متابعات
مقدمة منهجية في فقه الاصطلاح وعلاج إشكالاته
على ضوء منهج أهل السنة والجماعة
حمدي عبيد
(إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر،
وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيد على القبح بأنه تزوير للحقيقة،
وتغليط للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغتر بهذه الأسماء الخاطئة،
ويا ويح تاريخنا إذا بُني على هذه المقدمات الكاذبة) [1] .
بهذا الوصف الدقيق لخص الشيخ محمد البشير الإبراهيمي واقع المصطلحات
وإشكاليات الاصطلاح المتعددة. بعدما نجح رواد التسويق الثقافي في استلاب بعض
ألفاظنا الشرعية تارة وتفريغ مضمونها تارة أخرى، وازداد ذلك في ظل حالة
الضعف والوهن التي لا تفتأ فيها الشعوب المسلمة تردد تلك المصطلحات الضبابية
المراوغة دون وعي بمضمونها أو إدراك لحقيقتها، فمثّل ذلك أحد مظاهر التراجع
المعرفي والحضاري للأمة الإسلامية في قرونها الأخيرة ومظاهره، وبذا قَصّرت
في أشرف مهامها بعد تحقيق العبودية لله - تعالى - وإقامة الدين كله لله؛ في مهمة
الشهادة على الخلق كما أمر الله - تعالى -: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا
شُهَدََاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: 143] ، أضف إلى ذلك
الاختلال الواضح في الكثير من المفاهيم بين أبناء الأمة وفئاتها، والاضطراب
البين في دلالاتها ومعانيها، الأمر الذي تسبب في ضياع التصورات، واختلاف
المعاني والدلالات من ذهن لآخر؛ فانقطعت بذلك سبل التواصل والحوار بينهم
(حتى أصبح أقرب إلى حوار الطرشان) .
فالمصطلحات كما أنها رسائل فكرية موجهة، فهي أيضاً وسائل للتفاهم بأقصر
طريق وأوضح دلالة وأقل مجهود؛ فهي - بحق - أدوات للتواصل والتعبير عما
تحمله من مفاهيم يتصورها الإنسان وينطلق منها في تدينه وردود أفعاله؛ حيث إن
(الحكم على الشيء فرع عن تصوره) .
إن هناك حكمة يمكن التماسها في تحذير الرب - جل وعلا - للصحابة الكرام- رضي الله عنهم - من استعمال لفظ يحمل أكثر من دلالة في خطابهم للنبي -
صلى الله عليه وسلم- ناهياً لهم أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم. يقول -
تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ... ]
[البقرة: 104] .
وعلى ذلك المنهج الرباني ربّى النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة،
وعلى ذلك المنهج ساروا - رضي الله عنهم -.
إنّ تعدّد إشكاليات الاصطلاح يدعونا أولاً إلى تعريفه وبيان ضوابط التعامل
مع المصطلحات بأنواعها، وأعني بالاصطلاح هنا ما عرف قديماً باسم:
(المواضعة) ، أو علم الحدود - أي: حدود الألفاظ، أو علم الدلالة الذي عرف بعد
ذلك بعلم المصطلحات لكثرتها وشيوعها في كل فن [2] .
وعلى ذلك؛ فإن الاصطلاح في اللغة: مصدر اصطلح بمعنى اتفق، أما في
الاصطلاح فيعرفه الشريف الجرجاني (ت: 816هـ) بقوله: الاصطلاح عبارة عن
اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما يُنقل عن موضعه الأول. وقيل: هو إخراج
اللفظ عن معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل: الاصطلاح اتفاق طائفة على
وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين) [3] .
أما أبو البقاء الكفوي (ت 1094هـ) فيعرف الاصطلاح في (الكليات) بقوله:
(هو اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل: إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى
معنى آخر لبيان المراد) [4] أي أن الاصطلاح نوع من المواضعة، والوضع في
اللغة (هو جعل اللفظ (المصطلح) بإزاء المعنى، وفي الاصطلاح: (تخصيص
شيء بشيء متى أطلق، أو أحس الشيء الأول فهم منه الشيء الثاني) [5] .
