ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
أ. د. محمود الطناحي
ارتبطت ضخامة التراث الإسلامي العربي وعظمته بسمة تميز بها الإسلام،
وهي أنه احتوى كثيراً من الأمم ذات الحضارات، والتي بعد أن دخلتْ في دين الله
أفواجاً ونسيتْ ما كان يعبد آباؤها من قبل هجرتْ لسانها القديم، واتخذت اللسان
العربي أداة فكر وبيان.
ولم يبقَ فرقٌ بين هذه الأمم والأمة العربية إلا فرق اللون والدم، وهو فرق
ساقطٌ مهدر في موازين الإسلام.
ثم إن الحضارة الإسلامية فوق أنها أبدعت وأنتجت في شتى ضروب العلم
والمعرفة كانت حلقة اتصال بين تراث اليونان القديم وبين اللاتينية الحديثة، مما
يشهد بفضل تراثنا وحضارتنا على النهضة الأوروبية الحديثة.
والمتابع لحركة الإبداع الإسلامية يجد أنها لم تخمد جذوتها، ولم تسكن
حركتها بتغير الحكام أو تبدل الأيام أو تعاقب النوائب. ومن أول ما يشهد لذلك
احتواء قرني الغزو الصليبي والتتري للعالم الإسلامي نخبةً عريضةً من كبار العلماء
والمفكرين، مع أن الهجوم الكاسح كان كفيلاً بالقضاء على هذه الأمة لولا دفع الله
وصيانته لها بما أودعه في روح العقيدة الإسلامية من عوامل النماء والبقاء
والازدهار.
كما أن غياب حاضرة من حواضر الإسلام عن الساحة الفكرية كان داعياً لقيام
حاضرةٍ أخرى تملأ الفراغ وتدعم المسيرة.
وأمر آخر أشد وضوحاً هو أن كثيراً من تراثنا قد بقي موفوراً يملأ الخزائن
العامة والخاصة إلى عهدٍ قريب، وأن ما ضاع منه بسبب غفلة الناس وتفريطهم
أكثر مما ضاع بسبب عوادي الحروب والأيام، ولا زالت الأيام تظهرنا على
مخطوطات نفيسة كنا نعدها من المفقودات. وكم في الزوايا من خبايا.
ولكي يعلم القارئ قدر العطاء العلمي الذي خلفه لنا سلفنا عليهم رحمة الله
فليراجع ما أُلّف من كتبٍ للفهرسة ك (الفهرست) لابن النديم، أو (كشف الظنون
عن أسماء الكتب والفنون) لمصطفى عبد الله؛ وهو من أنفع وأجمع ما كُتب في
موضوعه بالعربية، أو (خزائن الكتب العربية في الخافقين) للفيكونت فيليب دي
طرّازي؛ وقد أحصى في هذا الكتاب عدد المكتبات العربية في العالم فبلغت نحو
1500 مكتبة يُقدر ما فيها من كتبٍ عربية بنحو 262 مليون مجلد ما بين مخطوطٍ
ومطبوع.
مراحل النشر:
لم يعدم المسلمون أسلوباً في حفظ تراثهم ونشره؛ فقبل أن تظهر الطباعة كان
الأسلوب المعتمد في نشر كتب التراث هو النسخ، حتى راجت صنعة الوراقة
والنساخة، وكان لها أماكنها في الأمصار التي يؤمها العلماء.
ومع أن الطباعة ظهرت في القرن الخامس عشر على يد جوتنبرج الألماني،
وتبع ذلك انتشار المطابع في أوروبا ومنها مطابع عربية، إلا أن المشرق الإسلامي
لم يعرف الطباعة إلا في وقتٍ متأخر عن ذلك؛ حيث بدأت في الآستانة في 1551م، ثم في لبنان عام 1610م، وانتقلت بعدها إلى عدة أقطار.
