المسلمون والعالم
هل تتكرر في ليبيا.. مأساة العراق؟ !
عبد العزيز الحامد
يذكر التاريخ واقعة غريبة، كانت بمثابة المسوِّغ والذريعة لاجتياح التتار بلاد
المسلمين على شكل موجات زاحفة متتابعة، وملخص هذه الواقعة، أن زعيم التتار
(جنكيز خان) لما جمع القبائل حوله، انطلق نحو الشمال الشرقي في بلاد الصين
ليضمها إلى حكمه، ولم تكن بلاد الإسلام داخلة ضمن أطماعه التوسعية في ذلك
الحين، إلا أن إحدى المقاطعات الإسلامية في الشرق وهي بلاد (فرغانة) كان
يحكمها قائد أحمق، يُدعى خوارزم شاه.
وقد بدأ هذا القائد يناوش التتار بالرغم من ضعفه وقوتهم، فأرسل إليه جنكيز
خان رسلاً للمفاهمة أو المهادئة، حتى لا تتعطل طرق التجارة بين ممالك المسلمين
وممالك التتار، إلا أن خوارزم شاه أظهر نوعاً من التعالي في غير موضعه، وقد
حدث أن بعض التجار التتار جاؤوا إلى بلاده لشراء ثياب لجنكيز خان، فما أن علم
خوارزم شاه بقدومهم حتى أمر بقتلهم وأخذ ما معهم! ثم أرسل العيون ليتحسس ردة
الفعل عند التتار، وليستعلم عن أعدادهم وإعدادهم وأثر مقتل تجارهم.. فجاءته
الأنباء بما لم يكن يتخيل، من حيث كثرة العدد وقوة الشكيمة، وتوافر السلاح الذي
يصنعونه بأنفسهم ... فندم! ! ورأى أنه تعجل وتسرع بقتله التجار! وبدأ يستشير
المقربين منه في شأن ذلك الباب من الشر الذي فُتح، وبينما هو يشاورهم جاءته
رسالة من جنكيز خان يقول فيها: (تقتلون تجّاري وتأخذون أموالهم! ! فإني قادم
إليكم بجنود لا قِبَلَ لكم بها..) ! فماذا كان من القائد (المحنك) ؟ ! لقد أمر بقتل
رسول جنكيز خان، وحلق لحى من كانوا معه، وأعادهم إلى جنكيز خان ليُعلموه
بما فعل الزعيم الملهم، ولم ينس (القائد الركن) أن يرسل معهم رسالة تهديد لجنكيز
خان، أن (خوارزم شاه) قادم إليك ... ! ! ولم يكتف صاحبنا بهذا التهديد الأجوف،
بل سار فعلاً ببعض جنوده فأغار على أطراف بلاد التتار، بينما كان رجالهم
غائبين ومشغولين في حروب أخرى، فوجد القائد الأرعن الفرصة سانحة لمعركة
سهلة ومغانم رخيصة، فقتل من وجدهم من الأطفال والشيوخ، وأقفل بمن معه
راجعاً محملاً بما ظن أنه انتصار الأبطال! ! وعاد بعض التتار، وعلموا وهم في
الطريق بالخبر، فعادوا أدراجهم، يشدّون السير للحاق بذلك المشاكس الذي فعل
تلك الفعلة، ووقعت بعض المناوشات، ولكن حاكم خوارزم تمكن من الرجوع،
وبدأ يستعد لقتال لا يدري مداه وصِدام لا يعلم منتهاه، وبدأ في إقامة التحصينات
وإعداد الجند. وبالفعل جاءت جحافل التتار بينما كان خوارزم شاه غائباً، وبدأت
جيوشهم بمدينة بخارى، فطلب أهلها الأمان والاستسلام لهول ما رأوا، فلم يلتفت
إليهم جنكيز خان واجتاح مدينتهم، وأوقع بأهلها الخطوب، ثم انتقل إلى سمرقند
ففعل بأهلها ما فعل بأهل بخارى، ثم وجّه عشرين ألف فارس لمطاردة خوارزم شاه
ومن معه، فظل (الأخ القائد) يهرب منهم عبر البلاد، حتى لقي حتفه في جزيرة
في بحر الخزر سنة 620 للهجرة، وظلت عجلة الأحداث الجسيمة تدور رهيبة
رعيبة عبر أيام نحس مستمر خيمت على أهل الإسلام، وظلت تتتابع حتى انتهت
إلى سقوط الخلافة الإسلامية وقتل الخليفة ودمار بغداد سنة 656 هـ. وكانت تلك
أيضاً بداية لأحداث عظام أخرى.