وما سبق يعني أن الاصطلاح ما هو إلا عملية وضع جديدة على حسب
شروط معينة، ومن هذه المصطلحات (المواضعات) ما يعرف حدها باللغة كالشمس
والقمر والسماء والأرض، وأقصد بالحد هنا: ما دل عليه الاسم على وجه الإجمال
فيما يميز بين الشيء المحدود وغيره، وأن حقيقته هي بيان مسمى الاسم، وتميز
المحدود عن غيره لا تصوير المحدود. ومن هذه المصطلحات ما يُعرف حدّها
ومسماها بالشرع وَحْدَه؛ وهي ما تعرف بالألفاظ الشرعية (الحقيقة الشرعية) حيث
تتعلق بها الأحكام مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان والإسلام والكفر
والنفاق.. وغير ذلك من الألفاظ الشرعية.
ومنها ما لم يحدها الشرع بحد وليس لها حد واحد يشترك فيه جميع أهل اللغة؛ بل تختلف باختلاف أعراف الناس وهي ما يطلق عليه: المصطلحات العرفية
(الحقيقة العرفية) سواءً كانت عامة مثل البيع والنكاح والدابة ... أو خاصة مثل ما
تعارف عليه أهل الصناعات في صناعاتهم.
ومفهوم المصطلح الواحد قد يختلف من طائفة لأخرى ومن بلد إلى بلد ومن
عصر إلى عصر؛ بل ومن دين ومذهب إلى آخر، وأحياناً تختلف هذه
المصطلحات أو دلالاتها لدى أتباع الدين الواحد؛ فمثلاً: العدل عند المعتزلة هو
نفي القدر؛ بينما معناه مختلف تماماً عند أهل السنة، وهكذا (التوحيد والتنزيه) عند
أهل الكلام عامة - ومنهم متأخرو الأشاعرة - هما مختلفان عما عند أهل السنة
والجماعة، وكذلك (الإيمان) نجد فيه الاختلاف نفسه في الدلالة عند الفرق الإسلامية
بينها وبين بعضها؛ فضلاً عما هو عند أهل السنة والجماعة.
هذا الأمر يضطرنا إلى أَنْ نعطي مزيداً من البيان عن كل نوع من أنواع
المواضعات السالفة مع الإشارة إلى بعض ما يطرأ عليها من إشكالات، وذلك فيما
يلي:
أولاً: ما يعرف حده باللغة: وهو ما يعرف بالحقيقة اللغوية أو الحقيقة
الوضعية، وفيها يقال: معنى الكلمة في اللغة كذا. والحقيقة اللغوية هي مدلول
الكلمة المستعملة فيما وضعت له؛ بحيث تدل على معناها بنفسها من غير حاجة إلى
علاقة أو قرينة، وذلك كاستعمال القمر للكوكب المعروف لا للوجه المشرق
مثلاً [6] ، وكاستعمال الرجل للإنسان الذكر، والمرأة للأنثى الإنسان.
ثانياً: ما يعرف حده بالشرع: ويقصد به الألفاظ الشرعية أو الحقيقة
الشرعية، وهي ألفاظ لغوية استعملها الشارع مقيدة لا مطلقة على وجه يختص بمراد الشارع [7] ، مثال ذلك: الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، والكفر، والإيمان ... فالصلاة مثلاً في حقيقتها اللغوية تأتي بمعنى الدعاء، أما في لغة الشرع فإنها تنصرف إلى الأقوال والأفعال - ومن ضمنها الدعاء - المُبتدأَة بالتكبير والمختتمة بالتسليم وفق شروط خاصة معروفة عند الفقهاء، وعلى الرغم من أن هناك علاقة بين المعنيين إلا أن المعنى الشرعي للفظ ليس هو المعنى اللغوي نفسه؛ حيث إن الشارع قيّدها في حقيقتها اللغوية ببعض المعاني الشرعية المرادة فانصرف بذلك اللفظ إلى حقيقته الشرعية.
