ملفات
(التراث الإسلامي بين الأصالة والتزييف)
طارق عوض الله محمد
لا شك أن تحقيق الأحاديث، وتمييز ما صحّ منها وما لم يصحّ، عمل عظيم، وسُنة ماضية، وجهاد في سبيل الله عز وجل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
وقد اختار الله عز وجل لهذا الأمر أئمة صادقين، بالحق قائلين، وبه عاملين، وإليه داعين، وللباطل مجتنبين، وعنه محذّرين، فجعلهم حرّاساً للدين، ينفون
عنه تحريف الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتأويل الغالين.
فوضعوا لمن بعدهم أصولاً قَويمة ميزوا بها بين الأحاديث المستقيمة والسّقيمة، وأظهروا في رواتها كل شريفة وذميمة؛ تديناً وتقرباً إلى الله عز وجل وذبّاً للكذب
عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- تسليماً.
ثم تبعهم بإحسان كثير من أهل العلم المتأخرين وبعض المعاصرين، فساروا
على دَرْبِهم، وضربوا على مِنْوَالهم، واهتدوا بهديهم، فأكملوا ما ابتدؤوه، وبينوا
ما أهملوه، وفصّلوا ما أجملوه، فبارك الله في سعيهم، ونفع بهم وبعلمهم.
وها نحن اليومَ؛ نعيش في ظل نهضة علمية، ظهر أثرها في نشر عدد كبير
من كتب الحديث في جميع مجالاته، كانت منذ أمد بعيد حَبِيسَة المكتبات العامة.
وقد صاحب إخراج هذا الكم الهائل من كتب السّنة تحقيقاتٌ وتعليقاتٌ
وتخريجاتٌ لأحاديثها ورواياتها من أساتذة أفاضل، وعلماء أجلاء، وباحثين
مجتهدين، فازدادت هذه الكتب بأعمالهم رَوْنَقاً وبهاءً، فجزاهم الله خيراً على ما
قدمّوا وبينوا.
غير أن هذا الخير قد شابه بعض الدّخَن، وهذه القوة قد أصابها بعض الوَهَن، وهذه سّنة الله الماضية، [فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً] (فاطر: 43) فقد أبى الله الحفظ الكامل إلا لكتابه.
وقد نظرت فإذا الأسباب التي من وراء ذلك كثيرة، فرأيت أن أذكر ضوابط
كليةً لترشيد العمل، والاستقامة على الطريق؛ تصحيحاً للمسار، ونصحاً لله،
ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم؛ كما ثبت
الحديث بذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبالضرورة؛ فإن هذه الضوابط ليست لورّاق أو كتبيّ أو تاجر يستغل حاجة
الناس للكتاب، فيدفعه إلى بعض الأحداث ناسخين له نَسْخَ مَاسِخٍ، ومسوّدين
حواشيه بما لا يمتّ إلى التحقيق بنَسَب، ثم يخرجه أعجميّاً، لو رآه صاحبه لما
عرفه، ثم يعمد إلى إخفاء هذه (الجريمة) التي يسميها (تحقيقاً) بأن يرسم على طُرّةِ
الكتاب: (تحقيق وضبط ومراجعة لجنة من المختصين بإشراف الناشر) ! ولو كان
من بين هذه (اللجنة) متخصص واحد، لصاح به، ولبادر إلى إبراز اسمه.
وليست هي أيضاً لـ (مُخَرّبٍ) ، يسمي نفسه (مخرّجاً) ، يعمدَ إلى الروايات
الحديثية، فيخرجها بزعمه، فإذا به يعمد إلى الفهارس المطبوعة، فيجعل من
حاشية الكتاب نسخة أخرى لها! !
التأَني والتريّث:
فينبغي على الباحث أن يتريث في إصدار أحكامه على الأحاديث، وأن لا
يتعجل ذلك، وهذا يستلزم أحياناً أن يُمضي الأيام الكثيرة والأزمنة البعيدة من أجل
معرفة ما إذا كان الحديث محفوظاً أم اعْتَرَاه شيء من الخطأ والوهم.
وهذا كان شأن كبار الحفاظ؛ فقد قال الإمام الخطيب البغدادي [1] : (من
الأحاديث ما تخفى علته، فلا يُوقَف عليها إلا بعد النظر الشديد، ومُضِيّ الزمن
البعيد) .
وقال الإمام علي بن المديني: (ربما أدركتُ علّة حديثٍ بعد أربعين سنة) .
وهذا بالضرورة يستدعي عدم المسارعة إلى ردّ نقد النقاد، لمجرد عدم العلم
بأدلتهم، إلا بعد البحث الشديد، واستفراغ الجُهْد في الوقوف على ما عليه اعتمد
النقاد في نقدهم؛ فإن مثل هؤلاء النقاد لا يتكلمون بالمُجَازَفَة، ولا بالحَدْس.