لقد فتح هذا الرجل (خوارزم شاه) على المسلمين باباً عظيماً من الفتنة، ليس
فقط عن طريق الحماقة في استغضاب قوى الشر واستجلاب بطشها، ولكن أيضاً
ببذل مساعٍ مشؤومة قبل ذلك وطّأت الأحوال وهيأتها بغشم بالغ أمام زحف الأعداء، حتى صارت الساحة مكشوفة أمامهم، لا يجدون صدّاً ولا ردّاً، فماذا فعل..؟ !
قال ابن كثير رحمه الله (إنما استقام لهم الأمر أي التتار لعدم المانع؛ لأن السلطان
خوارزم شاه كان قد قتل الملوك (المسلمين) من سائر الممالك، واستقر في الأمور.. وخلت البلاد، ولم يبق من يحميها، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) [1] .
لقد سُقْتُ هذه القصة مع ما فيها من طول، للتذكير بعِبَرِ التاريخ التي قلما
تستفيد منها الأجيال. ولكن هل يعيد التاريخ نفسه؟ ! في الحقيقة أن ما مضى لا
يعود، ولكن هناك أوجه شبه كبيرة بين كارثة (خوارزم شاه) وتوابعها، وبين
الكثير من الكوارث التي جرتها ولا تزال تجرها على الأمة زعامات شبيهة بأمثاله
في زماننا هذا.
سنتجاوز الحديث عن أصحاب ثورات ورثت نكبات مثل الثورة العرابية
والثورة العربية، وعن زعامات جرّت على شعوبها الويلات مثل الزعامة
الاشتراكية المصرية بقيادة عبد الناصر، التي انتهت إلى هزيمة نكراء في عام
1967م، ومثل الزعامة البعثية العراقية بقيادة صدّام التي أوصلت إلى أم الهزائم
في عام 1991م. سنتجاوز هذه التجارب وما يشاكلها، ونفتح على وجل ملف أزمة
جديدة تحلق غيومها في الأفق منذ سنوات، منذرة بأوخم العواقب، إن لم يتدارك
الله الناس برحمته ولطفه، وهي الأزمة بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا من
جهة، وبين الزعامة (الثورية) الليبية من جهة أخرى، وهي الأزمة المشهورة باسم
(أزمة لوكربي) .
لقد بدأت ملابسات تلك الأزمة منذ عشر سنوات، وبالتحديد في 21 ديسمبر
من عام 1988م، وذلك عندما تم تفجير طائرة ركاب مدنية من طراز بوينج 747
تابعة لشركة (بان أمريكان) فسقطت فوق قرية (لوكربي) في جنوب غربي استكلندا، ونتج عن الحادث مقتل جميع ركاب الطائرة البالغ عددهم 259 شخصاً إضافة إلى
11 شخصاً من أهالي المدينة التي تناثر فوقها حطام الطائرة. إن التحقيقات
والفحوصات أثبتت أن الحادث تم (بفعل فاعل) وليس مجرد قضاء وقدر، فقد قام
المحققون البريطانيون بمساعدة الأنتربول باستجواب نحو اثني عشر ألف شخص
في أربعة وخمسين دولة، وأشارت نتائج التحقيقات إلى ضلوع أشخاص ليبيين في
الحادث، وبعد أربع سنوات من الصمت الأمريكي، وجهت الولايات المتحدة الاتهام
إلى ليبيا بتدبير حادثة (لوكربي) وصدرت وثيقة اتهام ضدها في 13 نوفمبر 1991م، وصادف هذا اتهام آخر من فرنسا للنظام الليبي بأنه مسؤول عن تفجير طائرة
(يوتا) المدنية الفرنسية فوق النيجر عام 1989م، وهو الحادث الذي راح ضحيته
170 شخصاً، وطالبت فرنسا ليبيا بتسليم أربعة أشخاص ليبيين مشتبه في أنهم
قاموا بتفجير الطائرة، بينما طالبت كل من بريطانيا والولايات المتحدة ليبيا بتسليم
شخصين ليبيين اتهما بتدبير حادثة (لوكربي) عن طريق وضع قنبلة في مخزن
حمولات الطائرة الأمريكية، والشخصان هما: الأمين فحيمة، وعبد الباسط
المقرحي.
