مجله البيان (صفحة 3092)

قضايا دعوية

مع قصة إبراهيم " عليه السلام "

[رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ

رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ

وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [إبراهيم: 37]

د. حمدي شعيب

من خلال هذه اللمحة القرآنية التاريخية يرنو المسلم بفكره، ويتذكر تاريخ

تلك العائلة المباركة، ويسمع الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يتجه إلى ربه معلناً

أنه قد أسكن بعض أهله بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام،

ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها، وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون من أجلها هذه المشقة، ثم دعا الحق سبحانه أن يرقق قلوب

البشر، ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن

يرزق أهل المكان الخير مع هؤلاء القادمين؛ ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.

وهو مرتكز دعوي يوضح أهمية استشعار عمق جذور هذه الدعوة وبعدها

التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلواته الخمس، ويؤكد على هذه

الصلة القوية بين حلقات الدعوة: (اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما

صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) [1] .

ويفخر المسلم بأنه حلقة في سلسلة الخير؛ وذلك عندما يطّلع على ما ورد في

معنى (آل محمد) ، (قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني

عبد المطلب، وقيل: هم ذريته وأزواجه، وقيل: هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة،

وقيل: هم المتقون من أمته) [2] .

علامة النضج:

تنمية روح الارتباط بالفكرة: عندما نستمر في قراءة التاريخ، من خلال

سيرة تلك العائلة المباركة، ونتذكر كيف أن إبراهيم عليه السلام امتثل لأمر الله -

عز وجل- ووحيه، وأخذ وحيده إسماعيل عليه السلام وزوجته هاجر وذهب بهما

إلى مكة، (وكانت مكة يومئذ لا نبت فيها ولا ماء) ، وأنزلهما بمكة في موضع

زمزم، ومضى لا يلوي على شيء. ودعا دعاءه الخاشع الراضي، وانصرف إلى

أهله بالشام، وترك هاجر وولدها الذي طالما دعا الله - سبحانه - أن يرزقه به.

كم كانت تضحية كبيرة! أبَعْدَ أن يُرزق الولد، ويراه بين يديه، وتقر عينه برؤيته، يُحرم منه وهو حي يرزق؟ ! والأعجب من هذا أن يحرم منه طائعاً مختاراً

نزولاً على أمر الله - عز وجل [3] .

من خلال هذه اللمحة التاريخية ندرك أن تلك العقبة أو الخطوة الابتلائية في

حياة أبي الأنبياء عليه السلام تمثل معلماً في طريق الدعاة، ولنا أن نسميه ما شئنا:

نسميه ابتلاء، نسميه تضحية، ولكن الأهم من ذلك أنه يمثل قمة النضج في حياة

الإنسان عندما يصل إلى مرحلة الترتيب الصحيح لأولوياته، فتصبح الفكرة مقدمة

على أي أمر أو مصلحة أو ارتباط آخر في حياته.

فإذا كان الطفل يمر بمراحل اجتماعية نفسية ثلاث هي: مرحلة التمحور حول

الأشياء، ثم مرحلة التمحور حول الأشخاص، ثم مرحلة التمحور حول الأفكار.

فكذلك المجتمعات، تمر بالمراحل نفسها في تطورها الحضاري [4] . فنحن نؤكد

أن ذلك واقع أيضاً في حياة الداعية، وأن تطوره التربوي والدعوي يمر بالمراحل

نفسها! حيث يبلغ قمة النضج، عندما يصبح تمحوره حول الفكرة التي يؤمن بها،

والمبدأ الذي يحمله، ويتعدى مرحلة التأثر والتمحور حول الوسائل والأشياء

والماديات، ومرحلة التمحور حول الأشخاص.

وتأمل تلك التضحية في سبيل الفكرة التي لا تمثل قمة النضج فقط، بل إن

الموت في سبيلها كان من أعظم صور النصر، وذلك بانتصار الفكرة، حين مات

الغلام على يد الساحر؛ كما جاء في قصة) الغلام والراهب [5] . وتدبر مغزى

هذا التوجيه الرباني، لخير الأجيال، حينما أصابهم الخور عندما سرت إشاعة

مقتله -صلى الله عليه وسلم- أثناء محنة أُحُد؛ وذلك حتى يرتبطوا بالفكرة لا

بالشخص ولو كان خير من وطئ الحصى -صلى الله عليه وسلم-: [ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ

رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ومَن يَنقَلِبْ

عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] [آل عمران: 144] .

