دراسات في الشريعة والعقيدة
حسين بن حماد الحماد
أحكام الدّيْن من المعاملات التي شرعها الله عز وجل بين العباد، وجاءت
الآيات والأحاديث لتنظيمها وضبطها، ولما كان مال المسلم محترماً محفوظاً في
الشريعة؛ فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (حرمة مال المسلم كحرمة
دمه) [1] والعلاقة بين العباد مبنية على المُشاحّة والمطالبة، وقد أنزل الله عز وجل
أطول آية في القرآن وهي آية الدّين، ثم أتبعها بأخرى ليبين للناس أحكامه بياناً
شافياً؛ وهو القائل عز وجل: [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] .
وقد عمل أعداء الأمة على إغراق أعضاء المجتمع المسلم بالديون في
محاولتهم لتفكيك المجتمع المسلم من خلال تزيينهم وتسهيلهم لعملية الاستدانة من
خلال السبل المباحة وغيرها، فأثقل الكثيرون كاهلهم بها وشغلوا ذممهم، مع أن
شغل الذمة في الشريعة خطير؛ كيف لا؟ والشهيد الذي يُغفر له ما تقدم من ذنبه مع
أول دفعة من دمه مع خمس خصال أخرى تكون نفسه معلقة بديْنه، كما أخبر بذلك
الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّيْن) [2] وفي
حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (نفس المؤمن
معلقة بديْنه حتى يُقضى عنه) [3] ، والدّيْن على النفس شديد؛ ولهذا استعاذ النبي -
صلى الله عليه وسلم- منه؛ فعن أنس بن مالك قال: كان النبي -صلى الله عليه
وسلم- يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن
والبخل، وضَلَع الدّيْن وغَلَبة الرجال) [4] . قال ابن القيم رحمه الله: (فاستعاذ من
ثمانية أشياء، كل شيئين منها قرينان) إلى أن قال: (فإن القهر الذي ينال العبد
نوعان: أحدهما: قهر بحق وهو ضَلَع الدّين، والثاني: قهر بباطل وهو غَلَبة
الرجال) [5] .
وفي هذا البحث، نتناول بعض أحكام الدّيْن [6] وضوابطه وآثاره على النفس
من خلال ما جاء في الكتاب والسنة، ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
تعريف الدّيْن:
لغةً: يقال: داينت فلاناً إذا عاملته دَيْناً إما أخذاً أو عطاءً، ومنه اسم الله
الدّيّان.
وفي اصطلاح الفقهاء: لزوم حق في الذمة؛ فيشمل المال والحقوق غير
المالية كصلاة فائتة وزكاة، كما يشمل ما ثبت بسبب إجارة أو إتلاف أو جناية أو
غير ذلك. وما يعنينا في هذا البحث هو الدّين المتعلق بالمال بين العباد.
حكم الدّين:
الأصل فيه الإباحة، فيجوز للإنسان أن يستدين إذا علم من نفسه القدرة على
الوفاء، وقد يعرض له ما يجعله واجباً إذا كان لدفع الضرّ عن نفسه. وينبغي على
المسلم أن لا يتساهل بالاستدانة لأدنى سبب؛ فقد نزل التشديد في الدّين؛ فعن محمد
ابن عبد الله بن جحش قال: كنا جلوساً بفناء المسجد حيث توضع الجنائز، ورسول
الله -صلى الله عليه وسلم- جالس بين ظهرانينا، فرفع رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- بصره قِبَل السماء فنظر، ثم طأطأ بصره، ووضع يده على جبهته ثم قال:
سبحان الله سبحان الله، ماذا نزل من التشديد؟ قال: فسكتنا يومنا وليلتنا، فلم نرها
خيراً حتى أصبحنا. قال محمد: فسألت رسول -صلى الله عليه وسلم- ما التشديد
الذي نزل؟ قال: (في الدّيْن، والذي نفس محمد بيده، لو أن رجلاً قُتل في سبيل
الله، ثم عاش، ثم قُتل في سبيل الله، ثم عاش وعليه دَين؛ ما دخل الجنة حتى
يُقضى دينه) [7] .
أقسام الدّين:
يختلف تقسيم الدّين باختلاف الاعتبار؛ فيمكن تقسيمه إلى: حالّ، ومؤجل؛
وذلك باعتبار وقت أدائه، وينقسم إلى: دين لله، ودين للعبد؛ باعتبار الدائن،
وإلى دين صحة، ودين مرض؛ باعتبار حال المدين.
أسباب ثبوت الدّين:
الأصل براءة ذمة الإنسان من كل دين مالي، ويثبت في ذمة إنسانٍ مّا لأحد
الأسباب التالية:
- الالتزام بالمال في عقد يتم بين طرفين؛ كالبيع والسّلَم والإجارة والقرض.
- العمل غير المشروع المقتضي لثبوت ديْن على الفاعل: كالقتل الموجب
للدية.
- إتلافه مال غيره.
- هلاك مال غيره بيده بتفريط منه.
توثيق الدّين:
التوثيق هو الإحكام. ومعنى توثيق الدّين: هو تثبيت حق الدائن بحيث يتمكن
عند امتناع المدين عن الوفاء من استيفاء دَينه. وطرق توثيق الدّين أربعة:
- الكتابة، والدليل قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى
أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] [البقرة: 282] .
- الاستشهاد بالشهود، كما قال تعالى في آية الدين: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ
مِن رِّجَالِكُمْ] .
- الرهن، كما في قوله تعالى: [وَإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً
فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ] [البقرة: 283] .
