متابعات
مروان كجك
عرضت مجلة البيان الغراء على قرائها في العدد (137) ملفاً خاصاً بالتراث، وقد اتجهت معظم المقالات فيه إلى تجنيب القرآن الكريم والسنة المطهّرة
الانضواء تحت مسمّى (التراث) خشية إخضاعه لما تخضع له أنواعه الأخرى، إلاّ
أننا نرى أن القرآن الكريم والسنة الشريفة صفوة ما نملكه من تراث وأطهره
وأصمده في وجه الأعداء والعابثين.
فالتراث لغةً هو الإرث والميراث. ونقل ابن منظور عن ابن الأعرابي أن:
الوِرْث، والوَرْث، والإرْث، والوِراث، والإراث، والتّراث واحد. وقال
الجوهري: الميراث أصله مِوْراث، انقلبت الواو ياءً لكسرة ما قبلها. والتراث،
أصل التاء فيه واو. وقال ابن سيده: الوِرْث، والتراث، والميراث:
ما وُرِثَ [1] .
وقد ورد لفظ التراث في الكتاب المبين في قول الله سبحانه: [وَتَاًكُلُونَ
التُّرَاثَ أَكْلاً لَّماً] [الفجر: 19] . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير ذلك: (يعني
الميراث، من أيّ جهة حصل لهم: من حلال أو حرام) . وهو هنا يحمل المعنى
المادي من مال ونحوه.
إلاّ أن الإيراث ليس مختصاً بالمادة؛ إذ إنه يشمل كل منتقل ومتوارث؛ سواء
كان جرماً أو معنىً؛ ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العلماء ورثة
الأنبياء؛ وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً؛ وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه فقد
أخذ بحظ وافر) [2] .
ولا يمكن صرف المقصود من الوراثة هنا إلى المسائل المادية المالية؛ لأنها
تعني، وبوضوح كامل لا حاجة معه إلى شرح وتفسير، وراثةَ المبادئ والعقائد
والقيم.
وكما تورَث الماديات والقيم؛ فكذلك توهَب؛ ففي الماديات قول الله سبحانه
وتعالى: حكاية عن سليمان -: [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ
مِّنْ بَعْدِي إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [ص: 35] .
وفي الهبة المطلقة التي تحتمل المادية والمعنوية يقول سبحانه مخبراً عن حال
الراسخين في العلم: [هُوَ الَذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاًوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا
مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ] [آل عمران: 7، 8] . فمن الرحمة المطر وهو
مادة، ومنها السكينة وهي حال معنوية نفسية؛ فسبحان الكريم الوهّاب.
وبذلك يتبين لنا أن من ألفاظ لغة العرب ما يدل على كلّ من الأجرام والمعاني؛ بل إن ما في لغة الضاد من الحيوية والمرونة والاستجابة لمختلف معطيات الفكر
البشري كالبيان والتضمين وما إلى ذلك إن في ذلك ما يجعلها تتسع لكل مصطلح،
وقادرة على صياغته اللغوية بما يناسبه من مبانيها وأوزانها واشتقاقاتها.
فقد ورد في الكتاب العزيز الفعل (ورث) وبعض ما أخذ منه واشتق، وقد
ذكرنا طرفاً منها في أول المقال، مما يؤكد أن المصطلح بمفهومه العام لا يتعارض
وقولنا: إن القرآن الكريم والسنة النبوية تراث! ولا يعني إدخالهما في دائرة
التراث إخضاعهما للشك أو الريبة كما يفهم المصطلحَ الغربيون وثلة من المفكرين
المتغرّبين من بعض العرب والمسلمين؛ فهم قلة على الرغم من علو عقيرتهم.
ومنطق القرآن الكريم يؤكد وراثة الكتاب؛ وأن الوارثين ثلاثة أصناف؛ إذ
يقول الله سبحانه: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ
وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخََيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ]
[فاطر: 32] . ولعل الثلة السابحة في بحار أوهامها، ومجاري تخرّصاتها، ونشيج خيبتها هي من الصنف الأول.
فليس لأجل هذه الفئة الشاذة الضالة نحجم عن اعتبار القرآن والسنة تراثاً.
إن القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما أقدس ما نملك من تراث، بل هما
أجلّ ما تملكه البشرية من كلمة.
وليس من خوف في اعتبار القرآن والسنة الصحيحة تراثاً؛ ولا يعني ذلك
إخضاعهما لمبدأ الشك؛ فهما فوق الشبهات، كما لا يعني إخراجهما من دائرة الشك
أن ذلك سيحميهما من هجمات المبطلين؛ فلطالما كانا غرضين لسهام الأعداء منذ
نزل قول الله سبحانه: (اقرأ) وقبل أن يردنا اصطلاح التراث بالتصور الغربي.
ومما يدل على أن القرآن الكريم تراث لهذه الأمة قوله سبحانه مما قصه عن
زكريا - عندما دعا ربه أن يهب له ولياً يرثه ويرث من آل يعقوب: [كّهيعص (?) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (?) إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً (?) قَالَ رَبِّ إنِّي
وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاًسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً (4) وَإنِّي خِفْتُ
المَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِياً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِياً (6) يَا زَكَرِيَّا إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ
نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياً] [مريم: 1 - 7] . ومعلوم أن وراثة الأنبياء ليست وراثة
مال بل وراثة كتاب ودعوة وقِيَم؛ ومما يؤكد ذلك قول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (لا نورث؛ ما تركناه صدقة) [3] .
وقال سبحانه في وراثة سليمان داود؛ وهي ليست وراثة مال أيضاً:
[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إنَّ
هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ] [النمل: 16] .
أما وراثة الأمة والجماعة للكتاب وإن لم تقم بحق هذه الوراثة فيقررها الله
سبحانه في كتابه العزيز بقوله: [فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَاًخُذُونَ
عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإن يَاًتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاًخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم
مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [الأعراف: 169] .
وقوله تعالى: [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الكِتَابَ]
[غافر: 53] .
وقوله تعالى: [وَمَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الَذِينَ أُورِثُوا الكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي
شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ] [الشورى: 14] .
وبذلك ندرك أنه لا داعي للإعراض عن اعتبار كلّ من القرآن الكريم والسنة
الصحيحة تراثاً؛ فهما في قمة التراث وأقدسه وأطهره، والأحق بالرعاية والدراية،
واللذان لا يخضعان البتة لما تخضع له بقية فروع التراث النابعة عنهما أو بمشاركة
غيرهما، كالتراث الأدبي أو المعماري، أو غير ذلك من فروع ما يقع تحت
مصطلح التراث وأقسامه.