ومن نظائر ذلك (الزكاة) وهي اسم لما تزكو به النفس، وزكاة النفس زيادة
خيرها، وذهاب شرها، والإحسان إلى الناس من أعظم ما تزكو به النفس [8] .
وهذه (الألفاظ الشرعية لها حرمة، ومن تمام العلم أن يُبحث عن مراد رسوله
بها ليُثبَت ما أثبته ويُنفى ما نفاه من المعاني؛ فإنه يجب علينا أن نُصدّقه في كل ما
أخبر، ونطيعه في كل ما أوجب وأمر) [9] .
ويتفرع عن هذا النوع الثاني عدد من المسائل والإشكالات التي ترد عليها
ومن ذلك مثلاً: هل الألفاظ الشرعية من قبيل الاصطلاح؟ بمعنى: هل يصح أن
يقال مثلاً: الصلاة في اللغة كذا، وفي الاصطلاح كذا؟ يجيب عن ذلك أبو البقاء
في (الكليات) بقوله: (والاصطلاح مقابل الشرع في عرف الفقهاء؛ ولعل وجه ذلك
أن الاصطلاح (افتعال) من (الصلح) للمشاركة كالاقتسام، والأمور الشرعية
موضوعاتُ الشارعِ وحده لا بتصالحٍ عليها بين الأقوام وتواضعٍ منهم.
ويستعمل الاصطلاح غالباً في العلم الذي تحصل معلوماته بالنظر
والاستدلال) [10] . ويؤكد على نتيجة البحث هذه الدكتور بكر أبو زيد بقوله: (ثم ليعلم أن من هذه الألفاظ الاصطلاحية ما لا تثبت دلالته على وتيرة واحدة، بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق؛ بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق، وتختص بمعنى ما، لكن هذا التغير في نطاق مقاييس اللغة والشرع، وهذا التطور أيضاً في الألفاظ المتلقاة بنص من الشارع غير وارد، ولهذا حصل التفريق في ألقابها فيقال فيما ورد به نص: (حقيقة شرعية) ولا يقال: (حقيقة اصطلاحية) . والله أعلم) [11] .
وهذا لا يمنع من أن هناك ألفاظاً خرجت من معناها الشرعي بمقتضى المعنى
العرفي الخاص فأصبح لها في عرف من اصطلحوا على معناها معنى خاص مثل:
التيمم، الشريعة، الفقه، وهذا النوع يصح أن يقال فيه أنه من قبيل الاصطلاح.
وبوجه عام فإن الألفاظ ذات المعاني الشرعية تنقسم إلى قسمين:
الأول: قسم مذكور باللفظ والمعنى في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع؛
فهذا يجب اعتبار معناه وتعليق الحكم به [12] .
الثاني: قسم وقع فيه النزاع بين الطوائف، وهو أنواع كما يلي:
1 - أن يكون المعنى صحيحاً موافقاً للكتاب والسنة، واللفظ محدثاً ولكنه يدل
عليه، فلا مانع إذاً من ذلك باعتبار أنها مسألة اصطلاحية ولا مشاحّة في
الاصطلاح في هذه الحالة؛ وذلك ما لم يتضمن مخالفة شرعية أو مخالفة لمقاييس
اللغة، مع مراعاة أن يكون ذلك في حدود الضرورة؛ حيث لا تُعلّق مسائل العقيدة
ودلائلها على تلك المصطلحات المحدثة.