وتدبر أيضاً سنة الله - عز وجل - في هذا القانون الشاق، (قانون الخروج) ، أو المرحلة التي لا بد منها، في طريق أصحاب الدعوات، والذي لفت إليه نظر

الحبيب -صلى الله عليه وسلم- عن طريق ورقة بن نوفل، في أول خطواته

الدعوية، عندما) قال: يا ليتني فيها جذعاً - أي شاباً جلداً - إذ يخرجك قومك،

قال: أو مخرجي هم؟ ! قال: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي [6] .

وتدبر كذلك قصة يوسف عليه السلام وما تمثله من نموذج للخروج والابتلاء

قبل التمكين، ومغزى نزولها في الفترة الحرجة من عمر الدعوة بين عام الحزن،

وبين بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، التي جعل فيهما الفرج والمخرج لرسول الله -

صلى الله عليه وسلم- وللعصبة المؤمنة معه وللدعوة الإسلامية، بالخروج والهجرة

إلى المدينة.

وهو المعلم التربوي العظيم، الذي يوضح أن الداعية لا بد أن يعيد ترتيب

أولوياته، ويدرك أن قمة النضج الدعوي، في حياة الدعاة، وأصحاب المبادئ، لا

تكون إلا بالتطور والخروج بمعناه الراحب اللاحب، الخروج من أسر الوسائل

والأشياء والماديات، ومن التأثر بالشخصيات، إلى التمحور حول الفكرة التي يؤمن

بها والمبدأ الذي يحمله.

اعقلها ... وتوكل:

علامة توازن الحركة الدعوية: عندما صدع إبراهيم عليه السلام بأمر ربه،

وترك هاجر ووحيدها، ومضى بعد أن وضع عندهما جراباً - وهو الوعاء الذي

يحفظ فيه الزاد ونحوه فيه تمر، وسقاء: وهو القربة الصغيرة فيها ماء - فكانت

هاجر تأكل التمر، وتشرب الماء، وترضع وليدها.

وهذا السلوك العظيم في حياة الأنبياء والدعاة على مر التاريخ يوضح أن خلق

التوكل على الله - عز وجل لا ينافي مبدأ الأخذ بالأسباب.

وتدبر خطة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو المعصوم، حينما

هاجر من المدينة، وكيف أخذ كل الأسباب. وكذلك كان ديدنه -صلى الله عليه

وسلم- في كل غزواته؛ بل وفي كل أموره.

وضوابط التوكل عليه - سبحانه - وأهمها الأخذ بالأسباب، هذه الضوابط

وردت في أكثر من وصية عنه -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث:) جاء

رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أعقلها وأتوكل، أو

أطلقها وأتوكل؟ قال:) اعقلها وتوكل [7] .

وهذا المعلم الدعوي، أو الركيزة التربوية، توضح أهمية وجود التوازن في

حركة الأفراد الدعوية، بين جناحي الحركة الإيجابية، وهما: الأخذ بالأسباب

الشرعية، ثم التوكل عليه - سبحانه.

منارة ... لا تنطفئ:

الثبات على الحق: عندما مضى الخليل عليه السلام قافلاً إلى الشام بعد أن

ترك هاجر لوليدها،) فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا

بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت

إليها! ! ، فقالت: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت [8] . تد بر هذا الموقف العصيب، وتلك التجربة المريرة، في حياة تلك الأسرة المؤمنة المباركة، وتدبر هذه الزوجة البارة الصالحة الممتحنة، وهي تتعقب زوجها، وتصف له الوادي. وتدبر مغزى هذا الوصف لحالها:) فقالت ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها! !

ولعل وصف الحديث لعظمة هذا الموقف، ليس فقط في استجابة وامتثال

الخليل عليه السلام لوحيه - سبحانه -، بل في بلوغه هذه القمة الشامخة في الثبات

على الحق، رغم رجاء زوجته، مراراً. حقاً [إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً]

[النحل: 120] .

