مجله البيان (صفحة 3091)

دراسات تربوية

محاسبة النفس ضرورة مُلِحّة

عبد الله محمد العسكر

النفس بطبيعتها كثيرة التقلّب والتلوّن، تؤثر فيها المؤثّرات، وتعصف بها

الأهواء والأدواء، فتجنح لها وتنقاد إليها، وهي في الأصل تسير بالعبد إلى الشرّ

كما قال تعالى: [إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] [يوسف: 53] ، ولذا؛ فإن لها خطراً عظيماً على المرء إذا لم يستوقفها عند حدّها ويلجمها بلجام التقوى

والخوف من الله، ويأطرها على الحق أطراً. قال لقمان الحكيم لابنه: (يا بنيّ:

إن الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفسَ حرون؛ فإن فتر سائقها ضلّت عن

الطريق، وإن فتر قائدها حرنت، فإذا اجتمعا استقامت. إنّ النفس إذا أُطمعت

طمعت، وإذا فوّضْت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت

الأمر إليها فسدت؛ فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة

له فيها، ولا بُدّ له منها. وإنّ الحكيم يذلّ نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإنّ

الأحمق يخيّر نفسه في الأخلاق: فما أحبّت منها أحبّ وما كرهت منها كره) [1] .

ومن هنا كان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه،

وأن يجلس معها جلسات طِوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع

فيها، ويعزم على استدراك ما فات ويشحذ همّته لسفره الطويل إلى الله تبارك

وتعالى.

أولاً: معنى المحاسبة:

قال الماوردي في معنى المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من

أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً

استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل) [2] . وقال ابن القيم رحمه الله:

(هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه؛

لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود) [3] .

وأما الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل

الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما

يترك، فإن تبيّن له ما كره الله عز وجل جانبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه

عمّا كرهه الله عز وجل ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى

أدائه) [4] .

ثانياً: أهمية محاسبة النفس:

لمحاسبة النفس فوائد متعدّدة نذكر منها ما يلي:

1 - الاطلاع على عيوب النفس ونقائصها ومثالبها، ومن ثمّ؛ إعطاؤها

مكانتها الحقيقية إن جنحت إلى الكبر والتغطرس. ولا شك أن معرفة العبد لقدر

نفسه يورثه تذلّلاً لله فلا يُدِلّ بعمله مهما عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. قال

أبو الدرداء: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشدّ لها مقتاً) [5] .

2 - أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما

يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكون ذلك رادعاً له عن فعل كل

مشين وقبيح؛ وعند ذلك يعلم أن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته،

ويتيقّن أنه من حقّه سبحانه أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر

فلا يُكفر.

3 - تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمْر الله تعالى. قال تعالى:

[قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (?) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا] [الشمس: 9، 10] ، وقال مالك

بن دينار: (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم

ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [6] .

4 - (أنها تربّي عند الإنسان الضمير داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور

بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هو ميزان الشرع) [7] . حكى

الغزالي في (الإحياء) أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال لعائشة رضي الله عنها عند

الموت: (ما أحدٌ من الناس أحبّ إليّ من عمر) ثم قال لها: (كيف قلتُ؟) فأعادت

عليه ما قال، فقال: (ما أحدٌ أعزّ عليّ من عمر) ! ! يقول الغزالي: (فانظر كيف

نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبّرها وأبدلها بكلمة غيرها) [8] .

ثالثاً: فضل المحاسبة والآثار الواردة في ذلك:

قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ

وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] [الحشر: 18] ، قال صاحب الظّلال: (وهو

تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه، ومجرّد خطوره على القلب يفتح

أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمدّ ببصره في سطورها كلّها يتأمّلها،

وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته لينظر ماذا قدّم لغده في هذه الصفحة.

وهذا التأمّل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير

مهما يكنْ قد أسلف من خير وبذل من جهد؛ فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً

ورصيده من البرّ ضئيلاً؟ ! إنها لمسةٌ لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكفّ عن

النظر والتقليب) [9] .

وقال تعالى: [وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] [القيامة: 2] يقول الفرّاء: (ليس

من نفسٍ برّةٍ ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت: هلاّ

ازددتِ، وإن عملت شرّاً قالت: (ليتني لم أفعل) [10] ، وقال الحسن في تفسير

هذه الآية: (لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ

بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه) [11] .

ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الزلّة

والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه: [إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ

تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ] . [الأعراف: 201] .

