إشراقات قرآنية
د. عبد الرحمن آل عثمان
هذه وقفات مع آية الإسراء وهي قوله تعالى: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] [الإسراء: 36] .
الوقفة الأولى: في قوله سبحانه: [وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] دعوة إلى
التحري والتثبت. والمعنى: لا تتبع ما ليس لك به علم؛ بل الواجب أن تتثبت في
كل ما تقوله أو تعمله أو تتلقاه. ومعلوم أن التثبت في كل الأمور دليل على حسن
الرأي وجودة العقل والنظر، وبذلك تنكشف الأمور وتتبين الأحوال، وبذلك يقرر
العبد: ماذا يعمل أو يعتقد ويقبل وماذا يترك؟ والمتثبت يُعمل فكره وعقله ويشاور
غيره؛ وهذا من أعظم الأسباب المعينة على الوصول للحق والصواب. وبهذا
يتجاوز العبد أسباب الندم والحسرة، وغير ذلك من الأمور الجالبة للشقاء.
الوقفة الثانية: في قوله سبحانه: [وَلا تَقْفُ] جاء بعد أداة النهي [لا]
الفعل المضارع (تقف) والقاعدة أن الفعل إذا ورد بعد النهي فإنه يدل على العموم.
والمحصلة من هذا أن الله تعالى نهى الإنسان أن يتبع ما ليس له به علم مطلقاً؛
وهذا يشمل جميع الأحوال والأزمان والأمكنة؛ لأن العموم ينصبّ على هذه الأمور
جميعاً؛ فالعبد منهي عن اتباع ما ليس له به علم في كل وقت وفي كل قضية سواء
كانت تتعلق بحقوق الله أو حقوق الآدميين أو غير ذلك من الأمور. ويبين هذا أيضاً
ما يأتي في:
الوقفة الثالثة: وهي أن قوله سبحانه: [مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] عام لكل شيء؛ وذلك أن لفظة [ما] تفيد العموم. فهذا يشمل الكلام في الأعراض من غيبةٍ ونميمةٍ..؛ لأنها تقال من وراء الإنسان (القفا) والقذف والبهت والكذب وسائر أنواع
الاعتقادات الباطلة؛ هذا فيما يفعله الإنسان ويبتدئه، وهكذا الشأن فيما يتلقفه عن
غيره من تصديقِ الأقوال والإشاعات الكاذبة، واتهامِ الصالحين والوقوعِ في
أعراضهم، وأن يقول سمعت ولم يسمع، وتقبّل الأفكار الفاسدة والمذاهب المنحرفة
والتقاليد المستوردة؛ وهذا يكثر وقوعه في جانب النساء من تَتَبّعِ الموضات والتشبه
بالكافرات والفاسقات والتزيي بزيهن من الملابس الفاضحة والموديلات العارية
وغير ذلك من الشر المستطير الذي وصل إلى الأمة من أعدائها. فالواجب على
العبد أن يضبط جميع تصرفاته؛ فلا يحكم إلا بعلم، ولا يعتقد إلا بعلم، ولا يفعل
شيئا إلا بعلم.
(والله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم،. وقد حرم
سبحانه الكلام بلا علم مطلقاً، وخص القول عليه بلا علم بالنهي فقال تعالى: [وَلا
تَقْفُ] وقال: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ] [الأعراف: 33] .
وأمر بالعدل مع أعداء المسلمين، فقال: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [المائدة: 8] ) [1] .
الوقفة الرابعة: في قوله تعالى [وَلا تَقْفُ] نهي. ومعلوم أن النهي يدل
على التحريم إلا لقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه إلى غير ذلك؛ مما يدل على أن
اقتفاء العبد ما لا علم له به هو من الأمور المحرمة.
الوقفة الخامسة: أصل (القفو) الاتباع تقول: قفوت أثر فلان إذا تتبعت أثره.
ومعلوم أن الإنسان يكون أسيراً لما يتلقفه من أفكار ومعتقدات؛ فيتبعها ويعمل
بمقتضاها. وبهذا تعرف خطورة هذا الجانب.