وهذا الثبات، هو المعلم الدعوي البارز، والمنارة التي لا تنطفئ، تلك

المنارة التي يشعلها السابقون للاحقين، على طريق الدعوة. وهو الإرث العظيم

الذي يفخر به الأبناء السائرون على طريق الآباء والأجداد الهادين المهتدين، أولئك

الرجال الصادقون الثابتون، الذين لم يبدلوا، إذ: [صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] .

عودة راضية ... وانطلاق مطمئن:

أهمية وجود البيت المسلم: وفي موقف هاجر وهي تتبع زوجها عليه السلام

وتلح عليه مراراً، ثم قناعتها بما فعله الخليل عليه السلام عندما علمت أن هذا أمر

من الله - سبحانه -، وقالت قولتها الخالدة: (إذاً لا يضيعنا) .

تدبر هذا الموقف العصيب: زوجة ضعيفة، ووليد أضعف، بل ووحيد أبويه، يتركان في صحراء قاحلة، في واد ليس فيه إنس ولا شيء! ثم يكون الاطمئنان، والقناعة بكلمة واحدة من زوجها عليه السلام عندما قال: (نعم) مجيباً على سؤالها

الملهوف: (آلله الذي أمرك بهذا؟) .

وكم ينقص الدعاة العاملين، من تربية وجهد، حتى تصل أسرهم أو تتشبه

بمثل تلك القمم، قبل أن ينطلقوا، كما انطلق الخليل عليه السلام؟ !

فالأم عندما تعرف وظيفتها الخالدة، وتعود لتحمي الجبهة الداخلية، راضية

قانعة، عندها وعندها فقط يمكن للأب أن ينطلق مطمئناً.

إن وجود الأسرة المسلمة، وتلك الجبهة الداخلية الربانية، في حياة الدعاة،

لهي من أهم الركائز والمعالم في طريق الدعوة.

والحركة الدعوية هي حركة مؤسسية جماعية، تعاونية تعاضدية، الفرد فيها

يندمج اندماجاً كلياً، بنفسه وأهله؛ بل وفي كل شؤونه.

وأي خلل فردي ما هو إلا علامة من علامات تضييع الثغور. فإذا ضاع ثغر، أصاب الخطر المجموع، كما يصيب الفرد. لذا؛ فإن الخلل الفردي يسأل عنه

الجميع! ويجب أن لا ينطلق الداعية خارجياً إلى مهامه الكبار قبل أن يرسي قواعد

قلعته داخلياً، ويضع عليها من يحرسها عن رضى وقناعة.

الركن الشديد:

تنمية فن استطار التوفيق الالهي: عندما انطلق الخليل عليه السلام حتى إذا

كان عند الثنية التي بأعلى مكة في طريق منى وعرفات وهو الموضع الذي دخل

منه النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة وأصبح لا يرونه، استقبل إبراهيم عليه

السلام بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الكلمات: [رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ

غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي

إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] [إبراهيم: 37] .

عندما يتأمل المسلم هذه الوقفة الإبراهيمية التربوية، بعد أن صدع بأمر ربه،

وأخذ بأسباب معيشة هاجر وابنها، وبعد أن أجاب على تساؤل هاجر، وطمأنها،

واقتنعت ورضيت، ثم اتجه إلى الركن الشديد، إليه - سبحانه - معلناً أنه قد أسكن

بعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام، ذكر الوظيفة

التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها، وهي إقامة الصلاة، وهي التي

يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق - سبحانه - أن يرقق قلوب البشر

ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق

أهل المكان الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.

والتوفيق الإلهي هو الرصيد الأهم والمعلم الرئيس لأي حركة دعوية يقع على

عاتقها إقامة مشروع الأمة الحضاري، وإيراده هنا حسب تسلسل القصة.

وهو رصيد يميز أهل الحق وأصحاب الدعوات عن غيرهم من أهل الباطل،

وهو الركن الشديد الذي يلوذ به كل رسول وكل داعية؛ خاصة أثناء لحظات الدعوة

الحرجة، وبعد أن تنقطع كل السبل وتتهاوى في الأسناد، وبعد الاجتهاد في الأخذ

بكل الأسباب. وتدبر موقفه -صلى الله عليه وسلم- وهو عائد حزين من الطائف،

وهو يؤكد لزيد بن حارثة رضي الله عنه على أهمية هذا المعلم الأساسي والركيزة

الأهم لأصحاب الدعوات: (يا زيد! إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن

الله ناصر دينه ومظهر نبيه) [9] .

