ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
الإيجابيات.. والسلبيات
د. عثمان جمعة ضميرية
الحمد لله الذي اصطفى من عباده خلقاً أورثهم الكتاب، وأمرهم بأن يقولوا
الحقّ، وأن يقوموا بالحق والعدل والقسط. وبعد:
فقد كانت الكلمة الأولى التي أُنزلت وحياً على نبينا محمد -صلى الله عليه
وسلم- في آخر اتصال للسماء بالأرض هي كلمة (اقًرأً) : [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي
خَلَقَ (?) خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (?) اقْرَاً وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (?) الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ]
[العلق: 1-4] . ثم تتابعت الآيات القرآنية الكريمة نزولاً، ترسم للمسلمين معالم المنهج الذي يسيرون عليه: عقيدةً، وعبادةً، وسلوكاً، وأصولَ نظرٍ واستدلالٍ؛ فكان لذلك كله أثره البالغ في تهيئة المناخ لنشوء المنهج العلمي الذي يقوم على التثبّت والدقّة في الرواية والنقل، بالنسبة للمرويّات والأخبار، وعلى الحجة والدليل الواضح الصحيح في العقليّات، وعلى التجربة والبرهان والنظر في الحسيّات.
ثم أقام المسلمون انطلاقاً من هذا عِلْماً قائماً برأسه لنقد المرويات: سنداً ومتناً، وهو عِلْمٌ انفردت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، باعتراف المنصفين وغير
المنصفين من غير المسلمين، بَلْهَ المسلمين أنفسهم من غير أهل هذا الفن والعلم،
ويعود هذا إلى الأيام الأولى لرواية الحديث النبوي وأخبار السيرة والمغازي؛
فكثيراً ما نجد في الرواية تأكيداً للسماع والنظر من الراوي نفسه؛ حيث يقول مثلاً: (سَمِعَتْه أذناي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ... ) أو (سَمْعَ أذنيّ ... )
فهو مُتثبّت غاية التثبت، فلا تظننّ أنه ينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- ما لم يَقُل، أو لا يتبادرنّ إلى ذهنك أنه وهم أو أخطأ في النقل أو السماع.. وهذا قمةٌ في تحرّي النص، والمجيءِ باللفظ؛ تحقيقاً لأمانة النقل، والوقوف
على اللفظ الأصلي.
وبعد أن كانت الرواية الشفوية هي الوسيلة الغالبة السائدة في نقل العلم، في
عصر الرسالة وصدر الدولة الأولى، فإن الحضارة الإسلامية كغيرها من
الحضارات كانت تقوم على الكلمة المكتوبة؛ فقد بدأ التدوين في عهد النبي -صلى
الله عليه وسلم- ثم في عهد الصحابة والتابعين، واتّسع في عهد بني أمية، وتلاه
التصنيف في عهد بني العباس، وهو عصر ازدهار الثقافة والعلم بكل فروعه،
حتى وصفه بعضهم بأنه (عصر النهضة في الإسلام) .
وقد أَلمْعَ الإمام الذهبيّ رحمه الله إلى الأصول الأولى في التدوين والتصنيف،
بكلمة جامعة، عند حديثه عن أهم أحداث سنة (143هـ) في كتابه (تاريخ الإسلام) ، ...
قال فيها: (شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير؛
فصنّف ابن جُرَيْج التصانيف بمكة، ومالكٌ (الموطأ) بالمدينة، والأَوْزَاعيّ بالشام،
وابن أبي عَرُوبة وحمّاد بن سَلَمة وغيرهما بالبصرة، ومَعْمَر بن راشد باليمن،
وصنّف أبو حنيفة الفقه والرأي ... وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حِفْظهم، أو يَرْوُون العلم من صحف صحيحة غير مرتّبة، فَسَهُلَ ولله الحمد تناول العلم،
وأخذ الحفظ يتناقص. ولله الأمر كلّه) .
