناس

بالعربية، وتنفيرهم منها، ويتذرعون إلى ذلك بما يشبه الحجج، ويلبس ثوب

الدليل، ولكن إذا تفحصته لم تجده من الحجج ومن الأدلة في شيء. وسوف نناقش

الدعوى المتقدمة، ليتبين لنا ما تنطوي عليه: هل هو من المسلمات الثابتة، أم أنه

ذريعة إلى أمر آخر هو الصد عن تعلم هذه اللغة ببث الكراهية لها في النفوس،

والتنفير عنها بكل وسيلة؟ !

فيما يتصل بالقضية الأولى، هل صحيح الادعاء أن البحث في المعاجم

العربية صعب إلى هذه الدرجة - حتى على الكثير ممن نالوا قسطا وافرا من

الإحاطة بقواعد الصرف وأحكامه؟ - وهل هناك (معاناة حقيقية) يعاني منها

المدرسون والطلبة في هذا المجال؟

إن الأمر انتهى بطرق ترتيب المعاجم إلى طريقتين رئيسيتين:

أولاهما: طريقة الصحاح، والقاموس المحيط، ولسان العرب، وهى

الطريقة المعروفة بطريقة (الباب والفصل) والتي رتبت فيها الكلمات في باب

الحرف الأخير من جذورها، ثم رتبت ترتيبا هجائيا داخل الباب بعد ذلك، ف

(بدأ) و (نشأ) توجدان في باب الهمزة، الأولى في فصل الباء، والثانية في فصل

النون.

الثانية: الطريقة الهجائية المألوفة الآن في كافة معاجم اللغات الأخرى،

وهى أيضاً معروفة في بعض المعاجم العربية غير الحديثة: كأساس البلاغة،

والمصباح المنير، وهى: وضع الكلمة في باب الحرف الأول من جذورها، مع

مراعاة الترتيب الهجائي أيضاً في الحرف الثاني والثالث وهكذا. فالكلمتان السابقتان

(بدأ) و (نشأ) توجد الأولى في باب الباء، والثانية في باب النون.

ومع هذا فقد صدرت طبعات للقاموس وللسان، رتبت المواد فيها هذا الترتيب

الأخير، وهناك أخذ ورد في فائدة ذلك، ولعل ترتيبها بهذه الصورة جاء خروجاً من

كثير من التقولات التي تقال عن صعوبة الطريقة السابقة.

وهذه الصعوبة المزعومة في ترتيب المعاجم العربية لا تعدو ما يماثلها من

الصعوبات التي يواجهها الباحث في معاجم اللغات الأخرى.

ولدى التجربة ظهر أن طريقة البحث في هذه المعاجم المتهجم عليها بالحق

والباطل سهلة حتى على من لم (ينل قسطا وافرا من الإحاطة بقواعد الصرف

وأحكامه) ! ولو صرف أي طالب متوسط ساعة من وقته (بجد وحرص) لتعلم

أساس طريقة البحث والتدرب عليها لكان ذلك كافيا. (وهذا الأمر لا علاقة له بما

هو كائن الآن من وجود كثير من الخريجين، ممن لا يرهقون أنفسهم للتفرغ لهذا

الأمر ولو ساعة من زمن، ثم يستغربون - ويستغرب الناس منهم - حيرتهم أمام

النظر في معجم من معاجم العربية، وبدل إلقاء اللوم على كسلهم وتفريطهم يلقونه

على هذه المعاجم الصعبة المرتقى، المعقدة التركيب! فهذه النتيجة المؤسفة مركبة

من عدة مقدمات أفضت إليها، وتحتاج إلى معالجة على حدة) .

إن كان شأن المعاجم العربية ليس بالتعقيد الذي انتهت الكلمة السابقة إليه؛

وأن كثيرا مما يشاع حولها هو تضخم وتهويل؛ إذاً، فما الأثر الذي تبقيه هذه

الكلمة ومثيلاتها في نفوس أكثر قرائها؟ إنه أثر غير محمود النتيجة، فهو تزهيد

وتثبيط، تزهيد لأبناء العربية بلغتهم؛ وتثبيط للهمم حتى تقعد عن التعرض لتعلم ما

ينفع في بناء الشخصية، والارتفاع بها. والأفكار أوعية مفتوحة إذا أنفت أن تمتلئ

بشيء ينبذه المجتمع، وتُنْشَر سموم الدعاية ضده؛ فلا بد من أن تفتش عن بديل

تملأ به الفراغ، وتتطلع إلى محلٍ تُحِلُّه المنطقة المهيأة المفرّغة، وليس المحتل هنا

غير اللهجات العامية، أو اللغات الأجنبية وما يلحقها من تمكن وغلبة لما تمثله من

عقائد، وما تجلبه من أفكار.