وما أروع ما ذكره ابن أبي حاتم [2] ، عن ابن أبي الثّلج، أنهم كانوا يسألون
ابن معين عن حديثٍ سنتين أو ثلاثاً، فيقول ابن معين: (هو باطل) ، ولا يدفعه
بشيءٍ، حتى وقفوا بعد ذلك على علته.
ومن هنا ندرك خطر الاغترار بظواهر الأسانيد، والاكتفاء بالظاهر من حال
رواته في الحكم على الأحاديث، وهذا هو الضابط الثاني.
التتبّعُ والسّبْرُ:
فإن الباحث كلّما أكثر من تتبع الأسانيد في الجوامع والمسانيد والأجزاء
الحديثية، كلّما كان بحثه أخْصَبَ وأنْضَج، وحكمه أقرب ما يكون من الصواب.
فربما كان إسنادٌ فيه ضعف، فمن اقتنع به، ولم يستوعب البحث عن غيره،
فلربما كان للحديث إسناد آخر صحيح، أو يشهد للأول ويدل على حفظ الراوي له.
ولربما كان إسنادٌ ظاهره الصحة، فمن اقتنع به، واكتفى به، ولم يستوعب
البحث عن غيره، فلربما كان للحديث إسناد آخر يُعِلّ ذاك الأول، ويدل على خطأ
الراوي في الحديث.
ولهذا؛ قال الإمام علي بن المديني: (الباب إذا لم تجتمع طُرُقه، لم يتبين
خطؤه) [3] .
في كَنَفِ الأئمةِ:
ولما كان العلماء الحفاظ هم أعلم الناس بالروايات، واختلافاتها، وأحفظ
الناس لها، وأعرف الناس بما يعتريها من العلل الظاهرة والخفية، وأضبط الناس
للقواعد والأصول التي على أساسها تتميز الأحاديث، وأفقه الناس في تطبيقها
وتنزيلها على الروايات والأسانيد كان من الضروري والضروري جدّاً الرجوع إلى
كتب علل الأحاديث المتخصّصة، والبحث عن أقوال أهل العلم على الأحاديث؛
فإن بالوقوف على كلمةٍ أو حرفٍ ينسب إلى إمام من أئمة علل الأحاديث، تُحَلّ
مسائل معلقة، وتُفتح أبواب مغلقة.
وآفة الآفات، ومنشأ الخلل الحاصل من قِبَلِ بعض الباحثين، هو ممارسة
تحقيق الأحاديث، والحكم على الأسانيد والمتون، استقلالاً من دون الرجوع إلى
أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
فكما أن القواعد النظرية في هذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه، فكذلك
ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم؛ لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم
يتم إعمالها عمليّاً من غير معرفة بطَرَائِقِهم في إعمالها وتطبيقها.
فإن أهل مكة أعلم بشِعَابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل من يطبق
القاعدة هو مَنْ وضعها وحرّرَها، ونظم شَرائِطَها، وحدّ حدودها.
وليس هذا جُنُوحاً إلى تقليدهم، ولا دعوة إلى تقديس أقوالهم، ولا غَلْقاً لباب
الاجتهاد، ولا قتلاً للقدرات والمَلَكَات؛ بل هي دعوة إلى أخذ العلم من أهله،
ومعرفته من أَرْبَابه، ودخوله من بابه، وتحمّلِه على وجهه.
وما رجوع أهل العلم ونقاده، بعضهم إلى بعض، وسؤال بعضهم بعضاً عن
الأحاديث والروايات كما صنع الإمام مسلم؛ لمّا صنف كتابه: (الصحيح) عَرَضَه
على علماء عصره؛ ليقولوا كلمتهم فيه مع ما حَبَاهُ الله عز وجل من سَعَةِ في الحفظ، ودقة في النقد، وصحة في النظر، وقوة في البحث، وصدق في الرأي، وما
كان هذا إلا مَظْهَراً من مظاهر معرفة أقدار العلماء، واحترام اختصاصاتهم.
وما تجريح أئمة الحديث للمُصِرّ على الخطأ، وهو مَن بينوا له خطأه فيما
يرويه، فلم يرجع عن خطئه، ولم يبالِ بنقد النقاد، وأقام على روايته له آنفاً من
الرجوع عنه [4] إلا رسالة تهديد شديدة اللهْجَة لكل من تُسَوّل له نفسه أن يضرب
بنقد النقاد عُرْضَ الحائط، ولا ينزّله منزلته اللائقة به.
الأصول والاصطلاحات:
وحيث بان لنا أهمية الرجوع إلى أئمة الحديث للتفقّهِ بفقههم، والتفهّمِ بفهمهم،
كان من الضروري معرفة أصول الأئمة ومناهجهم واصطلاحاتهم.
