اقتصاديات
د. زيد محمد الرماني
يتم في أغلب الأحوال تناول العولمة باعتبارها ظاهرة اقتصادية، تتحدد
خصائصها في بروز الأسواق العالمية للسلع ورؤوس الأموال وفي إيجاد نظم
الإنتاج المدمجة. لكن العولمة تتطلب وجود عناصر مجتمعة أكثر شمولاً حتى لا
تقتصر على البعد الاقتصادي وحده.
فالعولمة تعمل على انتقال الأفكار والمعلومات والأمراض والمشكلات
الاجتماعية؛ لكن أثرها الحاكم يتمثل في كونها تعمل على إنتاج الهويات
والمؤسسات العابرة للحدود.
وبشكل عام، فإن عملية العولمة تقدّم المظاهر نفسها في المكان الذي تتبدّى
فيه؛ بما أنّ كوكب الأرض ليس (كلاّ) واحداً كما يريد لنا بعض المنظّرين
والمفكرين أن نتصور.
ومع ذلك، لم تعمل العولمة على إيجاد عالم موحّد؛ فهي ليست مرادفاً لتعبير
(عالم واحد) بل هي تتّجه أكثر فأكثر إلى إيجاد نظام متشابك لعوالم متصلة: أي
مرتبطة فيما بينها.
وبالشكل نفسه؛ فالعولمة الثقافية لا تنتج ثقافة عالمية، ولكنها تنتج كوكباً
تختلط فيه الثقافات، وتتعايش أو تتصارع.
وفي المقابل، نجد الشيء نفسه بالنسبة للإنترنت؛ فشبكة الاتصالات العالمية
عملت على توالد أسواق (الغش) ، وأسواق الجماعات الصغيرة.
فلم تعد العولمة بناء على ما سبق تحدّياً اقتصادياً أو سياسياً أو تقنياً فحسب،
ولكنها تمثل بالإضافة إلى ذلك تحدياً للفكر الإنساني عامة إضافة إلى أنها تحدّ للتعلم
والتربية والثقافة والفكر. وعليه؛ فإن من واجبات النظرية التربوية أن تلتفت
باهتمام إلى آثار العولمة على تلك الجوانب الفكرية الإنسانية.
ومن ثم، يجب ألاّ نتخيّل العولمة على أنها لعبة نتيجتها إيجابية بالقطع؛
فالسوق العالمية لا تمحو الفوارق بين الدول، وتفاعل البلدان المختلفة لا يأتي
بالضرورة بالسلام؛ فهي تعني أنه في حالة المنافسة، لن يكون هناك منتصر
حقيقي.
ولا يتردد بعض المفكرين في النظر إلى العولمة باعتبارها نوعاً من النهضة.
يقول (جورج تادونكي) : أحد الجوانب الأكثر ظهوراً للعولمة هي سرعة انتشار
النماذج الثقافية الخارجية التي عملت على نقل المظاهر الديمقراطية.
وعلى الرغم من (الثورة المعاصرة) في المواصلات والاتصالات، والتقدم
المحسوس الذي أحرزته عملية تحرير التجارة العالمية على مدى العقود الثلاثة
المنصرمة؛ فإن الاقتصاديات الوطنية لا تزال معزولة بعضها عن بعض بدرجة
كبيرة، وتتضمن هذه العزلة حقيقة مهمة أكّدها الباحث الاقتصادي (بول كروجمان) ، وهي أن العولمة ليست السبب فيما تعانيه غالبية الحكومات في الغرب الصناعي
المتقدم من متاعب ومشكلات، بالقدر الذي يتصوره الناس عموماً. يقول (داني
رودريك) : إنّ الفرضية القائلة: إن الاقتصادات المحلية أصبحت غارقة في سوق
عالمية موحدة عديمة الملامح هي فرضية غير صحيحة.
كما أن المخاوف المثارة من جراء سياسات العولمة بدت في الظهور العلني
أكثر فأكثر، فبينما تزيد العولمةُ الطلبَ على الإنفاق الاجتماعي فإنها (أي العولمة)
تتسبب في الوقت نفسه في الحد من قدرة الحكومات على التجاوب الفعال مع هذا
الطلب، ويترتب على ذلك أنه: كلما تعمقت العولمة تآكل الإنفاق الاجتماعي
المطلوب للإبقاء على الأسواق المحلية مفتوحة أمام التجارة العالمية.