وعندما انتشر تدوين العلم وتبويبه، واستقلّت علومٌ عن غيرها، برزت عندئذ
معالم منهج التثبت والدقة في طرق تحمل العلم وأدائه، في كل علم بحسب
موضوعه ومنهجه؛ فكان مثلاً من أهم وسائل هذا التثبت: مقابلة الكتاب بأصلٍ
صحيحٍ موثوقٍ به؛ فالمقابلة الدقيقة مُتعَيّنة للكتاب الذي يُرَام النفع به، وعلى هذا
تطابقتْ كلمة العلماء. والأمثلة على ذلك كثيرة تعزّ على الحصر، تجدها في كتب
مصطلح الحديث وآداب التعلم والرواية ...
وعندما يصحح الكتاب ويضبطه، وهو في محل شك عند مطالعته، أو تطرّق
احتمال يضع عندئذ فوق ذلك كلمة (صح) بخط صغير ... إلخ كما أن العلماء
وضعوا قواعد غاية في الأهمية والدقة لتصحيح النص؛ لأنهم كانوا يدركون صعوبة
هذا التصحيح وأهميته.
وتلك العصور السابقة التي وصفْنَا حال الرواية والكتابة فيها بعامة كانت
الكتب فيها تُكْتب وتُنْسخ باليد، فهي إذنْ عصور المخطوطات، وقد رَاجَتْ فيها
تجارة الكتب المخطوطة، إلا أن صعوبات كثيرة كانت تحدّ من وَفْرة النّسَخ للكتاب
الواحد، كما أن عوامل أخرى، تتصل بالحروب والفتن، كانت تزيد من صعوبة
الحصول على الكتب المخطوطة وانتشارها انتشاراً كبيراً، إلى أن ظهرت الطباعة، فيسّرتْ هذا كله.
وكان ظهور المطبعة في القرن العاشر الهجري (الخامس عشر ميلادي) ،
عندما اخترع (جوتنبرغ) عام (1468م) أول حروف طباعة، ثم انتشرت الطباعة
في أوروبا بالحروف اللاتينية.
ولم تظهر حروف الطباعة العربية إلا يوم طبع كاهنٌ دومينيكي اسمه
(مارتان) عام (1486م) كتاباً بالحروف العربية بلغة غير عربية، بمدينة (مينز)
وفي القرن السادس عشر طبع الإنجيل عام (1591م) بمطبعة آل مديتش، وذلك
كله أيضاً في البلاد الأوروبية.
وعرفت الطباعة في تركيا، عندما أفتى شيخ الإسلام في تركيا بجواز
الطباعة في القرن الثامن عشر (1719م) . وعرفت لبنان الطباعة عام (1760م)
على يد عددٍ من الرهبان، ودخلت الطباعة دمشق مع جيش إبراهيم باشا، ودخلت
مصر عند الحملة الفرنسية، وأسّس محمد علي أول مطبعة في بولاق عام (1819م) ، ثم انتشرت في سائر الأقطار العربية.
وعندئذ بدأت المطبوعات تظهر إلى عالم الوجود، بصورة بطيئة، ثم
تطورت إلى ما نعرفه اليوم.
وقد بدأت عملية نشر التراث الإسلامي مطبوعاً في القرن الماضي، في الربع
الأخير منه، وكان المستشرقون قبل ذلك أول من سبق إلى ذلك، فقاموا بنشر
بعض المخطوطات العربية منذ وقت مبكر؛ ففي عام (1593م) نُشِر كتاب (النجاة)
لابن سينا، وفي عام (1636م) نشر كتاب (عجائب المقدور) لابن عربشاه، نشر
في ليدن، وكانت هذه النشرات السابقة بدايات للعمل، تعتمد على نسخة واحدة
للمخطوط، يعوزها كثير من الضبط وتقويم النص.