المرحلة الأولى لنشر التراث:
ومما ينبغي ذكره أن الطباعة العربية صُبغت بصبغة تنصيرية تبشيرية في
تلك الفترة حتى أنشئت مطبعة بولاق التي عرفت (بالمطبعة الأميرية) في القاهرة
بعد رحيل نابليون بفترة وذلك في عام 1819م أو 1821م، وطبع فيها مئات الكتب
من مختلف الفنون من التفسير والحديث والأصول واللغة والتاريخ والطب والأدب
وغير ذلك من فنون التراث.
ويمكن لي أن أسجل ثلاث حقائق اتسم بها نتاج تلك الفترة من كتب التراث:
أولاً: أن النظرة للتراث كانت شمولية ترمي إلى إظهار كنوزه ونشر الأمهات
والأصول في كل فن، ولم يكن الدافع مادياً؛ لذلك غلب على الطباعة طباعة
الموسوعات.
ثانياً: أن حركة إحياء التراث تزامنت مع إنشاء دار العلوم التي رأسها الشيخ
حسين المرصفي التي تمثل رد فعلٍ قوي على الدعوة إلى العامية.
ثالثاً: دور الأزهر كان بارزاً وبَصْمَتُهُ كانت مميزة على نشاط المطبعة خلافاً
للحال في لبنان الذي سيطر عليه القساوسة والرهبان.
وانتشرت الكتب التي كانت تُطبع على نفقة بعض محبي العلم، وكان على
رأس من قام على تصحيح الكتب وإخراجها الشيخ نصر الهوريني، والشيخ محمد
عبد الرحمن المشهور بقُطّة العدوي.
وظلت مطبعة بولاق تعمل وحدها قرابة أربعين سنة، ثم ظهرت المطابع
الأهلية التي كانت أولها المطبعة الأهلية القبطية (الوطن فيما بعد) ، ثم تلتها مطبعة
وادي النيل، ثم تتابعت المطابع وتكاثرت. والذي يهمنا أن نقف أمام ثلاثة أمور
جديرة بالتأمل في تقييم أعمال تلك المرحلة:
1- حرص المطابع في كثير من منشوراتها على طبع كتاب أو أكثر بهامش
الكتاب الأصلي أو بآخره لصلة ذلك بالكتاب، أو لمجرد نشر الكتب على أوسع
نطاق. ومن الطريف أن نرى خمسة كتب مطبوعة في كتاب واحد، وفي صفحةٍ
واحدة اجتمعت خمسها في الصلب والهامش مفصولة بجداول.
إن ظاهرة طبع الكتب بهامش كتب أخرى هي ظاهرة فريدة دالة بوضوح
على أن القوم كانوا في سباقٍ لنشر العلم وإذاعته.
2- أن الذين تولوا طباعة الكتب وتصحيحها كانوا من طبقة المشايخ الفضلاء، ومن هؤلاء: الشيخ نصر الهوريني، ومحمد قُطّة العدوي، ومحمد الحسيني،
وطه محمود، وغيرهم. وقد كان للكثير منهم تآليف فوق اشتغالهم بتصحيح الكتب؛ لكن يؤخذ عليهم أنهم لم يُعنوا بذكر الأصول المخطوطة التي اعتمدوها في إخراج
الكتب.
3- أن القوم لم يُعنوا بالفهارس الفنية الكاشفة عن كنوز الكتاب المنشور،
واكتفوا بذكر فهارس موضوعية موجزة.
ومع هذا كانت تلك المرحلة من أغنى وأخصب مراحل نشر التراث العربي
وإذاعته، وهي بكل خيرها وعطائها قد أسلمت إلى ما تبعها من مراحل.
