الافتتاحية
منذ أن أبرمت معاهدة (سايكس بيكو) الشهيرة، التي تمزقت بعدها البلاد
العربية إلى دويلات صغيرة مشتتة؛ والخطاب العربي يعاني حالة من التيه والتخبط
والاضطراب؛ حيث أصبحت البلاد العربية مسرحاً لكل الألوان الفكرية
والاتجاهات الحزبية. وعلى الرغم من الإمكانات الهائلة التي يملكها العرب، وهم
الذين تربعوا على عرش القيادة السياسي والعسكري والفكري فترة طويلة من الزمن
إلا أنّ غالب الأمة لا زالت ترزح تحت وطأة التيه والتخلف، وتعيش مأزقاً مزرياً
منذ أمد بعيد.
والدارس لمختلف التجارب العربية المعاصرة من خلال أُطروحاتها الفكرية
النظرية، أو من خلال تطبيقاتها العملية، يرى أنها من حيث الجملة اتفقت على
سمات عامة، كانت سبباً في تكريس واقع التأخر عن الركب، والضعف في
مواجهة التحدي.
السمة الأولى: التقليد الأعمى للغرب:
وهي سمة غالبة على الفكر العربي على تنوع اتجاهاته وأحزابه وفلسفاته،
فهو استنساخ تام للفكر الغربي، رُسمت معالمه، وبرزت ملامحه في أثواب غربية
متعددة الأشكال والألوان، فجُلّ الشعارات العربية اعتمدت ولا تزال على استيراد
بضائع فكرية جاهزة معلبة، نبتت جذورها في بيئة غريبة، ثم أراد دعاتها
استنباتها في بيئتنا التي تختلف تمام الاختلاف في خصائصها ومميزاتها؛ حتى بلغ
من غلو بعضهم في ذلك أن دعا لأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها، بخيرها
وشرها..!
لقد أعلن رموز الفكر العربي بلسان الحال عن عجزهم، وكساد بضاعتهم،
واغترابهم عن الأمة؛ وطوّفت عقولهم بعيداً في الشرق والغرب، وراحوا يلهثون
وراء أسيادهم من الفلاسفة الغربيين، ثم عادوا وقد تجارت بهم الأهواء، ومُسخوا
مسخاً تاماً، وانسلخوا انسلاخاً كاملاً من هويتهم العقدية وأصبحوا مجرّد أبواق
خاوية مهترئة لا تُسمع إلا أصداءً مزيفة لفكر هزيل هش ينضح بالانحراف
والضعف.
وقد أنتج هذا تفسخاً وتحللاً لعناصر تميّز الأمة في: السياسة، والاقتصاد،
والقضاء، والاجتماع، والتعليم وغير ذلك، وجاء في معظم أشكاله ممثلاً لتبعية
شوهاء، أو لخليط متنافر.
السمة الثانية: إحياء ما اندرس من الآثار البائدة:
فقد تواطأ الخطاب العربي المعاصر بمختلف مدارسه الفكرية على التنكر
لجذور الأمة وتاريخها وأصولها الشرعية، وظهرت دعوات نشاز تنادي بالرجوع
إلى الحضارات القديمة حضارات ما قبل الإسلام، وبدأنا نسمع بدعاة الفرعونية
والفينيقية والبابلية والبربرية والأمازيقية.. ونحوها، ونشطت حركة إحياء ذلك
التراث البائد والنفخ فيه. وكلما شعر أولئك القوم بارتفاع الأصوات المخلصة التي
تنادي بالاعتزاز بالأصول الإسلامية ازداد تشنجهم واضطرابهم، وراحوا يحفرون
في مقابر التاريخ لعلهم أن يجدوا ما يصرفون به وجوه الناس عن الإسلام، بل بلغ
من حماقة وجهل بعض رؤوسهم ومنظّريهم أن اعتزوا ببعض الآلهة الوثنية التي
كان يُقدسها الفراعنة أو الفينيقيون أو غيرهم حتى نصبت أصنامها في الميادين
العامة والأماكن التي ترتادها الجماهير، وهم يحرصون على إظهار ذلك أحياناً
بصورة رمزية، وأحياناً أخرى بصورة جلية واضحة كما هو فعل الحداثيين في
الأدب.
ويدخل في هذا المضمار الدعوة إلى نبذ اللغة العربية الفصحى والتقليل من
شأنها باعتبارها لغة القرآن العظيم، والجامعة للمسلمين، ووعاء الفكر والثقافة
الإسلامية مع الدعوة إلى نشر اللهجات العامية والمحلية، لتظهر بذلك أجيال جديدة
منبتة الصلة بتاريخها وأمتها.