2 - أن يكون المعنى باطلاً مخالفاً للكتاب والسنة، واللفظ لا يدل عليه؛ ففي
هذه الحالة لا يصلح إضافته ولا استعمال المصطلح له [13] . وهنا لا معنى لقولهم: لا مشاحّة في الاصطلاح؛ حيث إن المشاحّة واقعة لا محالة، ومن أمثلة ذلك:
استخدام الفلاسفة مصطلح العقل أو المادة ونحوهما في كلامهم على غير معانيها عند
العرب، ومثل ذلك ما استعمله أهل الكلام والفلسفة من ألفاظ التوحيد والإيمان
والسُنّة والشريعة ونحوها من الألفاظ التي يكثر استعمالها في ألفاظ التنزيل مما
يضيق المجال هنا عن ذكر معانيها عندهم بالمقارنة بما هو عند أهل السنة والجماعة.
3 - هناك اصطلاحات قد تكون صحيحة المعنى؛ لكن المعنى مبتدع ولا يدل
عليه، وليس ذلك فقط؛ بل وفيه تلبيس وإجمال، وليس هو معناه في اللغة، ولكنه
مصطلح له ولطائفته؛ حيث يحمل في طياته حقاً وباطلاً واشتباهاً؛ فهذا يجب أن
تطبق عليه قاعدة الاستفسار والتفصيل، ومن ثم فَيُقْبَل ما فيه من حق، ويُرفَض ما
فيه من باطل؛ فالقبول والتسليم لهذه المصطلحات بالجملة خطأ، كما أن النفي
والرفض لها بالجملة خطأ أيضاً.
(وإن أكثر اختلاف العقلاء من البشر من جهة هذا النوع من الألفاظ المشتركة؛ بَلْ وينتج عنها من فساد الدين ما لا يعلمه إلا الله - تعالى - وحده) [14] لذا كان
(الأئمة الكبار دائماً ما ينهون عن استخدام هذه المصطلحات الموهمة والمشتبهة ذات
الدلالات المنحرفة مثل: الجسم والعرض والتحيز والانقسام والتركيب والجوهر
وغيرها من مصطلحات المتكلمين التي هي على غير معانيها في لغة العرب، وكان
لاصطلاح المتكلمين هذه المصطلحات وأمثالها ومحاكمة النص الشرعي على ضوئها
سبب مباشر في لجوئهم إلى النفي والتعطيل) [15] .
الضوابط المطلوبة في التعامل:
أولاً المصطلحات: ومراعاة لحيّز المقال سنشير باختصار إلى أهم هذه
الضوابط دون تمثيل إلا لما تقتضيه الضرورة.
وفي البداية لا بد من التأكيتد على أن (المعاني الشرعية تؤخذ من ألفاظ
التنزيل، ويُلتزم مدلول اللفظ، ونؤمن باللفظ سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه؛ لأن
ذلك عبادة وضده معصية) [16] .
ثانياً: إن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها والمراد بها
من قِبَل النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُحْتَجْ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل
اللغة ولا غيرهم.
أما الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذاك من جنس علم البيان، وتعليل
الأحكام، وهو زيادة في العلم، وبيان حكمة لفظ القرآن، وإن كان معرفة المراد بها
لا يتوقف على هذا.
ثالثاً: ما دل عليه العقل مجرداً عن السمع لا ارتباط له بالألفاظ؛ فلو عبر
عن معنى عقلي بعبارة موهمة باشتراك أو إجمال استفصلنا، فقبلنا المعنى الحق ولو
كانت العبارة باطلة.
ويقول أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مؤصلاً لهذه القاعدة:
(الألفاظ التي لا توجد في الكتاب والسنة، بل ولا في كلام الصحابة والتابعين لهم
بإحسان، وقد تنازع فيها الناس، فهذه الألفاظ لا تثبت ولا تُنفى إلا بعد الاستفسار
عن معانيها؛ فإن وُجِدتْ مما نفاه الرب عن نفسه نفيت، وإن وجدنا اللفظ أُثبِت به
حق وباطل، أو نُفي به حق وباطل، أو كان مجملاً يراد به حق وباطل وصاحبه
أراد به بعضها، لكنه عند الإطلاق يوهم الناس أو يفهمهم ما أراد وغير ما أراد،
فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها [17] .