المرحلة الثانية: (مرحلة الناشرين النابهين) :
وهم طبقة من عظماء الرجال، جاهدوا في سبيل نشر التراث جهاداً صادقاً
دؤوباً، عَنَيْتُ: محمد أمين الخانجي، ومحب الدين الخطيب، ومحمد منير
الدمشقي، وحسام الدين القدسي. ومن عجائب الاتفاق أن أربعتهم من أهل الشام،
نزلوا مصر واتصلوا بعلمائها، وعملوا على طباعة الكتب ونشرها، وتأثروا بتلك
الروح التي سرت في مطبعة بولاق من نشر الأصول والأمهات، مع العناية بدقة
التصحيح وأمانة الأداء، وإن كانت قد تخلصت من الشكل الطباعي القديم المتمثل
في طبع الكتب بهامش الكتاب الأصلي.
وأهم ما يميز منشورات هذه الطبقة: الحرص على ذكر مخطوطات الكتاب
ووصفها؛ إلا أنها لم تُعن بالفهارس الفنية لما تنشره، إلا ما نراه من بعض
مطبوعات الخانجي ومحب الدين الخطيب.
وممن يتصل بهذه الطبقة شيخان فاضلان وعالمان جليلان؛ أما الأول: فهو
الشيخ محمد حامد الفقي حامل لواء السلفية، ومؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية
بمصر، والذي أنشأ مطابع السنة المحمدية، ونشر فيها مؤلفاته وكثيراً من كتب
شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب الحنابلة وطبقات رجالها.
وأما الثاني: فهو الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، الذي يُعد صفحة
حافلة من تاريخ نشر التراث العربي، قدّم وحده للمكتبة العربية ما لم تقدمه هيئة
علمية مدعومة بالمال والرجال. وقد رُمي الرجل بأنه أعاد طبعات سابقة عليه مما
أخرجته مطبعة بولاق ومطابع أوروبا، وأنه لم يعبأ بجمع مخطوطات الكتاب الذي
ينشره، وأنه لم يضع الفهارس الفنية الجامعة لمسائل الكتاب المنشور.
لكن هذا لا ينقص من قدر الرجل وجهده الذي بذله في التصحيح وضبط
النص ضبطاً صحيحاً، وإضاءته بالشروح اللغوية التي تنفي عنه الجهالة
أوالغموض، مع العناية بعلامات الترقيم، وأوائل الفقرات، وعدم تداخل أجزاء
الكلام. ويكفيه فضلاً أن كل من تعلم النحو في شرق الدنيا وغربها بعده مدين له
بديْنٍ كبير لما بذله من جهد بالغ في إخراج كتب النحو في أسلوبٍ يمتع الدارس
ويصقل اللسان.
المرحلة الثالثة: (مرحلة دار الكتب المصرية) :
والتي تحمل كل سمات المنهج العلمي الدقيق في إخراج النصوص، والتي
تأثرت إلى حدّ ما بمناهج المستشرقين الذين شُغلوا بتراثنا والذين استقوا زبدة
مناهجهم من أصل تراثنا.
وكان صاحب الفضل في هذا بعد الله سبحانه أحمد زكي باشا، الذي قال عنه
شكيب أرسلان: (كان يقظةً في إغفاءة الشرق، وهَبّة في غفلة العالم الإسلامي،
وحياةً في وسط ذلك المحيط الهامد) .
وقد برز في هذه المرحلة مشيخة جليلة من العلماء الذين بذلوا جهداً واسعاً فيما
أسند إليهم، ولم يحظوا بمعشار ما يحظى به أدعياء التحقيق في هذه الأيام، ومنهم: الشيخ أحمد الزين، والشيخ عبد الرحيم محمود، والشاعر أحمد نسيم، والأستاذ
محمد عبد الجواد الأصمعي، والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، والعالم الجزائري
إبراهيم اطفيّش. ومن الطريف أن الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر كان قد
عمل مصححاً في هذه الدار في مقتبل حياته العلمية.