الوقفة السادسة: في قوله تعالى: [إنَّ السَّمْعَ ... ] إلخ. فالجملة هنا
تعليلية؛ لأن (إنّ) تأتي للتعليل. والمعنى على هذا: انته عما لا يحل لك؛ لأن الله
أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره؛ وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه، فلا
تستعمل نعمة الله في معصيته. قال الله تعالى: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُُمْ تَشْكُرُونَ]
[النحل: 78] [2] .
الوقفة السابعة: في قوله تعالى: [إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ] قدم السمع
على البصر وأخّر ذكر الفؤاد؛ لأنه منتهى الحواس ومستقر المعتقدات ومبعث
الإرادات، والسمع والبصر طريقان له، ونافذتان عليه، وبهما يصل إليه كثير من
الأمور النافعة أو الضارة؛ فما تبصره العين يؤثر في القلب ولا شك كالنظرة
المحرمة.. الخ. وكذلك ما تسمع الأذن من خير وشر؛ كالغناء.
وقدّم السمع على البصر؛ لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إلى السمع، ولأن
إدراك السمع أعظم وأشمل من إدراك البصر؛ ذلك أن البصر إنما يدرك به ما كان
في مواجهته خاصة، أما السمع فيدرك به جميع المسموعات التي تطرقه من جميع
الجهات. وأيضاً فإن البصر لا يدرك به إلا الأجسام والأجرام؛ بخلاف السمع؛
فإن العبد يدرك به الأمور الحاضرة والغائبة مما أخبر عنه، وهكذا؛ فالترتيب
الواقع بين هذه الأمور في الآية متدرج به من الأدنى إلى الأعلى. والله أعلم.
الوقفة الثامنة: الفؤاد هو القلب، إلا أن فيه معنى زائداً على (القلب) ؛ فالفؤاد
بمعنى التفؤد أي: التوقد؛ فهو مبعث الإرادات وآلة الإدراك ومستقر العلم والعقل
كما لا يخفى؛ ولهذا فإن التعبير بـ (الفؤاد) هنا أبلغ من التعبير بـ (القلب) . والله
أعلم.
الوقفة التاسعة: في ذكر الفؤاد هنا مع السمع والبصر دليل على المؤاخذة على
الأمور القلبية، كما أن الإنسان يؤاخذ على ما يسمع ويبصر.
ففيما يتعلق بالقلب؛ فإن الإنسان يؤاخذ على المعتقدات التي يعتقدها؛ فيثاب
على التوحيد، ويعاقب على الشرك، كما يؤاخذ على الأعمال القلبية الأخرى؛
فيثاب على اليقين والرضا والتوكل، ويعاقب على الأدواء التي تصيبه؛ كالحسد
والغل وسوء الظن ... إلخ. وكذلك العزم المصمم على المعصية [3] .
الوقفة العاشرة: قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (ثم إن الله
سبحانه وتعالى خلق القلب للإنسان يعلم به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها
الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضو من أعضائه
لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال؛ فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان
للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة
والظاهرة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله فذلك هو الحق القائم
والعدل الذي قامت به السموات والأرض، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو
ولربه وللشيء الذي استعمل فيه؛ وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله
و [أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [البقرة: 5] .
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه؛ بل تُرك بطالاً فذلك خسران، وصاحبه
مغبون، وإن استُعمل في خلاف ما خلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من
الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب؛ ولذا سُمي قلباً. قال النبي -صلى الله
عليه وسلم-: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد
الجسد كله ألا وهي القلب) [4] .
وإذ قد خُلق القلب ليُعلم به؛ فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفكر
والنظر، كما أن إقبال الأذن على الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع،
وانصراف الطَرْف إلى الأشياء طلباً لرؤيتها هو النظر. فالفكر للقلب كالإصغاء
للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا علم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن
الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه. وكم
من ناظر مفكر لم يحصّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظر إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.