فإن مذاهب النقاد للأحاديث غامضة دقيقة؛ فربما أَعلّ بعضهم حديثاً استنكره، بعلة غير قادحة في الأصل، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذاك المنكر؛ وحجتهم
في هذا: أن عدم القدح بتلك العلة مطلقاً، إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها
نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكراً يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق
وجود الخلل، وإذ لم يوجد سبب له إلا تلك العلة؛ فالظاهر أنها هي السبب، وأن
هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها.
وبهذا يتبين: أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة،
وأنهم قد صححوا ما لا يُحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما
تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر [5] .
وربما يطلقون بعض الاصطلاحات على غير معناها المتقرر والمتعارف عليه؛ كمصطلح (الحسن) ، فإن بعض أهل العلم يستعمله في موضع (الغريب) أو (المنكر) على عكس معناه المتقرر، والذي يقتضي ثبوت الحديث.
وقد قال إبراهيم بن يزيد النخعي: (كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرج
الرجل أحسن حديثه، أو أحسن ما عنده) .
قال الحافظ الخطيب البغدادي شارحاً له [6] : (عَنَى إبراهيم بالأحسن:
الغريبَ؛ لأن الغريب غير المألوف يُسْتَحْسَن أكثر من المشهور المعروف،
وأصحاب الحديث يعبرون عن المناكير بهذه العبارة) .
شرائط الكتب:
إن أئمة الحديث عليهم رحمة الله تعالى لم يصنفوا هذه الكتب الحديثية جُزَافاً،
بل كل مصنّفٍ لهم لمصنّفه فيه شرط التزمه، وغاية نشدها؛ فكان إخراج الحديث
في مصنف ما، على وجه ما، كالإشارة من مصنّفه إلى حال هذا الحديث عنده.
ومن هنا؛ ندرك الخطأ الذي يقع فيه بعض الباحثين؛ حيث يخرجون الحديث
من كتب متعددة، غير ملتفتين إلى الفائدة التي أسْدَاها إليهم صاحب الكتاب بإخراجه
الحديث فيه.
فدلالة الاحتجاج بالحديث في (الصحيحين) على صحته، وتلقي العلماء له
بالقبول؛ حيث لا يكون ثَمّة تعقب من بعض الحفاظ؛ لا ينبغي أن تهمل، بل على
الباحث الاستفادة من هذه الدلالة، وتلك الفائدة، فلا يعامل أحاديث (الصحيحين)
معاملته لغيرها.
ودلالة إخراج الحديث في كتب الأصول، كالسنن الأربعة و (الموطأ)
و (المسند) لأحمد أيضاً لا ينبغي إهمالها.
بل من أهل العلم من يرى أن من علامات ضعف الحديث خُلُوّ هذه الكتب
منه [7] .
وإخراج الحديث في ترجمة راويه المتفرد به في كتب الضعفاء مثل:
(الكامل) لابن عدي، و (الضعفاء) للعقيلي، و (المجروحين) لابن حبان يدل على
ضعف الراوي دلالة واضحة جلية؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يخرجون في ترجمة
الراوي بعض أحاديثه المنكرة؛ ليستدلوا بذلك على ضعفه، فكانت هذه الأحاديث،
من هذه الأوجه، عند هؤلاء المصنّفين غاية في النكارة؛ حيث إنهم لم يضعفوها
فحسب، بل استدلوا بها على ضعف راويها المتفرد بها.
وقد قال ابن عدي في مقدمة كتابه [8] : (.. وذَاكرٌ لكل رجل منهم مما رواه
ما يُضَعّف من أجله، أو يَلْحَقه بروايته له اسم الضعف؛ لحاجة الناس إليها) .
وقال الحافظ ابن حجر [9] : (من عادة ابن عدي في الكامل، أن يخرج
الأحاديث التي أنكرت على الثقة، أو على غير الثقة) .
وكثيراً ما يتبرّأ ابن حبان في (المجروحين) من تلك الأحاديث التي يخرجها
في كتابه، ويصرح بأنه ما دفعه إلى إخراجها إلا الرغبة في بيان الضعفاء وبيان
أحاديثهم المنكرة.
يقول في المقدمة [10] : (وإنما نُمْلِي أسامي من ضُعّفَ من المحدّثين، وتَكَلّم
فيه الأئمة المرضيون ... ونذكر عند كل شيخ منهم من حديثه ما يُستدل به على
وَهَنِه في روايته تلك) .
ويقول أيضاً [11] : (وإني لا أحل أحداً روى عني هذه الأحاديث التي ذكرتها
في هذا الكتاب إلا على سبيل الجرح في روايتها على حسب ما ذكرنا) .
وكرر هذا المعنى في غير ما موضع من كتابه [12] .