لذا؛ فإن الداعية مطالب باستشعار فضل القوة التي أنجت إبراهيم عليه السلام

من النار، وموسى عليه السلام من فرعون، ويونس عليه السلام من بطن الحوت، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- في الغار وفي بدر وأثناء محنة حنين، وعليه أن

يتذكر أنهم قد نجوا بالدعاء وطلب العون منه - سبحانه - بعد الأخذ بالأسباب؛

وذلك حتى يكتمل تجردهم وخلوصهم من الركون إلى أي سبب دونه - جل وعلا-.

فلا يصح للداعية أن تكون نظرته للأحداث محدودة المدى وقاصرة التفسير،

فأقداره - سبحانه - دائمة الأحداث، ودائمة الحركة، [لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ

بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً] [الطلاق: 1] ، والوجود كله من طبيعته التغير والتبدل، حسب

(سنة التداول الإلهية) التي كان لها الأثر الطيب على النفوس المؤمنة التي خرجت

لتوها من المحنة العظيمة والمصيبة الكبرى في أحد [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ

النَّاسِ] [آل عمران: 140] .

والمؤمن دوماً يحدوه منهج الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز

رضوان الله عليه - في التعامل مع أقداره - سبحانه - عندما سئل: ما تشتهي؟

قال: ما يقضي الله - عز وجل.

ويغمره حسن الظن بربه، كما وجهه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: (قال

الله - عز وجل - في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث

ذكرني) [10] .

وكذلك كان الخطاب القرآني واضحاً وصريحاً للمؤمنين، ليوجههم إلى حسن

الظن بأقداره - سبحانه - فهي دوماً إلى خير ويسر: [سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ

يُسْراً] [الطلاق: 7] .

لكل ثغرة ... سامري:

الدور التفقدي للقيادة والمتابعة المستمرة: وتذكر تلك اللمحة التاريخية أن

الخليل عليه السلام استأذن سارة أن يذهب لزيارة هاجر وإسماعيل عليه السلام

فأذنت له، وشرطت عليه ألا ينزل، فركب البراق، وتوجه نحو مكة، وقصد

المكان الذي تركهما فيه، فوجد هاجر قد ماتت، ولم يجد إسماعيل عليه السلام

فسأل امرأته عنه وعن أحوالهم، فأخبرته أن زوجها خرج للرزق، وشكت له سوء

الحال، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام وأن يغير عتبة بابه، ففهم الابن أن والده

قد زاره ويأمره أن يطلق زوجته ففعل، وفي الزيارة الثانية قابلته الزوجة الثانية

بترحاب وأدب، ولم تشك سوء الحال، وأثنت على الله -سبحانه- وأحسنت إلى

الأب، فأخبرها أن تقرئ زوجها السلام، وتخبره أن عتبة بابه قد استقامت، ففهم

الابن رسالة الوالد، وأنه طمأنه على حاله وعلى أهله. من هذه اللمحة التربوية

الإبراهيمية، ندرك أهمية الدور التفقدي الاجتماعي للأب، حيال أسرته، رغم بعد

المسافات، ويتبين مدى الرقي في سلوك الخليل عليه السلام وهو يراعي شعور

زوجته سارة، وهو يستأذنها، ويراعي الطبيعة البشرية، وغريزة الغيرة، ولم

يمنعه ذلك من أن يتفقد باقي أحوال الأسرة الطيبة المباركة - عليهم السلام - جميعاً.

ونحن نتجاوز هذا المعنى القريب، إلى المجال الأوسع، إلى ما يهمنا في هذا

البحث المتواضع، وهو مدى أهمية الدور التفقدي للقيادة لكل الأفراد، وأن لا

تحابي أحداً على حساب أحد.

ويتبين مدى أهمية المتابعة لكل الأفراد، ولو كان في ذلك مشقة، حتى ولو

كان هناك من الأمور العظيمة، التي تشغلها؛ فالتوازن بين الواجبات مطلوب.