قال الفاروق عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها

قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ]

[الحاقة: 18] ) [12] .

ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: (المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله،

وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم

القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [13] . ويقول ميمون بن مهران: (إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه) [14] .

ويحذّر ابن القيم رحمه الله من إهمال محاسبة النفس فيقول: (أضرّ ما على

المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن

هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب،

ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا

فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها) [15] .

ولنستمع إلى هذه الكلمات الجميلة لأبي حامد الغزالي في (الإحياء) وهو يصف

أرباب القلوب المنيبة وذوي البصائر الحيّة فيقول: (فَعَرف أربابُ البصائر من

جملة العباد أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقشون في الحساب ويُطالبون

بمثاقيل الذرّ من الخطرات واللحظات، وتحقّقوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطاء إلا

لزوم المحاسبة وصدقُ المراقبة ومطالبةُ النّفْس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتُها

في الخطرات واللحظات. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خفّ في القيامة حسابُه، وحَضَرَ عند السؤال جوابُه، وحسُن منقلبُه ومآبُه. ومن لم يحاسب نفسَه دامت

حسراتُه، وطالت في عرصات القيامة وقفاتُه، وقادته إلى الخزي والمقت

سيئاتُه) [16] .

وقال الحسن رحمه الله: (اقرعوا هذه الأنفس؛ فإنها طُلَعَة [17] ، وإنها

تنازع إلى شرّ غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبقِ لكم من أعمالكم شيئاً، فتصبّروا

وتشدّدوا؛ فإنّما هي أيّام تُعدّ، وإنما أنتم ركبٌ وقوف يوشك أن يُدعى أحدكم فلا

يجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [18] .

رابعاً: كيفية المحاسبة:

في الحقيقة ليس هناك وسيلة محدّدة ذات خطوات وأساليب منضبطة في كيفية

محاسبة النفس؛ وذلك لأن النفوس البشرية متباينة الطبائع والسجايا؛ لكنّ هناك

أُطُراً عامة وخطوطاً عريضة يمكن الإشارة إليها والاستفادة منها في هذا الموضوع.

والأمر الذي يجب أن يفقهه كل مسلم ومسلمة أنه لا بد من الجدّية في المحاسبة

والحرص الشديد على أخذ النتائج والقرارات التي يُتوصّل إليها بعد ذلك بمأخذ

العزيمة والجدّ. قال الغزالي: (اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل

النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر

النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل

التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم حرصاً منهم على

الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ... فكيف

لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟ ! ما هذه

المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك) [19] ، ثم بيّن

رحمه الله أن المحاسبة تكون على نوعين:

النوع الأول: محاسبة قبل العمل، وهي: أن يقف عند أوّل همّه وإرادته،

ولا يبادر بالعمل حتى يتبيّن له رجحانه على تركه. قال الدكتور عمر الأشقر:

(ينظر في همّه وقصده؛ فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكّن من القلب سهل

عليه دفعُها ... فالخطرة النفسيّة والهمّ القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس،

والوسوسة تصير إرادة، والإرادة الجازمة لا بد أن تكون فعلاً. قال الحسن: كان

أحدهم إذا أراد أن يتصدّق بصدقة تثبّت؛ فإن كانت لله أمضاها، وإن كانت لغيره

توقّف) [20] . وشرح بعضهم قول الحسن فقال: (إذا تحرّكت النفس لعملٍ من

الأعمال وهمّ به العبد وقف أولاً ونظر: هل ذلك العمل مقدور عليه أو غير مقدور

عليه؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة

أخرى ونظر: هل فِعلُه خير له من تركه، أم تركُه خير له من فعلِه؟ فإن كان

الخير في تَرْكه تَرَكَه، وإن كان الأوّل وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه

إرادة وجه الله عز وجل وثوابُه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان

الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفسُ الشركَ ويخفّ

عليها العمل لغير الله؛ فبقدر ما يخفّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى حتى

يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأوّل وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو مُعَانٌ

عليه وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا؟ فإن لم

يكن له أعوان أمسك عنه، كما أمسك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن الجهاد بمكة

حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معاناً عليه فليُقدم عليه فإنه منصورٌ بإذن

الله) [21] .