وعكسه من يُؤتى علماً بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقة تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه، أو سمع قولاً من غير أن يصغي
إليه، وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط
واستعداد قد يكون فعلاً من الإنسان فيكون مطلوباً، وقد يأتي فضلاً من الله فيكون
موهوباً.
فصلاح القلب وحقه الذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء لا أقول أن
يعلمها فقط فقد يعلم الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغياً له، والذي
يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه
غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره، وذلك هو الذي أوتي الحكمة [وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] . وقال أبو الدرداء: إن من الناس
من يؤتى علماً ولا يؤتى حكماً، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علماً وحكماً.
وهذا، مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص،
وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك) [5] .
الوقفة الحادية عشرة: في قوله: [كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] الإشارة في
قوله: [أُوْلَئِكَ] عائدة إلى ما سبق من السمع والبصر والفؤاد. ومعلوم أن الإشارة
بـ (أولئك) مما يختص به العقلاء؛ وقد ورد استعمالها هنا مع هذه الآلات؛ ولا
إشكال في هذا؛ لأنه نزلها منزلة من يعقل؛ ذلك أنها تُسأل عما تلقته كما تُسأل عن
صاحبها كما سيأتي. ومعلوم أن غير العقلاء إذا نُزّلوا منزلة العقلاء فإنهم يعاملون
معاملتهم من حيث: الصيغ، والضمائر في العبارات، وصيغ الجموع كما في قوله
تعالى عن الشمس والقمر: [وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ] [يوسف: 4]
والأصل: (رأيتها لي ساجدة) لكن لما كان السجود من أفعال العقلاء، ووقع من هذه
الجمادات نُزّلوا منزلة العقلاء.
الوقفة الثانية عشرة: يلحظ في هذا القدر من الآية ما يلي:
1 - أنه سبحانه قدّم (كل) الدالة على الإحاطة، وكان بالإمكان الاستغناء عن
هذه اللفظة فيكون الكلام: (إن السمع والبصر والفؤاد ستسأل عما وقع منها كما
ستسأل عن صاحبها) إلا أنه جاء بـ (كل) زيادة في التوكيد وتقرير المعنى. والله
أعلم.
2 - جاء سبحانه باسم الإشارة (أولئك) دون الضمير؛ فلم يقل سبحانه: (كلها
كان عنه مسؤولاً) لما في الإشارة من زيادة التوكيد والتمييز.
3 - جاء سبحانه بفعل (كان) لدلالته على رسوخ الخبر؛ إذ إن هذا أمر واقع
لا محالة. والله المستعان.
الوقفة الثالثة عشرة: في قوله تعالى: [كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] قدم المعمول
[عَنْهُ] على عامله [مَسْئُولاً] والقاعدة المعروفة في هذا الباب هي أن (تقديم المعمولات على عواملها يفيد الاهتمام..) والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه ومطالباً بأن يبين مستند صاحبه من حسه.
الوقفة الرابعة عشرة: في قوله تعالى: [مَسْئُولاً] السؤال هنا كناية عن
المؤاخذة بالتقصير، وتجاوز الحق، كما يقال: (أنت مسؤول عن تصرفاتك) أو
ستسأل عن فعلك هذا.. كما في قوله تعالى: [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] [النور: 24] .
الوقفة الخامسة عشرة: في معنى قوله سبحانه: [كَانَ عَنْهُ] أي: كان كل
أولئك عن الإنسان مسؤولاً. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ ... ] [يس: 65] الآية، وقوله سبحانه: [شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ]
[فصلت: 20] الآية. ويمكن أن يكون المعنى: أن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وقلبه.
ويدل على هذا قوله تعالى: [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
[الحجر: 92، 93] وقوله سبحانه: [وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] [النحل: 93]
وكلا المعنييْن صحيح؛ لأن القاعدة أن الآية إذا احتملت معاني متعددة وأمكن حملها
على جميع تلك المعاني من غير فسادٍ للمعنى فإنها تحمل عليها جميعاً، لا سيما إذا
دل القرآن على هذه المعاني جميعاً في مواضع أخرى كما في هذه الآية، وهذا لا
شك فيه إن شاء الله والله أعلم.
