الإسلام لعصرنا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
وقّع رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقية صلح الحديبية مع قريش بمكة ثم
قفل راجعاً مع أصحابه إلى المدينة، وبينما هم في الطريق إذ نزلت عليه صلى الله
عليه وسلم سورة الفتح: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] [الفتح: 1] .
سأله رجل مستغرباً: يا رسول الله، أوَ فتح هو؟
فأجابه صلى الله عليه وسلم مؤكداً: إي، والذي نفسي بيده إنه لفتح [1] .
لماذا سأل الرجل (وهو عمر) هذا السؤال مستغرباً؟
وأيّ فتحٍ كان فتح الحديبية؟
وهل فيه من عبرة لنا في أيامنا هذه؟
أما استغراب عمر فلأن الصلح في ظاهره لم يكن في مصلحة المسلمين؛ فهم
قد مُنعوا من أداء العمرة، ولم يقاتلوا، وكان في الصلح بنود ظنها بعض الصحابة
مجحفة بهم؛ منها: (على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته
إلينا) [2] .
وأما نوع الفتح فيفسره قول الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتح قبله كان أعظم
من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس. ولما كانت الهدنة، ووضعت
الحرب أوزارها، وأمن الناس كلّم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث
والمنازعة، ولم يُكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلا دخل فيه، ولقد دخل
في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر [3] .
قال ابن حجر مؤيداً الزهري: فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط
بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على
الإسلام، جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية [4] .
وقال ابن هشام أيضاً مؤيداً للزهري: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم
خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكة في عشرة
آلاف [5] .
نستخلص من كلام هؤلاء العلماء الثلاثة أن الفتح تمثل أساساً في كثرة عدد
من دخلوا في الإسلام بسبب الصلح.
ونستخلص منه أيضاً أن السبب في ذلك كان السلام الذي حل محل الحرب
والقتال، وأن هذا الجو السلمي أدى إلى أن يختلط الناس بعضهم ببعض من غير
نكير، وإلى أن يُسمِع المسلمون المشركين دعوة الإسلام، وأن يجادلوهم
ويناظروهم في جو آمن، وأن هذه الدعوة السلمية هي التي كانت سبباً في إقناع كل
العقلاء بالدخول في الإسلام.
ما مناسبة هذا لواقعنا؟
مناسبته أن الدعاة إذا وجدوا أنفسهم في حال كهذه الحال فينبغي عليهم أن
يحافظوا عليها، بل ينبغي عليهم أن يسعوا لأن تكون حالهم مع من يدعوهم مثل
هذه الحال، وأن يبينوا لهم بإخلاص أن القتال والعنف ليس هدفاً من أهدافهم، بل
إن كل ما يريدونه هو أن يُعْطَوْا حرية الدعوة إلى دين يرونه حقاً ويرون فيه
مصلحة للمدعوين دينية ودنيوية. وهم حين يفعلون هذا سيكونون مقتفين سنة نبيهم
صلى الله عليه وسلم، انظر إلى الكلمات الرقيقة الحازمة التي خاطب بها قريشاً،
والتي كانت من أسباب عقد الهدنة، قال لهم صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ
لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم؛ فإن
شاؤوا ماددناهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهرْ فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما
دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على
أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره) [6] .
يبدو لي أن الحال في كثير من البلاد الديمقراطية ولا سيما الغربية شبيه إلى
حد كبير بحال المسلمين مع المشركين في سنتي الهدنة، فهي حال يستطيع فيها
الدعاة الاختلاط بغير المسلمين، ودعوتهم ومجادلتهم؛ بل قد ثبت بالتجربة في بلد
كالولايات المتحدة أن عدد الداخلين في الإسلام في ازدياد مطرد بسبب هذا الجو
السلمي.