ومن ثم، فإن السؤال المطروح هو: كيف يمكن تخفيف التوتر بين العولمة
من جانب، والضغوط المبذولة لتقليل المخاطر من جانب آخر؟ ذلك أنه إذا غفلنا
عن إدراك الدور الحيوي الذي لعبه الإنفاق الاجتماعي في التوسع التجاري،
وتُركت شبكات الرعاية الاجتماعية لتذوي، فإن ذلك سيؤدي إلى تآكل الإنفاق
المحلي المحبّذ للأسواق المفتوحة.
إن التوترات التي يمكن أن تحدثها العولمة استمرار لتوترات حقيقية؛ بيد أنها
توترات دقيقة، والمصطلحات المتداولة في النقاش الدائر حولها لا تساعد كثيراً
على فهمها؛ فعبارات مثل: (مناقشة الأجور المنخفضة) و (تمهيد ساحة اللعب)
و (السباق نحو القاع) ليست إلا عباراتٍ مضللة، غالباً ما تتسبب في أن يُسيء الناس
فهم القضايا الحقيقية.
إن الحاجة ماسة إلى لغة نقاش أكثر ذكاء وأقدر على التعبير عن الاختلافات
وعن المعاني التي لا تزال غير واضحة. جاء في كتاب (عالم واحد جاهز أم غير
جاهز المنطق السحري للرأسمالية العالمية) لمؤلفه (وليم جريدر) : إن التوسع
العالمي للأسواق يضعف التماسك والترابط الاجتماعي، ويفضي إلى أزمة اقتصادية
وسياسية كبرى) .
ومع ذلك، يجب ألا نفزع من العولمة، كما يجب ألا نأخذها مسلّمة؛ فالعولمة
تفتح آفاقاً وتتيح فرصاً لأصحاب المهارات والمؤهلات لتمكنهم من الحركة
والازدهار في الأسواق العالمية، وكذلك يمكن أن تساعد العولمة الدول الفقيرة على
الإفلات من قبضة الفقر.
بَيْدَ أن للعولمة من الجانب الآخر ضغوطاً لخفض أجور العمال غير الفنيين
في الدول الصناعية المتقدمة، وتفاقم الإحساس بتناقص الأمان الاقتصادي؛ إذ
تُعرّض أشكالاً من النظم المجتمعية للخطر، وتضعف مظلات الضمان الاجتماعي.
إن أسباباً وجيهة تدعو إلى القلق من مستوى الجدل الدائر حول العولمة:
فالمحبذون للتوحد العالمي يقفون ضد خصوم العولمة باعتبارهم حِمائيين أي: من
دعاة رفع الضرائب على الواردات لحماية الإنتاج المحلي، ولا يفهمون مبدأ الميزة
التفاضلية وقوانين التجارة ومؤسساتها؛ بينما يعمد منتقدو العولمة من الجانب الآخر
إلى اتهام الاقتصاديين وخبراء التجارة بضيق الأفق التكنوقراطي، ويرون أن
الخبراء الاقتصاديين مفتونون بالنماذج الاقتصادية الغربية التي يبتدعونها، ولا
يجيدون التعامل مع الحركة الواقعية للعالم.
وحصيلة الجدل لا تعدو أن تكون كثيراً من المشادات العدائية، وقليلاً مما
يمكن أن يتعلمه أحد من كلا الجانبين.
وسيستمر الجدل حول (العولمة) وستبحث أسئلة عديدة عن إجابات سديدة من
مثل: هل العولمة كما يعتقد غالبية الباحثين الاقتصاديين وكثير من صانعي
السياسات هل هي مصدر للنمو والازدهار الاقتصادي؟ أم هي خطر على
الاستقرار الاجتماعي والنظام البيئي؟ وهل حققت العولمة تقدماً كبيراً إلى الدرجة
التي أصبحت فيها الدول الوطنية عاجزة بالفعل عن ترتيب شؤونها الاقتصادية
واستخدام أدواتها السياسية لدعم برامجها الاجتماعية؟ وهل نقل الأنشطة الصناعية
إلى بلاد العمالة الرخيصة يتسبب في إضعاف القوة الشرائية العالمية، ومن ثم يُوجِد
فائضاً سلعياً يمتد من السيارات إلى الطائرات؟
وختاماً أقول: رغم ما قيل قديماً ويقال حديثاً وسيقال مستقبلاً؛ فإن العولمة
ربما لا تكون إلا إحدى المصطلحات عالمية الرنين التي ليس لها كل النتائج
المرجوة منها.