فالمحصلة أن السمع والبصر والفؤاد.. هذه كلها تُسأل عما تلقته، كما تُسأل
عن صاحبها. وأيضاً فإن صاحبها يُحاسَب عنها.
الوقفة السادسة عشرة: في قوله سبحانه: [كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] التفات؛ ذلك
أن أول الآية ورد بأسلوب الخطاب [وَلا تَقْفُ] وجاء هذا الموضع بأسلوب الغيبة
[كَانَ عَنْهُ] وفي هذا من روعة البيان وتنشيط السامع ما فيه! والله أعلم.
الوقفة السابعة عشرة: إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به
وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة،
والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل
هي حركات نافعة؛ بأن وضعت فيما يقرب إلى الله تعالى؟ أم ضارة؛ بأن وُجّهت
لمعصية الله؟ فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة ليعد لهذا السؤال
جواباً. فمن استعملها في طاعة الله فقد زكاها ونماها، وأثمرت له النعيم المقيم.
ومن استعملها ضد ذلك فقد دساها وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم. نسأل الله
العافية.
الوقفة الثامنة عشرة: في الآية أدب خُلُقي رفيع يعلم الأمة التفرقة بين مراتب
الخواطر العقلية؛ بحيث لا يختلط المعلوم بالموهوم.
الوقفة التاسعة عشرة: في الآية إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة الوقوع
في المهالك؛ ذلك أن إهمال تلك الجوارح الثلاث من المراقبة يجعلها تنطلق بلا
زمام فتتلقف ما فيه بوارها.. فتُدمّر الأمة بفساد عقائدها وأخلاقها.. وتتفكك
الأواصر بسبب فشو قالة السوء بين الناس.. الخ.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (ثم هذه الأعضاء الثلاثة
هي أمهات ما يُنال به العلم ويدرك، أعني: العلم الذي يمتاز به البشر عن سائر
الحيوانات دون ما يشاركها فيه، من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب
ويكره، وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه؛ إلى غير ذلك. قال الله
تعالى: [وَاللَّهُ أََخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالأََبْصَارَ وَالأََفْئِدَةَ لَعَلَّكُُمْ تَشْكُرُونَ] [النحل: 78] وقال: [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن
رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ] [السجدة: 9] وقال:
[وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً] وقال: [وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً] [الأحقاف: 26] وقال: [خَتَمَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أََبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ] [البقرة: 7] .
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: [وَلَقَدْ ذَرَاًنَا لِجَهَنَّمَ
كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا] [الأعراف: 179] .
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء، وهو: أنها إنما
يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل: الصور والأشخاص.
فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من
الأشياء الروحانية والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان: فالقلب يعقل الأشياء
بنفسه؛ إذ كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل
على العلم إلى القلب؛ فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى
القلب أخذ منه ما فيه من العلم. فصاحب العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما
سائر الأعضاء حَجَبة له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه؛ حتى إن
من فقد شيئاً من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.
ثم قال: (فإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد
وضع في موضعه؛ كما أن العين إذا صُرِفت إلى النظر في الأشياء فقد وُضعت في
موضعها، أما إذا لم يصرف إلى العلم، ولم يوضع في الحق؛ فقد نسي ربه، فلم
يوضع في موضع؛ بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وُضع في موضع غير
موضعه، بل لم يوضع أصلاً؛ فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل،
فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلاً، وما ليس
بشيء أحرى أن لا يكون موضعاً) [6] .
الوقفة العشرون: تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة
فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته. وإنما خصصها نظراً لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره
من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: (السمع، والبصر، والفؤاد) [7] والله تعالى أعلم.