وعلى الدعاة في تلك البلاد إذن أن يحافظوا على هذا الجو السلمي حتى لو
كانوا في مثل قوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين عقدوا صلح الحديبية،
فكيف وهم في حال ضعف؟
إن أكثر ما يحرص عليه أعداء الإسلام في الغرب هو أن يصوروا المسلمين
على أنهم وحوش إرهابية لا غاية لها إلا تحطيم الحضارة الغربية، وقد استغلوا
وسائل الإعلام لإبراز هذه الصورة للمسلمين ونجحوا في ذلك إلى حد ما. ولا يفرح
هؤلاء بشيء فرحهم بتصريحات يطلقها إنسان أهوج يدعو فيها إلى العنف أو القتال
في داخل تلك البلاد؛ لأنها تصدق دعواهم تلك، وتساعد على تنفير الناس من
الدعاة المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن الذي يرى فيك خطراً على نفسه وأهله لن يستمع
إليك ولن يثق فيما تقول.
كنت في الولايات المتحدة أيام حادثة (أوكلاهوما) ولمست الذعر الذي عاشه
المسلمون ولا سيما رواد المساجد منهم حين طلع بعض أولئك الأعداء المُسَمّوْن
بالخبراء ليقول في بعض وسائل الإعلام: إن الفِعْلةَ فعلة مسلمين، ورأيت كيف
تنفسوا الصعداء حين تبين أن الجناة ليسوا من المسلمين.
وهذا أمر طبعي؛ فإن الأقلية المسلمة بين الكثرة الكافرة الحاكمة مستضعفة؛
فلا يناسبها أن تقاتلهم وهي تحت سلطانهم، وربما كان هذا هو السبب في نهي
المسلمين عن مقاتلة الكفار حين كانوا بمكة. لقد أُمروا آنذاك بأن يكفوا أيديهم
ويقيموا الصلاة، فلما هاجروا وتميزوا وصارت لهم أرضهم أُذن لهم في القتال ثم
أُمروا به.
ومما يوجب الحرص على هذا الجو السلمي المساعد على نشر الإسلام في
الغرب أنه في تقديري لن يدوم. إن الدول الديمقراطية تبيح الحرية ما دام
المخالفون أقلية لا خطر منها على العلمانية، أما إذا نما عددهم ورأوا فيه تهديداً
للنظام العلماني فإنهم قطعاً سيضحون بالديمقراطية من أجل المحافظة على العلمانية.
إنني أعلم أن هذا موضوع حساس من السهل أن يساء فهمه، فدعوني أؤكد
أنني لا أريد أن أقول ولا أن ألمح إلى أن كل معاهدة صلح فهي حديبية؛ بل إن
بعضها انهزامي لا يأتي بخير، ولا أريد كذلك أن أدعو إلى إلغاء الجهاد أو أدعو
إلى سلم مطلق مهما كانت الظروف. إن الإسلام دين واقعي ليس ولا يمكن أن
يكون استسلامياً لا مجال فيه لقتال. لكن الذي أريد أن أؤكده هو أن للقتال ظروفه
كما أن للسلم ظروفه، فإذا كفى الله المؤمنين القتال بحال سلم ينتشر فيها الإسلام
فمن الواجب اختيارها والمحافظة عليها والتركيز على الدعوة بالكلمة والقدوة. قال
تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ] [النحل: 125] .
قال الإمام القرطبي معلقاً على هذه الآية الكريمة: وقد قيل إن من أمكنت معه
هذه الأحوال من الكفار ورُجي إيمانه بها دون قتال فهي فيه محكمة. والله أعلم.
وهذا الذي قيل هو الصواب؛ لأن الغاية الأسمى التي ينشدها الداعية المسلم
هي أن يجعله الله سبباً لهداية الناس لا قتلهم؛ فها هو صلى الله عليه وسلم ينصح
علياً رضي الله عنه بقوله: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن
يكون لك حمر النعم) [7] . قال له صلى الله عليه وسلم ذلك وقد أعطاه الراية
موجهاً إيّاه إلى خيبر ليبيّن أن القتال ليس شيئاً مرغوباً في ذاته؛ لكنه قد يكون
وسيلة لا مندوحة عنها لرد الظلم، سواء كان ظلماً واقعاً على بشر، أو ظلماً متمثلاً
في الوقوف في طريق إيصال الدعوة إلى الناس، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك؛ بل كان
هنالك استعداد للاستماع والمجادلة والمناظرة فلا يلجأ إلى القتال، ولا سيما في
ظروف كتلك التي يكون فيها الدعاة تحت سلطان الكفار.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.