نتائج توجيه الاتهام:
بصدور الاتهامات ضد ليبيا من ثلاث دول من الدول الخمس دائمة العضوية
في الأمم المتحدة، تكونت أغلبية تُجمِع على اتهام ليبيا، مما أدخل مجلس الأمن في
القضية، فاتخذ قرارات بناء على توجيه من تلك الدول بفرض عقوبات دولية على
ليبيا ما لم تتعاون سلطاتها لتسليم المشتبه بتورطهم في عملية التفجير.
واستمرت الضغوط على النظام الليبي أو بالأحرى: الشعب الليبي لإجبار
النظام هناك على تسليم المتهمين، وقامت الولايات المتحدة بفرض حظر جوي
واقتصادي على شعب ليبيا متهمة نظامه بأنه حرّض هذين الشخصين على تدبير
وتنفيذ الحادث، واشترط الأمريكان والإنجليز لرفع الحصار أن تسلم السلطات
الليبية الشخصين لمحاكمتهما في أحد البلدين: أمريكا أو بريطانيا.
الموقف الليبي والمناورات غير المفهومة:
رفض النظام الليبي الاتهامات الأمريكية والبريطانية، وأعلن مراراً أن ليبيا
ليست لها أدنى مسؤولية عن الحادث، ورفض تسليم الشخصين الليبيين بحجة أن
تسليمهما يمس (السيادة) الليبية ويمثل اعتداء على (كرامة) شعب عربي، وحاولت
القيادة الليبية أن تفك الحصار دون تسليم المتهمين ولكن دون جدوى، واضطرت
كل الدول العربية أن تشارك مرغمة في حصار الشعب الليبي، نزولاً على مقررات
(الشرعية) الدولية الجائرة التي درجت على إذلال الشعوب لمعاقبة الحكام في بلاد
المسلمين؛ ولما لم يجد النظام في ليبيا جدوى من التشدد، أظهر نوعاً من المرونة
في التعامل مع الخصوم، مما جعل المجتمع الدولي يتعاطف معه نوعاً ما، ثم
اقترحت ليبيا أن تتم المحاكمة في بلد ثالث محايد، بدلاً من أمريكا أو بريطانيا،
حتى ولو كانت استكلندا التي وقعت فوقها الطائرة، لكن الولايات المتحدة وبريطانيا
رفضتا هذا الاقتراح، فوضعتا نفسيهما في موقف حرج دولياً.
ومرت فترة من الجمود خيمت على الموقف، إلى أن أعلنت الولايات المتحدة
في شهر أغسطس من عام 1998م عن حدوث مشاورات بينها وبين بريطانيا من
جهة وهولندا من جهة ثالثة، بشأن إمكانية محاكمة الليبيين المتهمين أمام محكمة
اسكتلندية في هولندا، وبهذا تكون الدولتان قد وضعتا ليبيا على المحك، وأوقفتاها
على الأرضية التي طلبت الانطلاق منها، فقد سبق لليبيا أن اقترحت هذا وألحت
عليه، ووافقتها على ذلك جامعة الدول العربية أكثر من مرة منذ عام 1993م، فهل
تجاوب النظام الليبي مع الطرح الذي سبق أن طالب به؟ !