رابعاً: هذا الضابط متفرع عن السابق له فيما يتعلق بالألفاظ المجملة
المشتركة، ويعد متمماً لقاعدة الاستفسار والتفصيل آنفة الذكر؛ حيث يبقى بعد ذلك
النظر في إطلاق اللفظ ونفيه، وهي مسألة فقهية؛ فقد يكون المعنى صحيحاً ويمتنع
من إطلاق اللفظ لما فيه من مفسدة، وقد يكون اللفظ مشروعاً ولكن المعنى الذي
أراده المتكلم باطل كما قال علي - رضي الله عنه - لمن قال من الخوارج المارقين: (لا حكم إلا لله) (كلمة حق أريد بها باطل) [18] .
خامساً: الألفاظُ التي يُبنى عليها حكمٌ شرعيٌ العبرةُ فيها بالحقائق والمعاني لا
بالألفاظ والمباني، وما ذلك إلا لأن الله - تعالى - لم يحرم المحرمات لمجرد
أسمائها؛ بل لما اشتملت عليه من مفاسد مضرة بالدنيا والدين، ويمثل على ذلك
الأصل ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (وأوجب تبديل الأسماء والصور تبدل
الأحكام وإلا فسدت الديانات وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام.
وأي شيء نفع المشركين تسميتُهم أصنامَهم آلهة، وليس فيها شيء من صفات
الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نفعهم تسمية الإشراك بالله تقرباً إلى الله؟ وأي شيء
نفع المعطلين لحقائق أسماء الله وصفاته تسمية ذلك تنزيهاً [19] .
سادساً: ومن هذه الأصول والضوابط أيضاً: مراعاة التطور الدلالي للفظ أو
للمصطلح، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين الغربيين: (علم اجتماع المعاني)
وأشار إليه بعض آخر بـ (علم حفريات المصطلح) ، وأياً كانت التسمية فلا مشاحة
في الاصطلاح هنا، ولكن المهم أن يتم ذلك من خلال دراسة البيئة الزمانية
والمكانية التي ظهر فيها المصطلح، ومن خلال الوقوف على عادات عصر ظهور
اللفظ أو المصطلح، ومعرفة معناه في اللغة التي اشتق منها؛ أي معرفة لغته
الأصلية، مع دراسة العرف السائد وقت ظهوره بما يعني تتبع عناصر القوة
والضعف المحركة للأفكار والجماعات وأثرها في ولادة المصطلح ومفهومه؛ ومن
ثمّ متابعة مراحل تطوره الدلالي والمعرفي في كل طور من أطواره مع ملاحظة
مدى التغير الذي طرأ على اللفظ أو المفهوم ثم يُقارن لفظ كل مرحلة ومفهومها
بالمعاني والدلالات المقابلة له في اللغة العربية.
وفي هذا السياق نلحظ سَبْق شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على غيره
من علماء الغرب أمثال: دونالد سشان، وإريك دي بوولييه، وجون ويلي،
وميشال ونستون الذين لم ينتبهوا إلى هذا الأصل وذلكم الضابط إلا في نهاية القرن
العشرين الميلادي.
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - سبب ذلك بقوله: (دلالة
الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغةٍ وعادةٍ
واصطلاحٍ أحَدَثه قوم آخرون بعد انقراض عصره، وعصر الذين خاطبهم بلغته
وعادته كما قال - تعالى -: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]
[ابراهيم: 4] [20] .
سابعاً: ينبغي التفريق بين دلالة الألفاظ في الكتاب والسنة وبين الإطلاق
العرفي لها.
ومثال ذلك (الحدود) . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (الحدود
في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل: آخر الحلال،
وأول الحرام؛ فيقال في الأول: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا] [البقرة: 229] ،
ويقال في الثاني: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا] [البقرة: 187] ، وأما تسمية
العقوبة المقدرة حداً فهو عرف حادث) [21] ، ومثال ذلك: (الفقه) الذي أخذ يتقلب
في عدد من الأطوار اكتسب في كلٍ منها دلالة مختلفة عن الأخرى [22] .