النوع الثاني: المحاسبة بعد العمل وهي على أقسام ثلاثة:

محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى وذلك يكون بأن يديم

سؤاله نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما

جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإن كان مقصّراً وأيّنا يسلم من ذلك؟

فليسدّ الخلل بالنوافل فإنها تُرقّع النقص في الفريضة وتربي لدى العبد جانب العبادة، وبالمجاهدة وكثرة اللّوم يخفّ التقصير في الطاعات إلى درجة كبيرة.

ب - محاسبتها على معصية ارتكبتها: قال ابن القيم في ذلك: (وبداية

المحاسبة أن تقايس بين نعمته - عز وجل - وجنايتك؛ فحينئذٍ يظهر لك التفاوت،

وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمتُه أو الهلاكُ والعطب. وبهذه المقايسة تعلم أنّ الرّب

ربّ والعبدَ عبد، ويتبيّن لك حقيقةُ النفس وصفاتُها وعظمةُ جلال الربوبّية وتفرّدُ

الربّ بالكمال والإفضال، وأنّ كل نعمة منه فضل وكلّ نقمة منه عدل ... فإذا

قايست ظهر لك أنها منبع كلّ شرّ وأساس كلّ نقص وأنّ حدّها: [انها] الجاهلةُ

الظالمةُ، وأنّه لولا فضل الله ورحمتُه بتزكيته لها ما زكت أبداً. ولولا إرشاده

وتوفيقه لما كان لها وصولٌ إلى خير البتة؛ فهناك تقول حقاً: أبوء بنعمتك عليّ

وأبوء بذنبي) [22] .

وبعد أن يحاسب نفسه هذه المحاسبة ويجلس معها هذه الجلسة المطوّلة فإنه

ينتقل إلى الثمرة والنتيجة ألا وهي العمل على تكفير تلك المعصية، فيتدارك نفسه

بالتوبة النصوح وبالاستغفار والحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات. قال سبحانه:

[إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] [هود: 114] . فالبدارَ البدارَ

قبل أن يُختم لك بخاتمة سوء وأنت مُصِرّ على تلك المعصية ولم تتبْ منها. وتذكّر

الحشرَ والنّشر وهوْلَ جهنّم وما أعدّه الله للعصاة والفسقة من الأغلال والحديد

والزقوم والصديد في نارٍ قال كعبُ الأحبار عنها رضي الله عنه: (لو أنّه فُتح من

جهنّم قدرُ منخرِ ثور بالمشرق ورجلٌ بالمغرب لغلى دماغُه حتى يسيل من

حرّها) [23] أجارنا الله والمسلمين منها.

فبذلك السبيل وأشباهه من المحاسبة يكون المرء صادقاً في محاسبته نفسه على

ارتكاب المعصية والذنب ومن منّا يسلم من معاقرة الذنوب والخطايا؟ ! نسأل الله

اللطف والتخفيف.

ج - محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، أو على أمرٍ مباح، ما

سبب فعلِه له؟ فيُوجّه لنفسه أسئلة متكرّرة: لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في

تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك

من الأسئلة التي على هذه الشاكلة.

وأمّا المباح فينظر: هل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له

مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك

المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من تقليلها أو إضعاف روحها، أو كان

له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة؛ فكلّ هذه الأسئلة غايةٌ في الأهمية حتى يسير

العبد في طريقه إلى الله على بصيرة ونور.

أورد أبو نعيم بسنده عن الحسن قوله: (إنّ المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبُه

فيقول: واللهِ إنّي لأشتهيك، وإنّك لمن حاجتي؛ ولكن واللهِ ما من صلةٍ إليك،

هيهات! ! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء (يقع في الخطأ) فيرجع إلى نفسه

فيقول: ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ ما أردتُ إلى هذا، وما لي ولهذا؟ واللهِ

ما لي عذرٌ بها، وواللهِ لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله.

إن المؤمنين قومٌ أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في

الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ

عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك

كلّه) [24] .

وبالجملة؛ فلا بُدّ للمسلم من دوام محاسبة النفس، ومعاتبتها وتذكيرها كلّما

وقعت منها زلّة أو جنحت إلى حطام الدنيا الفاني.

ولننظر إلى أنموذج آخر في كيفية معاتبة النفس أورده أبو حامد الغزالي رحمه

الله حيث يقول: (وسبيلك أن تقبل عليها فتقول لها: يا نفس ما أعظم جهلك،

تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشدّ الناس غباوة وحمقاً! ! أما تتدبرين قوله

تعالى: [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ*مَا يَاًتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم

مُّحْدَثٍ إلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ... ] [الأنبياء: 1، 3] ويحك

يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراكِ فما أعظم كفرك!