وقد مثلت هذه المرحلة مرحلة نضج وكمال من حيث استكمال الأسباب العلمية، واصطناع الوسائل الفنية المعينة على إخراج التراث إخراجاً دقيقاً يقوم على جمع
نسخ الكتاب المخطوطة والمفاضلة بينها، ثم اتخاذ إحدى النسخ أُمّاً أو أصلاً،
وإثبات فروق النسخ الأخرى، وما يتبع ذلك من إضاءة النص ببعض التعليقات
والشروح، وصنع الفهارس التحليلية الكاشفة لكنوز الكتاب، وما يسبق ذلك كله من
التقديم للكتاب، وبيان مكانته في المكتبة العربية، وموضعه من كتب الفن الذي
يعالجه تأثراً وتأثيراً، ثم الترجمة لمؤلفه.
المرحلة الرابعة (مرحلة الأفذاذ من الرجال) :
وأهم رموزها الشيخ أحمد محمد شاكر، وأخوه (شيخ العربية) محمود محمد
شاكر، والأستاذ عبد السلام محمد هارون، والأستاذ السيد أحمد صقر.
وقد كان ظهور (الرسالة) للإمام الشافعي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر سنة
1939م إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من النشر العلمي للتراث المستكمل لكل أسباب
التوثيق والتحقيق، وهي مرحلة جديدة فيما يظهر للناس في تلك الأيام، ولكنها
موصولة الأسباب والنتائج بما سنّهُ الأوائل وأصّلُوه.
وقد نشر الشيخ رحمه الله الكتاب عن أصلٍ بخط الربيع بن سليمان صاحب
الشافعي، وقد جرى الشيخ في تحقيق (الرسالة) على أعدل المناهج وأقومها من
حيث التنبه الشديد لِمَا بين النسخ من فروق، وإضافات النّسّاخ فيما خفي ودقّ،
وربط كلام الشافعي رحمه الله في هذا الكتاب بكتبه الأخرى، وتوثيق النقول،
وتحرير المسائل، والعناية الفائقة بالضبط، وصنع الفهارس الفنية التي شملت
آيات القرآن الكريم، وأبواب الكتاب على ترتيبها، والأعلام، والأماكن، والأشياء
من حيوان ونبات ومعدن ونحو ذلك، والمفردات المفسّرة في الكتاب، والفوائد
اللغوية المستنبطة منه، ومواضيع الكتاب ومسائله في الأصول والحديث والفقه
على حروف المعجم. ولكن أهم أنواع هذه الفهارس التي نشرها الشيخ الجليل
فهرس الفوائد اللغوية لكون الشافعي حجة في اللغة. وكل ما قيل عن الشيخ
و (الرسالة) يقال عن أعلام هذه المرحلة: محمود محمد شاكر و (تفسير الطبري)
و (طبقات فحول الشعراء) لابن سلام، وعبد السلام هارون وآثار الجاحظ، والسيد
أحمد صقر وآثار ابن قتيبة. وغير ذلك من التحقيقات والمؤلفات التي انتصروا فيها
للعربية وأعلوا رايتها.
ومن يطالع مثلاً تعليقات الشيخ محمود شاكر على (طبقات ابن سلام)
و (تفسير الطبري) يقف على أشياء معجبة في فهم اللغة والبصر بالشريعة ومعرفةٍ
بالتفسير وفقه الحديث وتاريخ الرجال، وكل ما شئت من علوم هذه الأمة وفنونها؛
وكأنه رجل قد نُشرت أمامه العربية كلها فانتقى منها ما طاب له.
هذا المنهج الذي سار عليه الأستاذ محمود شاكر رحمه الله في إخراج كتب
التراث وتحقيقها منهج عسير بعيد المنال، تصعب محاكاته؛ لأنه متصل بعقيدةٍ
صحيحة وقراءةٍ محيطة وظهور بيّن على التراث، ولكنه على كل حال قد وجّه إلى
أعدل المناهج وأقومها في التحقيق والتصحيح.
واليوم تبذل عدد من المؤسسات العلمية المتخصصة جهداً مشكوراً في جمع
التراث ونشره عبر وسائل التقنية الحديثة: (الحاسب الآلي) و (شبكات المعلومات) . وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على بقية خير في هذه الأمة وعرفانٍ بجهد
الأوائل.