ولقد كان هذا الدور من الأركان البارزة في سيرته -صلى الله عليه وسلم-

ومنهجه التربوي، سواء في المجال الاجتماعي الحياتي، أو في المجال العسكري.

وتدبر موقفه عندما زوج -صلى الله عليه وسلم- جليبيباً الأنصاري من إحدى

بنات بني الحارث بن الخزرج - رضي الله عنهم - دعا لزوجه دعاء طيباً: (اللهم

صب عليها الخير صباً صباً ولا تجعل عيشها كداً كداً) . ثم افتقده في إحدى المغازي

له فقال: (هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال:

هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً. ثم قال: هل تفقدون من أحد؟

قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً، فاطلبوه في القتلى. فنظروا فوجدوه إلى جنب

سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا مني وأنا

منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه؟ هذا مني وأنا

منه. فوضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ساعديه ثم حفروا له، وما له

سرير إلا ساعدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى وضعه في قبره. قال

ثابت: فما في الأنصار أيم أنفق منها) [11] .

هذا الدور القيادي من الخطورة بمكان؛ ليس على الأفراد المعنيين فقط، بل

على المجموع.

وتدبر هذه الحادثة المشهورة التي حدثت أثناء الاستعداد لغزوة (تبوك) ، حيث

حكى كعب بن مالك -رضوان الله عليه - عن هذه القاصمة قائلا: (ولم يكن رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة،

فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً

ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم،

فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد بذلك الديوان - قال كعب: فقلَّ رجل يريد أن

يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله) [12] فتأمل هذا

الموقف الذي شعر به هذا الصحابي الجليل: فالعدد كثير، وليس هناك كتاب، مما

يشعر المرء بأنه ليس هناك من يلاحظ تغيبه، ويتابعه، ولكن وجود المربي الواعي

المتفقد كان العاصمة التي قال عنها كعب رضي الله عنه: (ولم يذكرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك، فقال - وهو جالس في القوم بتبوك: ما

فعل كعب بن مالك؟) [13] .

لهذا لم يعبث المبطلون بتركته -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتعرض قومه

لغواية الشياطين، ولم يجد السامريون أي ثغرة ليدخلوا منها إلى الصف، كما حدث

مع موسى عليه السلام.

وعلى الداعية، أن يحذر السامريين، فيهتم بالتوازن بين الواجبات الملقاة

على عاتقه، نحو دعوته وأهله ونفسه، فلا ينشغل بجانب على حساب الآخر، لأن

كل واجب إنما هو ثغرة، ولكل ثغرة سامري يتربص بها إذا انشغل أو غاب عنها،

ولم تشفع له نيته الحسنة، ولا سمو المهمة التي شغلته عنها، أن يضع نفسه في

موقف المؤاخذة والحساب.

الشرط النوعي ... الرواحل:

من فقه المرحلة ... اختيار افرادها: قد طلب الخليل من إسماعيل - عليهما

السلام - في زيارته التفقدية الأولى أن يطلق زوجته الأولى، وطلب منه أن يبقي

معه زوجته الثانية في زيارته الثانية.

من خلال هذه الصفحة الناصعة من سيرة تلك الأسرة المباركة، يتبين لنا عدة

ملامح تربوية: منها مدى العلاقة القوية بين أفراد تلك الأسرة المباركة، ومنها مدى

الحب والود والرعاية التي يكنها الوالد لولده، ومدى الاحترام والطاعة من الابن

تجاه الأب، وعظم مقدار الثقة المتبادلة بين الوالد وولده.

وكذلك نتبين الملمح التربوي العظيم، وهو أن هذه الأسرة مقبلة على مرحلة

عظيمة تتطلب نوعية معينة من الأفراد، للقيام بها والمشاركة في صنعها، وتحمل

أعبائها.