وإن كان مع علم باطلاعه عليكِ فما أشدّ وقاحتك وأقلّ حياءك! ويحك يا نفس!! لو

كان الإيمان باللسان فلِمَ كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!! ويحك يا نفس

! لا ينبغي أن تغرّكِ الحياة الدنيا، ولا يغرّكِ بالله الغرور..فما أمرك بمهمّ لغيرك،

ولا تضيّعي أوقاتك؛ فالأنفاس معدودة، فإذا مضى عنكِ نَفَسٌ فقد مضى بعضُك.

ويحك يا نفس! أوَ ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟

اعملي يا نفس بقيّة عمرك في أيام قصار لأيّام طوال، وفي دار حزن ونصب لدار

نعيم وخلود) [25] .

خامساً: نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:

إنّ البحث والاستقصاء عن كلّ ما ورد من نماذج رائعة وصور مشرقة

لمحاسبة السلف الصالح لأنفسهم يتطلّب مجهوداً جبّاراً ووقتاً طويلاً؛ لأن أولئك

القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن

يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على

ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره إلا بخير. ولعلّنا نقتصر هنا على بعض النقولات العجْلى

عن أولئك النفر الكرام لعلّها تحرّك القلوب، وتشحذ النفوس وتربّي المسلم تربية

جادة قويّة.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله

عنه يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: عمر! !

أمير المؤمنين! ! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك) [26] .

وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون

فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل

حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما

ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. فقال عمر: إما أن تتركه لله

فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله

فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا ابن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله،

وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على

دفع الظلم فظلمتَه؟ ! ! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق

الناس عليه) [27] .

وقال إبراهيم التيمي: (مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من

أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من

صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي) [28] .

وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه:

يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ

كذا؟) [29] .

ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو

ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ

وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة

آلاف ذنب؟ ! ! ثم خرّ فإذا هو ميّت! ! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى

الفردوس الأعلى) [30] . يقول الغزالي معلّقاً على هذه القصّة: (فهكذا ينبغي أن

يحاسب (العبد) نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كلّ ساعة

. ولو رمى العبد بكلّ معصية حجراً في داره لامتلأت دارُه في مدة يسيرة قريبة من

عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك [أَحْصَاهُ

اللَّهُ وَنَسُوهُ ... ] [المجادلة: 6] [31] .

ويُحكى أن حسان بن أبي سنان مرّ بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟

ثم أقبل على نفسه، فقال: تسألين عمّا لا يَعْنيكِ؟ ! لأعاقبنّك بصيام سنة،

فصامها) [32] [33] .

وقال عبد الله بن قيس: كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس

فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه

ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟ ! ! فأطعتُك

ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟ ! ! فأطعتُكِ ورجعت!

واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته

فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا

(أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال

ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة) [34] .

وأخيراً:

نختم بفائدة مهمّة فيما يعين على المحاسبة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في

(مدارج السالكين) ؛ فقد ذكر أن ممّا يعين على المحاسبة: أن يكون المرء صادقاً في

محاسبته لنفسه. وتعتمد المحاسبة الصادقة على ثلاثة أسس: الاستنارة بنور الحكمة؛ وسوء الظنّ بالنفس، وتمييز النعمة من الفتنة.

فأمّا نور الحكمة؛ فهو العلم الذي يميّز به العبد بين الحقّ والباطل، وكلّما كان

حظّه من هذا النور أقوى كان حظّه من المحاسبة أكمل وأتمّ.

وأما سوء الظن بالنفس؛ فحتّى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ

والعيوب.

وأما تمييز النّعمة من الفتنة؛ فلأنه كم مُسْتَدْرَج بالنّعم وهو لا يشعر، مفتونٍ

بثناء الجهّال عليه، مغرورٍ بقضاء الله حوائجه وستره عليه! [35] .

حكى الذهبي عن المرّوذي قال: قلت لأبي عبد الله (يعني الإمام أحمد) : قدم

رجلٌ من طرسوس فقال: كنّا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم

بالدعاء لأبي عبد الله، وكنّا نمدّ المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله. وقد رُمي عنه

بحجرٍ والعلج على الحصن مُتَتَرّسٌ بدَرَقَته [36] فذهب برأسه والدّرقة! ! قال:

فتغيّر وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً) [37] .

وصلى الله وسلّم على محمدٍ وآله وصحبه وسلّم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015