السمة الثالثة: الهجوم على الإسلام وأهله:
منذ بدايات البواكير الأولى لحركات الفكر العربي المعاصر ظهرت موجة
محمومة من الهجوم على الدين والعقيدة الإسلامية، وحملة شرسة من الإثارة
والتشكيك في المسلّمات والأصول الشرعية، وصاحب ذلك جرأة شديدة على
تحريف المنابع الإسلامية، وتشويه أصول الشريعة ومقاصدها، بالتشكيك الفكري
تارة والتشريع القانوني تارة أخرى، وأصبح الطعن في الدين سُلّماً يرتقي درجاته
أصحاب الأهواء وطلاب الشهرة، وربما تدثّر ذلك أحياناً بلباس البحث العلمي أو
حرية الرأي أو الدعوة إلى الحوار والنقد الذاتي.
والنتيجة الطبعية التي يرمي إليها هؤلاء هي: إقصاء الدين، والتفلّت من
أحكام الشريعة، باعتبارها كما يزعمون عقبة في طريق الرقي والنهضة..! !
وإزاء ذلك درج أكثرهم على الهجوم على الصحوة الإسلامية، وأجلبوا عليها
بخيلهم ورجلهم، وسنّوا رماحهم لمبارزتها وملاحقتها والتضييق عليها، وأصبحت
الحرب على الإسلام تتخفى وراء مكافحة الأصولية والتطرف والظلامية.
السمة الرابعة: التسلط والاستبداد:
يتشدق رموز الأحزاب العربية ومفكروها بالدعوة إلى الديمقراطية والحرية،
وينادون بالحوار وتبادل الآراء. ويبالغ بعضهم في ادعاء ذلك ليظهر بالمظهر
الحضاري التقدمي، وتفتح الأبواب لكل أحد من أصحاب الأهواء والمذاهب
التحررية والمنتفعين وذوي المصالح الشخصية.
أما إذا كان المعنيّ في ذلك دعاة الإسلام فإن الموازين، تنقلب والمواقف تتبدل
وعندها نجد أولئك الديموقراطيين يمارسون أبلغ أنواع التسلط والاستبداد،
ويحجرون على كل رأي مخلص وجاد، ويتعاملون معه بكلّ صلف وجبروت،
ويغلقون أمامه كل الأبواب، ويرمون عرض الحائط كل الشعارات التي كانوا
يتقنعون بها في أدبياتهم ومحافلهم؛ بل قد يزعم بعضهم أنّ ذلك إنما هو حماية
للديموقراطية من الأصوليين المتطرفين..! ! ونظرة في أرجاء عالم العرب اليوم
تخبرنا بأمر هذه القصة المكرورة.
السمة الخامسة: - محاربة الفضيلة ونبذ القيم:
فغالب الشانئين لـ (الخطاب الإسلامي) يجاهرون بأطروحات من شأنها أن
تنتكس في ظلها الفطرة وتهجر الشريعة، ويضعف الوازع الديني، حيث يتردى
الناس بعدها في دركات الرذيلة وينتشر بينهم الفساد، وتصبح الأهواء آلهة معبودة،
وقد قطف الخطاب المعادي للدين عند كثير من العرب المعاصرين ثمار طرحهم،
عندما نجحوا في نزع الحجاب وإخراج المرأة من بيتها وإشاعة الفاحشة، فقد
سخروا لذلك إمكانات هائلة لانتزاع البقية الباقية من الحياء والحشمة من نفوس
الناس، وأصبح الإعلام بشعبه المختلفة: (السينما، والتلفزيون، والمسرح،
والصحافة) أدوات رئيسة تُذبح بها الفضيلة وتُنتهك بها الحرمات، وسار الأدب
بأقسامه المختلفة: (الرواية، والقصة، والقصيدة ... ) جنباً إلى جنب في الدعوة
إلى التحلل ونبذ القيم الأخلاقية وتزيين الفجور وتوسيع أبوابه ومحاضنه.
ومن المثير للعجب أن هذه السمات تمثل قواسم مشتركة بين أكثر المجتمعات
العربية المعاصرة (أتواصوابه) ؟ !
ومن المثير للعجب أيضاً أن هذا الإصرار على مجافاة الدين بعقائده الصحيحة
وقيمه الراقية، وتشريعاته السامية، لم يؤد بالعرب إلى تحقيق شيء من آمالهم
المرجوة منذ عقود طويلة، في حين أن عدوهم الأكبر ممثلاً في دولة اليهود
(إسرائيل) لا تزال مسيرته باسم الدين في نمو واطراد، خاصة في السنوات
الأخيرة، حيث بدأت تبرز في الأفق حركة مد ديني جارف، تحرسه الدولة،
ويدفعه الشعب، دون حساسية أو خوف من الاتهام بالرجعية والظلامية!
فهلا أعاد (الخطاب العربي) النظر في أطروحاته (التقدمية) التي ما تقدمت بنا
إلا إلى الوراء..؟ !
وحتى متى يدور في حلقة مفرغة وإلى متى يكرر ببغائية تلك الطروحات
العلمانية الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع سوى التبعية والاستلاب والسقوط
في الأوحال والتردي في صحاري التيه؟ !