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادفَ قلباً خالياً، فَتمَكَّنا!

والآن فلننظر في بناء هذه الكلمة ذاته لنرى نصيبها من الصواب أو الحقيقة.

1- (ليعلم كل من له إلمام بأسرار العربية) عبارة يبدو ظاهرها لا غبار عليه، ولكن أعد قراءتها كلمة كلمة لتعلم أن منطوقها يخالف ما يريد صاحبها، فهو يريد

أن يثبت بدهية وهي أن كل دارس للعربية يعلم ما سيشير إليه، ولكن الأسرار لا

تلم بها إلماماً، بل تُسْتبْطَنُ استبطاناً، وتعالج علاجاً مضنياً حتى تكتشف، وعلى

هذا فإن العارفين بأسرار العربية ليسوا مجمعين على ما سينتهي إليه صاحب

الدعوى، وهذا نقض للتعميم الفضفاض: يعلم كل من له إلمام ...

2- ( ... أن الأسلوب المصطلح عليه في ترتيب معاجمها ... ) وهذا أيضاً

تعميم يضيف إلى برودته جهلاً غليظاً، فالمعاجم العربية ليس لها أسلوب واحد في

ترتيبها، بل لها طرق متعددة، وأساليب متنوعة. فأي أسلوب منها يعني؟ !

3- ( ... لا يناسب حتى ولا الكثيرين ممن نالوا قسطاً وافراً من قواعد

الصرف وأحكامه ... ) .

لو أنه قال مثلاً: لا يناسب من لم ينل قسطاً وافراً من قواعد الصرف

وأحكامه؛ لكان في الجملة الروح، ولكن جنوحه إلى تضخيم ما لا يحتاج إلى

تضخيم أبى عليه إلا أن يطلقها هكذا مرة واحدة أن هذه المعاجم ليس فيها خير ألبته، لا للمبتدئين فقط بل للعلماء أيضاً وهي ليس إلا ركاماً يكد الأذهان ويضيع الأعمار!

(وقِفْ عند هذه الكلمات قسطاً - وافرا - الإحاطة -فهي كافية أن تلقى في نفسك

الرعب، وتبعث الرهبة من مكامنها) !

4 - ثم اقرأ معي تتمة الكلمة على مهل، ألا توحي إليك - وقد فرغت منها -

بوصف مهمة اكتشاف القارة القطبية، كُلِفَ بها شخص غير مُدَرَّب، ولا فائدة من

تدريبه، وليس هذا فحسب، بل هو - أيضاً - مجرد من أسباب مقاومة الصقيع،

على علة مستكنة في جسمه؟ !

كأنه يقول لمن يهم بتعلم شيء من هذه اللغة: مالك ولهذا العناء المعنّى،

ولماذا تضيع الوقت فيما لا طائل تحته، ولا ثمرة له، مالك ولمعاجم العربية

ونحوها وصرفها، لماذا تفر من السهل الميسر، إلى الحرج والتعقيد؟ ! وهكذا

تبنى جدران سميكة من الوهم والتضليل بين هذه اللغة وبين أبنائها.

وسرّح النظر في واقعنا الثقافي مشرقاً ومغرباً، وردده فيه صعوداً ونزولاً

ترى أن مثل هذا التقبيح القولي لكل ما يتعلق بلغتنا العربية، والحط من شأنها قد

انضاف إليه - واأسفاه - تقبيح عملي مجسم ومصور، والحال ناطقة به ى وشاهدة

عليه، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال. ووالله، إن السكوت على هجران هذه

اللغة، وعدم الغضب لها حين تُرمى بالنقائص، وتُتَقَصَّدُ بالحيف ليعادل انتهاك

الحرمات، وضياع المقدسات، إن لم يكن أكبر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015