وفي مرحلة تالية لذلك، بدأ المستشرقون يضعون قواعد لتحقيق المخطوطات
ونشرها، وكان مما نشره المستشرقون: (شرح ديوان المفضليات) لابن الأنباري،
و (المنتخب من تاريخ حلب) لابن العديم، و (الفهرست) لابن النديم، و (معجم
البلدان) لياقوت، و (الكتاب) لسيبويه، وغيرها من الكتب الأمهات [1] .
ثم حذا علماء المسلمين المعاصرون حذو علماء الغرب في عملية تحقيق كتب
التراث ونشرها، وتصحيحها تصحيحاً دقيقاً، ضمن قواعد وأصول للتحقيق العلمي. وقد تفاوتت الجهود في ذلك تفاوتاً كبيراً، مما يجعل النظر في إيجابيات هذا
التحقيق وسلبياته أمراً ذا فائدة، بغية الإفادة من الصواب وتجنب الخطأ، وقياماً
بواجب النصيحة لهذا الدين، وحفاظاً على هذا التراث الذي تعتزّ به الأمة، ولذلك
نعقد فقرة سريعة لما نقصده بهذه الكلمة (التراث) ، قبل النظر في الإيجابيات
والسلبيات. وعلى الله قصد السبيل.
التراث والميراث والإرث، في اللغة العربية: هي أن يكون الشيءُ لقومٍ، ثم
يصير إلى آخرين، بنسب أو سبب. وهذا يشمل كل ما ينتقل إلى الآخرين من مالٍ
وعلمٍ ومجدٍ. وبهذه المعاني أيضاً جاءت هذه الكلمة في القرآن الكريم، وفي
الحديث النبوي الشريف.
وعلى هذا: فإن المراد بالتراث هو كل ما يتناقله الخلف عن السلف،
فيخلفونهم فيه خلافة جبرية، وقد يكون هذا التراث الموروث مادياً: مالاً أو غيره،
وقد يكون غير مادي، كالعلم ونحوه.
ونعني بالتراث هنا على وجه الخصوص: هذه الثروة الكبيرة الثمينة الغالية،
التي خلّفها لنا أسلافنا رحمهم الله في شتى مناحي العلوم الدينية في مؤلفاتهم وكتبهم
التي عُنِيَتْ بالعلم الشرعي؛ كالتفسير والحديث وعلومهما، والفقه والأصول،
والسيرة النبوية، وما يكون خادماً لهذه العلوم الشريفة، وبخاصة ما لا يزال منها
في عالم المخطوطات، وتتجه العناية اليوم إلى نشره وإشاعته، أو تجديد ما سبق
نشره منها [2] .
أما عملية التحقيق نفسها؛ فإنها تَعْنِي بَذْلَ عنايةٍ خاصّةٍ بالمخطوط، لتقديمه
صحيحاً، كما وضعه مؤلّفُه. وتكاد كلمة المحققين تُجْمع على أن الجهود التي تبذل
في كل مخطوط يجب أن يتناول البحث في: تحقيق عنوان الكتاب، ثم تحقيق اسم
المؤلف ونسبة الكتاب إلى صاحبه، ثم تحقيق متن الكتاب ونصه. ويسبق هذا أن
يقوم المحقق بجمع النسخ المخطوطة للكتاب من مظانّها، مستعيناً بفهارس المكتبات، وبالكتب التي عنيت بالتراث وتصنيفه، وبالدوريات المتخصصة ... ثم يدرس
هذه النسخ ويرتبها حسب الأهمية والأولوية ليختار منها ما يصلح للاعتماد عليه في
التحقيق كما هو مقرّر ومعروف في هذا العلم، ويقارن بين هذه النّسخ، ويضبط
النصّ أو ما يحتاج منه إلى ضبط، وقد يشرح الغامض فيه، ويعزو المنقول إلى
صاحبه.. وقد يناقش أو يصحح حسب الحاجة، ضمن قواعد مصطلح عليها.