وعندما يدرك الداعية عظم المهمة الملقاة على عاتقه، عليه أولاً وقبل أن

يرفع يديه بالدعاء العظيم: [رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلْنَا

لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً] [الفرقان: 74] ، عليه أن يدرك خطورة الاختيار، اختيار

المشاركين معه المهمة الإمامة والقيادة للبشر، فيدقق في اختيار من ستشاركه

الطريق، بل ويدرك مسؤوليته في اختيار من سيشاركن ذريته مسؤولية أن يكونوا

للمتقين إماماً، ويرى كما) رأى إبراهيم عليه السلام أن هذه المرأة لا تصلح أن

تكون زوجة لنبي رسول يُعد لأن يسود ويقود ويربي أهله وأولاده والناس من حوله، فالزوجة التي تطيل الشكوى، وتكثر التبرم لا يمكنها أن تكون عوناً لزوجها على

المهمات الكبار التي يُعد لها [14] .

أما بالنسبة للمجال الدعوي، فهي القضية نفسها بالنسبة للداعية، فإذا أدرك

مهمته والدور الملقى على عاتقه، فإن من فقه الطريق أن يهتم ببناء العلاقة القوية

داخل الصف التي لا تقوم حتى يدرك كل فرد دوره المطلوب، ثم يؤديه بفاعلية

ورغبة، وهذا بدوره لا يتم حتى تشيع روح البذل والعطاء الذي يرويه وينميه ماء

الثقة بين الأفراد.

ومن فقه المرحلية:

أولاً: أن يركز على (الشرط النوعي) ، بأن يدقق في اختيار نوعية أفراد كل مرحلة، ورجال كل مهمة، أولئك الرجال الذين يكثرون عند المغرم، ويقلون عند المغنم، أولئك الرجال الذين يطمعون في إنجاز معالي الأمور،) وهم الذين يبحث عنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال لجلسائه: تمنوا! فتمنى كل واحد أمنيته، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولكني أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة؛ إن سالماً كان شديداً في ذات الله ولو لم يخف الله ما أطاعه [15] .

نعم لا بد من الرجال، فمن استعان بصغار رجاله على كبار أعماله ضيع

العمل [16] ، فالأعمال الكبار يطلب لها كبار الرجال. قال رجل لعبد الله بن

عباس رضي الله عنه: أتيتك في حاجة صغيرة، قال: فاطلب لها رجلاً

صغيراً) [17] [18] .

فالطريق طويل، والسفر موحش، والكيد الشيطاني منظم ومركب، ولا

يطيق التحدي إلا الرواحل، تلك النوعية المنشودة، والعملة النادرة، (إنما الناس

كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) [19] .

إيجابية منضبطة:

المؤمنون ستار لقدر الله: [وَإذْ بَوَّاًنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي

شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاًتُوكَ

رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاًتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ

اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ

الفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ]

[الحج: 26- 29] .

بتوجيه منه - سبحانه - وبإعانة وتوفيق إلهي كانت البداية، وكان التكليف،

بأن ينشأ هذا البيت على يد إبراهيم عليه السلام، حيث عرَّفه الحق - سبحانه -

مكانه، كما ورد في بعض الروايات عن طريق جبريل عليه السلام وملكه أمره

ليقيمه على أساس قاعدة التوحيد، فيكون خالصاً له - سبحانه - وحده، وأن يجهزه

تجهيزاً خاصاً، بأن يطهره من الشرك، وأن يجعله للناس جميعاً، لكل الناس،

سواء المقيم فيه والطارئ عليه، فيخصص للطائفين به والقائمين لله فيه.

ثم أمره بعد ذلك أن ينادي في الناس بالحج وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام،

ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيأتوا من كل طريق بعيد، مشاة على أرجلهم،

وركوباً على كل بعير مهرول من بعد المشقة.

وما زال وعد الله يتحقق إلى اليوم والغد. وما تزال أفئدة من الناس تهوي إليه، تلبية لدعوته عليه السلام منذ آلاف الأعوام.

ونستطيع أن نستشف هذا التفاعل من الآتي: أنه - سبحانه - أوحى إلى

إبراهيم عليه السلام أن يسكن ذريته في هذا المكان القريب من البيت الحرام بالذات، فقام الخليل عليه السلام بنقل هاجر وابنها بجهده البشري.

ثم أراد الحق - سبحانه - أن يعمر هذا المكان بالبشر فكان جهاد هاجر من

أجل الماء، ثم تفجر ماء زمزم.

ثم أراد الحق - جل وعلا - أن يُعد هذه الأسرة لمهمة عظيمة، يتوارث

آثارها الأجيال، فكان تفقد إبراهيم عليه السلام لأسرته، وأمره ولده أن يعيد اختيار

الزوجة التي ستشاركهم، هذا العمل الكبير.