لقد كان متوقعاً أن تبادر ليبيا إلى الموافقة على الاقتراح بعد تخلي كلٍ من
أمريكا وبريطانيا عن المواقف السابقة، ولكن المفاجأة التي أدهشت الجميع أن
الموقف الليبي اتسم بالمراوغة، وطالب النظام الليبي الدولتين بإعلان حسن النية:
أولاً بتعليق إجراءات الحصار، وطالب بضمانات دولية للمحاكمة، وقوبل هذا
الموقف باستغراب كبير، حتى من أقرب المؤيدين لليبيا، ولم يتوقف الأمر عند هذا
الحد من التشدد الليبي، بل قابل النظام هذا المطلب بمطالب مضادة من باب
التعجيز، وتوجهت الجماهيرية الليبية (العظمى) بمذكرة رسمية تطلب فيها تسليم
مسؤولين كبار في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان لمحاكمتهم بتهمة
شن غارات على ليبيا عام 1986م، وأعلنت السلطات الليبية أنها ستنقل طلبها هذا
إلى مجلس الأمن الدولي ليمارس ضغطاً على الولايات المتحدة لتسليم كبار
المسؤولين الأمريكيين! ! والغريب أن هذا الطلب الليبي الذي جاء بعد 13 عاماً من
الغارة الأمريكية على ليبيا، جاء ليقايض قضية مدنية قائمة بأزمة عسكرية ماضية، وهذا ما كثف الشكوك حول سلامة موقف النظام الليبي، وجعل القضية تنتقل من
طور الاشتباه إلى طور الاتهام. ومما لم يستطع أحد فهمه ولا تحليله ذلك التمنع
الشديد والتأبي عن الاستجابة إلى طلب من شأنه أن يحل مشكلة كبيرة: لماذا كل
هذا الحرص على شخصين اثنين سيقدمان إلى المحاكمة لا إلى المقصلة، في مقابل
تحميل شعب بأكمله غوائل حصار صارم غاشم تتوالى سنواته لإهلاك الحرث
والنسل؟ ! ومن سوء الحظ أن القيادة الليبية لا تبدي اكتراثاً بحصاد الحصار، وقد
قال العقيد القذافي تعليقاً على الاقتراح الأمريكي البريطاني الأخير: (نحن لا نخاف
الحصار، بما فيه الحصار النفطي) وقال (إن بلادي لا تقبل أن تسلِّم أحداً من أبنائها
إلى أيٍ من بريطانيا أو الولايات المتحدة) ! !
إذن فتعريض ملايين الليبيين للإذلال بالحصار يعتبر في فهم القيادة عزة
وكرامة، أما تسليم شخصين فقط من رجال النظام، قد يُدانان أو يبرآن؛ فهو يُعد
في نظر القيادة الثورية اعتداءً على (كرامة) الشعب الليبي و (سيادة) الدولة الليبية! !
آثار الحصار:
أصيبت حياة الشعب الليبي بالشلل شبه التام بسبب الآثار المترتبة على
الحصار، وتدهور الاقتصاد الليبي بشكل خطير، وتضررت مقدرات الشعب على
المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وعاش الشعب الليبي المظلوم تحت
وطأة الحصار الظالم الذي فرضته الدول الكبرى، وأدى إلى تدهور الأوضاع بشكل
ينذر بكوارث كبرى إذا ظل على ما هو عليه؛ إذ بعد خمسة أشهر فقط من بداية
الحظر الجوي والحصار، بلغت خسائر ليبيا ما يزيد على 2 مليار دولار من
4/9/ 1992م وحتى نهاية إبريل عام 1994، كما أعلنت أمانة الصحة الليبية (وزارة الصحة) أن 300 رضيع وأكثر من 140 سيدة ماتوا بسبب نقص الأدوية أو تأخر وصولها من جراء الحظر الجوي المفروض على ليبيا منذ إبريل 1992م، ومات أكثر من 300 مريض كانوا بحاجة للعلاج في الخارج أثناء نقلهم براً إلى الدول المجاورة. وأفادت الإحصاءات إلى أن قطاع الزراعة تأثر إلى حد كبير، وبخاصة تربية المواشي حيث أدى نقص الأدوية البيطرية إلى خسارة تقدر بحوالي 40 ألف طن من اللحوم، وبلغت خسائر قطاع الطيران أكثر من 700 مليون دولار، وقطاع الصناعة نحو 500 مليون دولار، بالإضافة إلى الارتفاع الجنوني في أسعار المنتجات الصناعية هذا في غضون سنوات قليلة بعد بدء الحصار فما بالنا بما وصلت إليه الخسائر الآن.