وهذا يعني بالبداهة أن المحقق مؤهل للقيام بهذا العمل الدقيق الصعب، فلا يجوز
أن يقدم عليه إلا من لديه الكفاءة والقدرة.. وليس من غرض هذه الكلمات الموجزة
أن تأتي على كل ما ينبغي عمله في التحقيق وإخراج المخطوط، فإن ذلك يطلب
من مظانّه، وهي بحمد الله كثيرة مشتهرة [3] .
إيجابيات تحقيق التراث:
وفي تحقيق كتب التراث ونشرها بطريقة علمية، وَفْق أصول النشر الحديث
وضمن قواعد التحقيق، نجني جملةً من المكاسب والفوائد من أهمها:
1- حفاظ على تراث الأمة، وحفظٌ له من الضياع، أو الحفاظ على ما بقي
منه بعد أن عَدَتْ عليه العوادي والفتن وحوادث الدهر؛ وبذلك نصل ما بين ماضي
هذه الأمة وحاضرها؛ ونستفيد من هذا التراث الضخم في حَلّ كثير من مشكلات
العصر؛ لأن المشكلات التي تَشْغل بال الأمة، بل تشغل البشرية بأجمعها، هي
مشكلات في جوهرها وحقيقتها واحدة، وإن كانت تختلف أحياناً في مظهرها، أو
تختلف طريقة التفكير في حلّها.
2- تيسير الرجوع للكتاب والإفادة منه إفادة أكبر، حيث يزوّده المحقق بجملة
من الفهارس الكاشفة لمحتواه من فهارس للأبحاث، والمصطلحات، والأعلام،
والأماكن، والمصطلحات الحضارية، والقواعد والضوابط، وفهارس الشّعْر ...
وفهارس الآيات والأحاديث النبوية، والآثار المروية ... فيمكن عندئذ للقارئ أن
يصل إلى طَلِبَتِه بأيسر السّبُل وأقربها، فيوفّر بذلك جهداً ووقتاً ... فإذا أضفنا إلى
ذلك سهولة الرجوع إلى الكتاب المطبوع أكثر من الرجوع إليه والقراءة فيه
مخطوطاً؛ تضاعفت عندئذ الفائدة وتعاظمت؛ فطريقة استعمال المخطوط،
وصعوبة الحصول عليه في كل وقت، تقف عائقاً أمام الاستفادة الأمثل. وبذلك
تيسّر عمليةُ التحقيق القراءة والاطلاع، وتساهم في نشر العلم والثقافة على نطاق
أوسع.
3- وفي عملية التحقيق نستطيع أن نطمئن إلى صحة النص الذي نقرؤه،
وصحة نسبته إلى صاحبه؛ حيث يقوم المحقّق بدراسة تهدف إلى إثبات صحة نسبة
الكتاب لصاحبه، فيكون الكتاب بجملته صحيح النسبة، ثم يقارن ويوازن النسخ
المخطوطة للكتاب فيخرج لنا نصاً سليماً، لا يعتوره نقص ولا تحريف على قدر
الطاقة والوسع وتظهر أهمية هذه الفائدة عندما نقرأ في كتابٍ منشورٍ نشراً تجارياً،
دون تحقيق علمي؛ فتقف أمام كثير من عباراته غير المفهومة، لوجود سقط أو
خرمٍ فيها وتحريف، ويزول ذلك كله بمقابلة الكتاب بنسخة أخرى موثّقة.
4- كما أن تحقيق كتب التراث وسيلة لتيسير وتقريب فهم النصوص، بما
يكتنفها من شرحٍ للغامض المبهم، وضبطٍ للمهمل والمشكل، وترجمة للأعلام حسب
الحاجة وتعقيبٍ على بعض الآراء والأفكار، وتصحيح ما قد يظهر من أخطاء،
فيجعل الفائدة ميسورة التحقق للقارئ أكثر.