ثم أراد - سبحانه - أن يُبنى البيت، فدل إبراهيم عليه السلام على مكانه،

فقام الخليل وإسماعيل - عليهما السلام - بالبناء.

وعندما أراد الحق - سبحانه - إعمار هذا البيت أمر إبراهيم عليه السلام أن

يقوم بدوره فيؤذن، وينادي في الناس، ويدعوهم. ووعده الحق - سبحانه - أن

الناس من كل مكان وفي كل عصر سيلبون ذلك النداء الجليل. لذا يتبين لنا أن

إرادة الله - عز وجل - لتحقيق عمل ما تقوم على دعامتين أساسيتين ومتلازمتين:

1- المدد الإلهي.

2- الجهد البشري.

لأن (الله - سبحانه - يساعد من يجاهد للهدى: [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا] [العنكبوت: 69] ، وأنه يغيير حال الناس حين يغيرون ما بأنفسهم، وأنه لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم: [إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى

يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] ، وأن هناك علاقة بين الجهد البشري الذي

يبذله الناس، وعون الله ومدده الذي يسعفهم به، فيبلغون به ما يجاهدون فيه من

الخير والصلاح والفلاح، وأن إرادة الله هي الفاعلة في النهاية، وبدونها لا يبلغ

الإنسان بذاته شيئاً، ولكن هذه الإرادة تعين من يعرف طريقها، ويستمد عونها

ويجاهد في الله ليبلغ رضاه. وقدر الله - مع هذا كله - هو الذي يحيط بالناس

والأحداث، وهو الذي يتم وفقه ما يتم من ابتلاء، ومن خير يصيبه الناجحون في

هذا الابتلاء) [20] .

فتدبر دور قدر الله - سبحانه - في ناموس التغيير التاريخي، والتحول

الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر؛ بل يضبط حركته الإيجابية، فيتوافق

ويتناغم معه.

ركيزة التجميع:

الاهتمام بدور الإرادة الربانية: لقد أمر الحق - سبحانه - الخليل عليه السلام

أن يحدد الغاية المرادة من إقامة هذا البيت: [أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ

لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] [الحج: 26] ، [وعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ

وإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ] [البقرة: 125] .

أي أن يقوم هذا العمل العظيم الخالد على التوحيد الخالص، فيبنى البيت

الحرام على اسمه - تعالى - وحده، وأن يُطهر من الشرك بلا إله إلا الله، ويكون

خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، أولئك الذين يأتون من غربة،

والمقيمون فيه، والمصلون.

من هذه اللمحة التاريخية، نعلم أن القضية العظيمة التي أرادها الحق -

سبحانه - وذلك بعد أن بين مكان البيت باعتبارها نقطة انطلاق هي توحيده -

سبحانه-..

فالتوحيد هو الأمر الرباني، الذي من شأنه أن يجمع البشر، كل البشر،

ويوحد الناس، كل الناس.

كانت البداية هي أن تنبعث تلك الفكرة العظيمة، من قلب رجل عظيم،

فيتحرك بها، ويحرك بها غيره.

وهذه هي سنة الله - عز وجل - في نشوء الأعمال العظيمة، بل وفي بناء

الحضارات الإنسانية.

وهو دور الفكرة، والمنهج في التغيير الحضاري، وناموس الحركة التاريخية.

فالأفكار لها أهميتها، ووظيفتها الحتمية في بناء الحضارة الإنسانية.

وذلك لأن) أية أمة من الأمم لا بد أن تنطلق في دربها الحضاري من

مجموعة من الأفكار، وسلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة

العملية لما يؤمنون به من أفكار، ولهذا السبب نجد أن المجتمعات تسمو وتنمو أو

تنحط أو تبيد تبعاً لطبيعة الأفكار التي يعتنقها أبناؤها، والفكرة لا بد لها - لكي

تفعل فعلها - من جهد بشري مكافئ يترجمها إلى فعل. ولا بد من عامل ثالث مكمل

لهما، وهو أن تكون الفكرة قابلة للتنفيذ العملي، أي أن تكون موافقة لسنة أو قانون

من السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق [21] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015