ثامناً: وضمن هذه الضوابط: مراعاة السياق ومقتضى الحال والنظر في
قرائن الكلام عند تفسيرها [23] ، فمثلاً لو أن للفظ معنيين واضحين: أحدهما يدل
على الحقيقة اللغوية، والآخر يدل على الحقيقة الشرعية؛ فيحمل على الشرعية إلا
أن تدل قرينة على إرادة الحقيقة اللغوية [24] .
ومثال ذلك: قول الله - تعالى -: [وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ]
[التوبة: 103] المعنى: ادع لهم فإن دعاءك تثبيت لهم وطمأنينة؛ لأن لفظ الصلاة
يدور بين حقيقته اللغوية والشرعية، ولكن قرينة الحال بالنسبة للرسول -صلى الله
عليه وسلم- هنا تستوجب حمل اللفظ على الحقيقة اللغوية.
تاسعاً: من تفريعات الضابط السابق: أن اللفظ ذا المعنى الشرعي إذا دار
بين الحقيقة الشرعية والعرفية فإن الحقيقة الشرعية أوْلى؛ لأن الشرع ألزمه [25] .
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (واعلم أن التحقيق: حمل اللفظ على
الحقيقة الشرعية، ثم العرفية، ثم اللغوية، ثم المجاز عند القائل به إن دلت عليه
قرينة) [26] .
عاشراً: ينبغي اعتبار مراد المتكلم ومقاصده، ولا يُكتفى في ذلك بمجرد فهم
هذه الألفاظ والمصطلحات، ولكن يُضمّ النظير إلى نظيره؛ يقول ابن القيم:
(فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافة تابعة لفهم
السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين في ذلك) [27] ولم
يكتف ابن القيم باعتبار مراد المتكلم ومقاصده فقط، ولكن أضاف أيضاً فهم السامع
وإدراكه وأثره على اختلاف المفاهيم للألفاظ والمصطلحات. وفي الواقع يعد هذا
الأصل بالإضافة إلى ما سبق من أصول من أبرز سمات العدل والإنصاف في منهج
أهل السنة والجماعة في قضية الحكم على الأشخاص.
الحادي عشر: إن مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم أمر غير
مكروه إذا احتيج إليه بشرط أن تكون المعاني صحيحة، وإنما يكره ذلك إذا لم يحتج
إليه، ومن ذلك جواز ترجمة القرآن والحديث وقراءة كتب الأمم بلغاتها [28] ،
ويضيف شيخ الإسلام - رحمه الله - على كلامه السابق قوله: (ونحن نحتاج إلى
معرفة اصطلاحهم وهذا جائز، بل حسن، بل قد يجب أحياناً) [29] ويقرر في
التعامل مع ذلك قاعدة كلية بقوله: (ومعرفتنا بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في
معرفتنا مقاصدهم، ثم نحكّم فيها كتاب الله - تعالى -؛ فكل من شرح كلام غيره
وفسره وبيّن تأويله فلا بد له من معرفة حدود الأسماء التي فيه) [30] وقد سبق بيان
شيء من ذلك.
ولا أحب أن أترك هذا المقام قبل الإشارة إلى ما قرره شيخ الإسلام - رحمه
الله - من أن السلف لم يذموا المصطلحات الغريبة، ومنها: الفلسفية، والكلامية،
وغيرها، لكونها محدثة ولكن لاشتمالها على معانٍ مجملة فيها من الباطل المذموم
في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه؛ في الوقت الذي قد تحمل فيه من الحق
المشروع في الوقت نفسه [31] وقد سبق بيان ذلك.
الثاني عشر: من تتمة البحث أن أذكّر أنه ينبغي أن يفرق بين اللفظ الذي
يدعى به الرب - جل وعلا - أو يعبد به - حيث لا يُدعى الله - تعالى - إلا
بالأسماء الحسنى والصفات العلى وهي أسماء وصفات ألفاظها توقيفية - وبين ما
يُخبر [به] عنه لإثبات حق أو نفي باطل؛ حيث إن (الفرق بين مقامَي المخاطبة
والإخبار فرق ثابت بالشرع والعقل، يقول - تعالى -: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى
فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ] [الأعراف: 180] ، وعليه يصح أن
يدعى ويقال: يا رحمن يا رحيم، ولا يقال: يا شيء) [32] .