5- ومما يتصل بعملية التيسير والتقريب؛ تجدر الإشارة إلى أن طريقة
إخراج النص والعناية بفقراته، والاهتمام بعلامات الضبط والترقيم كالفاصلة،
والفاصلة المنقوطة، والنقطة، والنقطتين، وعلامات التعجب، والأقواس، وإشارة
الحصر أو المعترضتين.. كل ذلك يساعد القارئ على الفهم، ويشجع على متابعة
القراءة دون عناء، وإلا فإنه سيجد صعوبة كبيرة، ويضيع وقتاً ثميناً؛ فأنت تجد
في الكتب القديمة: فصلاً بين المبتدأ والخبر مثلاً أو بين الشرط وجوابه، قد
يتجاوز بضعة أسطر فيحتاج هذا إلى ضبط بالعلامات حتى لا تقرأ الكتاب كله وكأنه
فقرة واحدة ... فالحاجة شديدة لإخراج الكتاب بطريقة تساعد على تجاوز تلك
العقبات والمعوّقات. والتحقيق للكتاب كفيلٌ بذلك كله، إن شاء الله تعالى.
تلكم هي بعض الإيجابيات فيما أراها لتحقيق كتب التراث، وهي على غاية
من الأهمية تسوّغ ما ينفق من جهد في عملية التحقيق، فإن لم نحصل على هذه
الإيجابيات أو على معظمها، فإن عملية التحقيق قد تكون ناقصة، أو غير مستوية
على أصول صحيحة، ويمكن عندئذ أن نرصد جملة من الشوائب أو السلبيات
الظاهرة التي ينبغي أن نسعى جميعاً للتخلص منها.
ولبعض التحقيق سلبيات:
إن ما يتبدى لنا من ملاحظات وسلبيات في تحقيق كتب التراث يمكن أن
نجعله مندرجاً في أمور ثلاثة:
أولها: الانحراف عن الهدف الأساس الذي يتغيّاه المسلم من نشر العلم،
تدريساً وتأليفاً وتحقيقاً؛ ألا وهو القيام بواجب الطاعة والعبادة؛ فإن ذلك كله عبادة
يتقرّب بها المسلم إلى الله تعالى، يبتغي بها الأجر والمثوبة، قبل أن يطلب بها
عَرَضاً من الدنيا، أو أن يسعى من ورائها إلى شهرة أو تحقيق شهوة. والنصوص
الشرعية في ذلك كثيرة متضافرة.
وعن هذه القضية الكبرى، أو عند الانحراف عن هذه الغاية، أو نسيانها،
تظهر جملة من الانحرافات أو السلبيات، ثم تتراكم مع الزمن لتشكل خطراً على
تراثنا الإسلامي على ما سنلمع إليه بعد هذا الإجمال.
وثانيها: إغفال القواعد الضابطة التي اتفق عليها المحققون في نشر كتب
التراث، والاضطراب في مفهوم التحقيق والغاية منه؛ حيث تحوّل عند بعض
الذين يزعمون التحقيق، إلى شيء آخر، لا علاقة له بالتحقيق، وإنما هو شرح أو
حاشية أو تقريرات على الكتاب، أو عملية نفخ وعبث بالكتب وهذا أيضاً ترتب
عليه جملة أخرى من السلبيات والأخطاء.
والثالث: وهو مما له صلة بما سبقه؛ أن بعضهم تسوّر هذا العلم، وهو
خالي الوفاض، غير مُؤهّل له، لا يمتلك إلا شهوةً وهوىً يدفعانه للعمل، ولذلك
وقع في كثير من الأخطاء، واحتُسبت هذه الأخطاء على التحقيق وأهله، دون أن
يردع عنها دينٌ أو خُلُقٌ من الأمانة والحياء.
وهذه الملاحظات الإجمالية، يمكن أن نؤيدها بالإشارة إلى كثير من السلبيات
التي رصدها المعنيون بهذا التراث، أو رصدوا جملةً وافرة منها تشير إلى ما
وراءها، وإن كانت النية متجهة أصلاً إلى بيان الإيجابيات أكثر من بيان السلبيات، لكن لخطورة هذه الجوانب السلبية، ينبغي التنبيه والتحذير.