وقفة مع النظام الجماهيري:
إذا كانت أكثر الشعوب العربية والإسلامية قد أُخضعت للعديد من العهود
المتتابعة التي جعلت منها (حقول تجارب) لأهواء الساسة، فإن الشعب الليبي لم
تتتابع عليه تجارب أنظمة مختلفة، بل تقلبات نظام واحد، ظل يتنقل في أفلاك
متناقضة ذات اليمين وذات الشمال؛ فالثورة التي يقال إنها بلغت سن الرشد بعد
دخولها عمر الثلاثين، جاءت لتحكم شعباً غنياً وبلداً بترولياً بطروحات النظام
الاشتراكي المخترع أساساً لبيئات الفقر والصراع الطبقي، وكعادة الاشتراكيين
العرب، فإن اشتراكيتهم تنجح دائماً في إفقار الغني ولا تفلح في إغناء الفقير! ! لقد
ضاعت جُل ثروات الشعب الليبي من أجل دعم ثورات في أنحاء العالم لا مصلحة
لليبيين ولا للعرب ولا المسلمين في تأييدها أو القيام بدعمها، والنظام في ليبيا قد
نصّب نفسه وصياً وحامياً لكل الحركات الثورية في العالم باستثناء الحركات
الإسلامية طبعاً وجازف ذلك النظام بحريات شعبه ليساهم في عمليات (التحرر) في
مجاهل الأرض شرقاً وغرباً! فهل تحرر هذا الشعب أولاً حتى يساهم في تحرير
غيره؟ ! للأسف؛ فإن الحقائق تأتي واضحة وناضحة بما يفضح مزاعم عهد
(التحرر) الوطني.
ففي ليبيا يطبق نظام لا يخضع لأية مقاييس، ولا تُلزمه أية معايير؛ فموقع
(قائد الثورة) مثلاً، خارج النص، فهو ليس رئيساً ولا ملكاً ولا أميراً ومع هذا فهو
الذي يملك كل خيوط الهيمنة على كل الأمور داخل ليبيا ولقبه الرسمي هو (الأخ
قائد الثورة) ، فهو الموجه والمحرِّض والمرشد، ولذا فإنه فوق المساءلة، وليس
قابلاً للمحاسبة؛ لأنه يوجه ولا يقرر.
وقد طرح القذافي (الديمقراطية الشعبية) بديلاً عن الديمقراطية الغربية
والاشتراكية الشرقية، لتنسب بعد ذلك كل آفات وعاهات العهد الثوري إلى الشعب
وإلى لجانه الثورية! !
وقد يظن البعض أن (اللجان الثورية) هي تمثيل حقيقي لإمساك الشعب بزمام
السلطة، ولكن الحقيقة هي أن تلك اللجان ليست إلا واجهة تمارس السلطة الانقلابية
الحكومية مهامها من ورائها وهي ترتدي العباءة الشعبية بدلاً من البزة العسكرية ولا
مجال للمشاركة ولو من بعيد لأي قوى أخرى حزبية أو غير حزبية؛ فالنظام الليبي
لا يسمح بتكوين أحزاب، ويرفع شعاراً عن الحزبية السياسية يقول: (من تحزب
خان) . وليست هناك مرجعية سياسية يمكن أن تلجأ إليها القوى المعارضة لتنتزع
بها شيئاً من حقوقها؛ فليبيا من الدول القليلة جداً في العالم التي تعيش بدون دستور
مكتوب، بعدما تم إلغاء الدستور عام 1977م، أما دستورها غير المكتوب والذي
ينوب عن كل الدساتير في عُرف النظام بل يفوقها فهو (الكتاب الأخضر) الذي ألفه
العقيد وهو يعيش عقده الثالث، ولكن ذلك لم يمنع من صدور قوائم من القوانين
الاستثنائية الغربية والشاذة، ومن تلك القوانين، قانون صدر في عام 1972م يتم
بمقتضاه تطبيق عقوبة الإعدام على كل من أدين بـ (خيانة الوطن) ومعلوم أن هذه
عبارة فضفاضة يمكن أن تدخل السلطات فيها من تشاء عندما تشاء في ظل قيادة
تقول بلسان الحال: (أنا الدولة) ! !
وفي عام 1988م، صدر القانون رقم 5، فأعطى مكتب الادعاء الشعبي (أو
القضاء العام) سلطة التحقيق في الجرائم السياسية دون أن يتضمن نص ذلك القانون
أي إشارة لحقوق المتهم أوالسجين في الدفاع عن نفسه أو في طريقة المعاملة أو
ضمانات العدالة.
وفي عام 1996م صدر قانون يقضي بإعدام كل من اشترك في عمل (مناوئ
لأهداف الثورة) . وللقارئ أن يتخيل كم من الأعمال والأقوال المشروعة في الأديان
والقوانين في العالم، يمكن أن تدخل تحت طائلة هذا القانون الجائر.