ومن ذلك أيضاً: أنه ينبغي التأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مقام
المخاطبة والإخبار أيضاً لقوله - تعالى -: [لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُم بَعْضاً] [النور: 63] ، أما مقتام الإخبار عنه -صلى الله عليه وسلم-
فيصح أن نخبر عنه باسمه كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - عنه -صلى الله عليه
وسلم- بقوله: [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]
[الأحزاب: 40] ) [33] .
ثالثاً: ما يعرف حده بالعرف: وهو ما يطلق عليه: المصطلح العرفي أو
(الحقيقة العرفية) والحقيقة العرفية: هي ما صار اللفظ دالاً فيها على المعنى
بالعرف لا باللغة، فهو يكون تارة أعم من المعنى اللغوي، وتارة أخص، وتارة
يكون مبايناً له لكن بينهما علاقة استعمل لأجلها [34] .
أي أن العرف أخرج اللفظ عن معناه اللغوي إلى معنى آخر، وقد يكون ذلك
المعنى عاماً يعرفه به عموم الناس في بلد معين، وعليه فإن هذا الوضع يسمى
بالوضع العرفي العام، ومثال ذلك كلمة (دابة) فهي تعني في اللغة: كل شيء يدب
على وجه الأرض فهو دابة. وفي العرف يطلق على الفرس والحمار والبغل؛
وسمي هذا الوضع عرفياً عاماً لأن الجميع مشتركون في فهم معناه عند إطلاقه من
غير رجوع إلى الوضع اللغوي الأول [35] .
أما الوضع العرفي الخاص فهو ما يضعه أرباب كل مهنة أو فن معين لسرعة
التفاهم بينهم؛ فإذا أطلق (المصطلح) انطلق الذهن مباشرة إلى ذلك المعنى.
يقول ابن الجوزي: (إن لأرباب كل صناعة ألفاظاً يتداولونها بينهم في
مجاراتهم، وقد وضعوها بإزاء مسميات يحتاجون إليها في محاوراتهم فلا يقف
غيرهم على موضوعها إلا بتوقيف منهم) [36] ، وقد يختلف أهل هذا الاصطلاح - العرفي - حول المصطلح نفسه سواء داخل المذهب أو خارجه.
وأحياناً يكون للمصطلح الواحد عدة معان، ويكون لبعض هذه المعاني
مصطلحات أخرى، تحمل معانيَ أخرى أيضاً؛ فمثلاً: بين الفقهاء من يطلق عقد
السّلَم على عقد السّلَف، ومنهم من يسمي عقد المضاربة بعقد القراض.
وكذلك عقد الإجارة يسميه بعضهم: عقد الكراء. وجمهور الأصوليين يطلقون
مصطلح الفرض على الواجب بينما يفرق بينهما أصوليو الأحناف.
وقد يكون (اختلافه إقليمياً لعادة عرفية: قولية، أو فعلية، أو يكون تحت
تأثير وطأة القوانين الوضعية في البلاد العربية والإسلامية، أو يكون لمداخلة
العجمة تحت وطأة السلطان الأعجمي إلى غير ذلك من أنواع الاختلاف، ومهما
كانت جوانبه متعددة ومتنوعة فإنه بتنزيل المختلف فيه على اللغة العربية بمقاييسها
والشريعة بقواعدها يزول الاختلاف ويتوحد الاصطلاح) [37] . وفي ذلك يقول ابن
حزم: (لو اتفقت مصطلحات الناس لانتهت ثلاثة أرباع خلاف أهل الأرض) [38] .
هذا ولتفصيل إشكالات الاصطلاح العرفي ومنهج التعامل معها حديث آخر.