فمن هذه السلبيات التي كانت نتيجة الانحراف عن المنهج السليم في التحقيق:
1- عدم اتباع قواعده الضابطة له: أن نجد كتباً كثيرة يعوزها العناية أكثر
بالعمل، مثل ضبط الأعلام والأسماء التي لا تعرف إلا سماعاً، وبالرجوع إلى
الكتب المتخصصة بذلك، ومنها أيضاً: التوسع في التعليق والشرح، ونقل
نصوص كثيرة في الحواشي لأدنى مناسبة، وأحياناً دون مناسبة، مما يضخم حجم
الكتاب، وقد يجعله كالطبل الأجوف، وأحياناً على الضدّ من ذلك: تقرأ كتاباً يقع
في مجلداتٍ، لا تجد فيه تعليقاً، ولا تقع فيه على شرحٍ لمصطلح، أو عزو لآية،
أو تخريج لحديثٍ، أو نسبة بيت شعر لقائله. وقد يكون الكتاب كله سرداً واحداً من
أوله إلى آخره، لا تعرف فيه بدايةً لفقرةٍ أو فكرة أو مسألة.
2- تحقيق الكتاب عن نسخة واحدة، وقد تكون نسخة سقيمة، مع وجود نُسَخ
أخرى جيدة قيّمة تساعد على إخراج نصٍ كامل صحيح للكتاب. وعندئذ يقع المحقق
في كثير من الأخطاء، ويقف في كثير من المواضع لا يدري ماذا يصنع؛ لأنه
يرى السياق أمامه غير مترابط، وكأن فجوة كبيرة أمامه. ولا أريد أن أضرب
أمثلة على هذا من كتب كثيرة زعم بعضهم أنهم حقّقوها ... وهي تمتلئ بهذه
الملاحظات السابقة؛ لأن هذا المقال لا يهدف إلى التشهير بأحدٍ، أو التقليل من
الجهد، وإنما يهدف إلى رصد السلبيات والدلالة عليها بكلمات عامة؛ ولو اتجهنا
إلى ضرب الأمثلة، فإن الأمر جدّ ميسور، وهي كثيرة!
3- إغفال نشر الكتب الأصول في العلم، والأمهات في كل فن من الفنون
الشرعية والعربية ونحوها، والاهتمام بكتب تأتي في مرتبة تالية أو متأخرة، وقد
لا تضيف شيئاً ذا بال إلى المعرفة، ولو أهملناها إهمالاً تاماً لم نفقد شيئاً، بينما
كثير من الكتب النفيسة الأصيلة في العلم لا تزال تقبع في عالم النسيان؛ إما لأنها
كتب كبيرة يحتاج إخراجها وتحقيقها إلى جهدٍ أكبر، وإلى نفقات قد تكون باهظة
يعجز عنها الأفراد المعنيون بهذا التراث الحريصون عليه؛ أو لأنها ليست ذات
شهرة عريضة عند كثير من طلاب العلم أو المحققين مثلاً، فهي تحتاج إذن إلى من
يعرّف بها ويتحمل مسؤولية القيام بتحقيقها وإشاعتها، وإن كنا نجد في الآونة
الأخيرة عناية ببعض هذه الآثار واتجاهاً إليها، وبخاصة في الجامعات والمعاهد
والدراسات العليا، ونسأل الله تعالى أن يبارك في جهود العاملين، ويكتب لهم
التوفيق والسّداد.