- الكفالة، كما في قصة الرجلين من بني إسرائيل التي حكاها النبي -صلى
الله عليه وسلم-[8] .
وجمهور الفقهاء على أن توثيق الدّين مندوب إليه، وليس بواجب وأن الأمر
فيه للإرشاد.
استيفاء الدّين:
إذا ثبت الدّين في ذمة المدين فلا تبرأ ذمته منه إلا بحصول أحد أسباب
انقضاء الدّين؛ ونذكر منها:
- الأداء: وهو أن يؤدي المدين ما عليه للدائن.
- الإبراء: وهو أن يسامح الدائن المدين عن الدّين كله، ولا شك أن هذه
المرتبة عظيمة، ولا يوفق لها إلا من وفقه الله، وآثر الباقية على الفانية، من
الذين قال الله فيهم: [وَإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ
إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: 280-281] وقال عنهم رسوله -صلى الله عليه
وسلم-: (من سره أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة فلينفّس عن معسر أو يضع
عنه) [9] .
- الحوالة: وصورتها: أن يكون للمدين مبلغ من المال عند شخص؛ فيحيل
الدائن عليه. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: (مُطل الغني ظلم، فإذا تبع أحدكم على ملي فليتبع) [10] .
- قبض الرهن بعد حلول الأجل.
وقد حثت الشريعة على أداء الديون وحسن القضاء والسماحة في طلبها؛ فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان لرجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- سِنّ
من الإبل [*] ، فجاءه يتقاضاه، فقال: أعطوه. فطلبوا سنه فلم يجدوا له إلا سناً
فوقها. فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني؛ أوفى الله بك. قال النبي -صلى الله عليه
وسلم-: (إن خياركم أحسنكم قضاءً) [11] ، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي
الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا
باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) [12] ، وعن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- استلف منه حين غزا حُنيناً ثلاثين أو أربعين ألفاً،
فلما قدم قضاها إياه، ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (بارك الله لك في
أهلك ومالك؛ إنما جزاء السلف الوفاء والحمد) [13] .
وكما حثت الشريعة على أداء الديون، فقد حذرت من المماطلة بتسديده لمن
يجد، وأن ذلك يحل عرضه وعقوبته؛ فعن الشريد رضي الله عنه عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- قال: (لَيّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته) ، قال ابن
المبارك: يحل عرضه: يغلظ له. وعقوبته: يحبس له [14] ، وهكذا قال سفيان
الثوري.
آثار الدّين على النفس:
للدّين آثار سلبية على النفس، تجعل المدين مكبلاً بدَينه، مما يعطل بعض
الطاقات لانشغال القلب بالتفكير بالدّين. منها:
1- الشعور بالخوف وعدم الأمن؛ فعن عقبة بن عامر أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم - يقول: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها! قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: الدّيْن) [15] .
2- اللجوء إلى الكذب وإخلاف الوعد؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من
المأثم والمغرم. فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم! قال:
إن الرجل إذا غرم: حدّث فكذب، ووعد فأخلف) [16] ، وهاتان الصفتان من
صفات المنافقين، وحَري بالمسلم أن يبتعد عن كل ما يؤدي للتخلق بصفاتهم، فإن
قال قائل: قد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استدان؛ فكيف استعاذ؟
فالجواب كما قال ابن المنيّر: (لا تناقُضَ بين الاستعاذة من الدّين وجواز الاستدانة؛
لأن الذي استُعيذ منه غوائل الدّين، فمن استدان وسلم منها؛ فقد أعاذه الله وفعل
جائزاً) [17] .
3- الهم والغم والتعلق بالدنيا والخوف من الموت لعدم سداد الدين، فيكون
نهاره مشغولاً بكسبه، وليله بهمومه؛ مما يفقده لذة العبادة والخشوع، وقد قال
بعض السلف: ما دخل همّ الدّين قلباً إلا أذهب من العقل ما لا يعود إليه.
4- خسارة الحسنات يوم الآخرة لمن مات وعليه دَين وفي نيته عدم الوفاء؛
لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدّين ديْنان: فمن مات وهو ينوي قضاءه، فأنا
وليّه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، وليس يومئذ دينار
ولا درهم) [18] .
العوامل المعينة على تسديد الدّيْن:
1- النية الصالحة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها
يريد إتلافها أتلفه الله) [19] قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: فانظر
كيف جعل النية الصالحة سبباً قوياً للرزق وأداء الله عنه، وجعل النية السيئة سبباً
للتلف والإتلاف) [20] .
2- المبادرة بسداده متى توفر المبلغ؛ لأن الإنسان قد يفجؤه الموت فيسلم من
تبعاته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: (لو كان لي مثل أُحُد ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليّ ثلاثٌ وعندي منه
شيء إلا شيء أرصده لدَيْن) [21] .
3- التخطيط الجيد المدروس المبني على معرفة الحال، والابتعاد عن
الكماليات والزهادة في الدنيا والتطبيق العملي لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من
أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه: فكأنما حِيزت له
الدنيا) [22] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (انظروا إلى من أسفل منكم ولا
تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله) [23] .
4- الإكثار من الدعاء؛ فهو العبادة؛ فعن علي رضي الله عنه أن مكاتباً جاءه
فقال: إني قد عجزت عن كتابتي، فأعني، قال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لو كان عليك مثل جبل صِير ديْناً أداه الله عنك؟ قل:
(اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك) [24] .