4- إغفال نشر الكتب السهلة، الميسورة الفهم، التي يمكن الانتفاع بها على
نطاق واسع، والعناية بالكتب المعقدة أحياناً لغزارة مادتها، وقلة حجمها، فهي أشبه
ما تكون بالألغاز والأحاجي، أو على الأقل: قد تحتاج إلى وقت طويل وعناء كبير
كي تحلّ ألفاظها، وتعيد ضمائرها، وتفهم مراد مؤلفها. وإن كان هذا لا يعني أننا
ندعو دائماً إلى السهل حتى ولو كان قليل الفائدة، وننصرف عن الصعب مما فيه
فائدة؛ فقد يكون الكتاب الموجز، الصغير في حجمه، الجامع في مضمونه، قد
يكون هذا الكتاب عمدةً في علمٍ من العلوم ينبغي العناية به: حفظاً ودراسة وفهماً.
5- تلك الظاهرة التي عمّتْ كثيراً من الأقطار، والتي تتمثل في عملية خداع
وتدليس، بسلخ بعض الأبواب أو الفصول أو المباحث من كتابٍ كبير، ثم نشره
باسم جديد، يوهم بأنه تأليف مستقل، وفي هذا تغرير بالقارئ، وخطورة في عملية
التوثيق في البحث العلمي، وسَطْوٌ على جيوب القرّاء وأموالهم، يدفع إلى ذلك
جشعٌ وتهافت على الربح السريع من أقصر الطرق، دون نظر إلى حلالٍ أو حرام، ودون رقابة ذاتية أو غير ذاتية.
6- ومما يمكن أن نضيفه هنا من ملاحظات: تكرار العمل الواحد، دون
وجود ما يسوّغ ذلك؛ فتجد كتاباً أنفق فيه محقّقهُ جهداً كبيراً، ومالاً وفيراً،
للحصول على مخطوطاته وتصويرها، ثم حققه تحقيقاً يفي بالغرض، وبإخراج
جميل يتناسب مع أهميته. وبعد ذلك يأتي محقق آخر يزيد بضع كلمات أو جملة
من الحواشي التي لا داعي لها، ويخرج الكتاب من جديد دون عناء ولا تكاليف،
فهو يأخذ الكتاب السابق فيدفعه للمطبعة لتقوم بطباعته من جديد بحروف أصغر مثلاً
وبطريقة متعبة للقارئ. ولو كان لهذا العمل ما يسوّغه لكان ذلك محموداً، فمثلاً:
لو حصل المحقق على مخطوطة أجود أو مخطوطة كاملة لكتاب طبع عن مخطوطة
ناقصة أو مخرومة مثلاً ... لكان له في ذلك عذر واضح ولكن لا تجد شيئاً من هذا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
7- ومن أهم السلبيات في التحقيق والنشر: ما يتصل بالمضمون ونوع
الكتاب ومحتواه؛ فقد اتجه المستشرقون أولاً إلى نوعٍ من الكتب القديمة تمثل اتجاهاً
فكرياً منحرفاً، وعملوا على نشر هذه الكتب وتحقيقها لإشاعة الانحراف بين
المسلمين، وإحياء المذاهب والحركات البدعية والباطنية، وإثارة النعرات،
وتشكيك الناس بالعقيدة والتاريخ الإسلامي ورجاله العظماء، ولتكون هذه الكتب
مصدراً لتصيّد الأخطاء ثم تضخيمها بقصد التشويه والطعن، وتابع المستشرقين
على هذه الطريق نَفَرٌ ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين ويتكلمون بلغتهم.
وليس هذا كل ما يمكن أن يقال في هذا المجال، فهناك الشيء الكثير،
فحسبنا منه هذه اللمحات السريعة.
ولعل هذه الملاحظات، وكل ما يكتبه الغيورون، في هذا المجال، وهم أوْلى
مني وأقدر إن شاء الله لعل هذا كله يكون دافعاً للمعنيين لاتخاذ موقف قويّ سليم،
للحدّ من الظواهر السلبية، قياماً بالواجب، ونصحاً للأمة والملّة؛ فإن العلماء
نصوا على أنه يُحجر على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمُكاري المفلس،
فأوْلى أن يُحجر أيضاً على العابثين المتاجرين بتراثنا وأصولنا الثقافية.