ومن أغرب مفارقات الثورة الليبية (الشعبية) في تعاملها مع حقوق الإنسان،
أن لجانها الشعبية، أقرت مبدأ العقوبة الجماعية أو قل (الجماهيرية) لكل مدينة أو
قرية أو مجلس محلي أو قبيلة أو عائلة، إذا ما سكتت أو امتنعت عن الإبلاغ عن
مرتكب جريمة (تطرف) أو (تعصب) أو تخريب) [2] .
أما كيف تطبق هذه العقوبة الجماعية؟ فإن ذلك يكون بحرمان المدينة أو
القرية أو غيرها من الخدمات العامة الأساسية: (الكهرباء، والماء، والغاز) وبأن
توقف كل المشاريع والمعونات التي تقدمها لها الدولة!
ولا شك أن في هذا مخالفة لكل ما تعارف عليه البشر من قوانين في كل زمان
ومكان؛ صحيح أن هذا السلوك يمكن أن يمارس على سبيل البغي والبطش
والتنكيل في بعض الأحيان، أما أن تصدر به قوانين، وتسن به تشريعات فهذا ما
لم يحدث في مكان في العالم إلا في ليبيا!
ولم تقف اللجان الشعبية للسلطة عند حد التلاعب بالتشريعات الأرضية، بل
تلاعبت أيضاً بالتشريع السماوي، بعد أن عطلته ثم جمدته، والآن تجتزئ منه ما
يتناسب مع توجهاتها بعد إضفاء مسحة (ثورية) عليه! فقد صدرت قوانين بتنفيذ حد
(قطع اليد) على كل من يمارس نشاطاً اقتصادياً بدون ترخيص! ! أو من يتاجر
بالعملة الأجنبية، أو من يدان بالفساد العام..! !
ولا ندري وفق أي فقه تتم هذه العقوبات! ولكن المقطوع به أنها أبعد ما تكون
عن شريعة القرآن، بل هي أشبه بشريعة (جنكيز خان) ! الذي وضع قانون الياسق
من خليط من الشرائع الأرضية وبقايا الشرائع السماوية!
وفي تحرك أراد به القذافي أن يسحب البساط من تحت أرجل أصحاب الاتجاه
الإسلامي المنادين بتطبيق الشريعة في ليبيا، عمدت لجانه الشعبية إلى تطبيقات
(ثورية) لبعض أحكام الشريعة، فطبقت علناً وعلى شاشات التلفاز أحكاماً بالقطع
والجلد والرجم في الوقت الذي كان الإعلام يطنطن فيه باتهام الإسلاميين بـ
(الزندقة) ويطالب أفراد الشعب بقتل ... نعم بقتل.. كل إسلامي بدعوى الزندقة! !
وقد درج العقيد على وصف معارضيه السياسيين في الخارج (لأنه لا يوجد منهم أحد
في الداخل) بـ (الكلاب) ! ولهذا فإن من يُقتل منهم غيلة، أو يُخطف سراً فإنه
يذهب غير مأسوف عليه ويموت ميتة (الكلاب) في نظر النظام التحرري!
وبعد كل هذا يريد النظام في ليبيا أن يقنع العقلاء في العالم بأنه حريص على
مصلحة الشعب الليبي إلى درجة أنه يعتبر محاكمة شخصين اثنين فقط من هذا
الشعب قضية (كرامة) يضحي من أجلها بالاقتصاد الليبي، وبالبترول الليبي ... بل
وبالشعب الليبي نفسه! وليس من المستبعد أن تتعرض ليبيا إلى ضربات عسكرية
شديدة إذا استمر مسلسل المراوغة، أو ثبت أن التهمة فعلاً من تدبير النظام الليبي.
بقي أن نذكر أنه لم يعد سراً أن هذين الشخصين المطلوبين دولياً هما من
أعضاء جهاز المخابرات الليبي! وهنا يبرز السؤال الكبير: هل ظل العقيد الليبي
يكافح وينافح بالنيابة طيلة عقد كامل عن مواطنين ليبيين اثنين ويضحي لأجلهما
بمصالح شعب كامل لمصلحة هذا الشعب؟ أم أنه يدافع ويرافع بالأصالة عن نفسه
خشية أن تقود المحاكمة إلى توجيه الاتهام إليه شخصياً، باعتبار أن الرجلين لم
يكونا لينفذا شيئاً دون علمه أو دون إذنه؟ ! وإلا ... فلو كان الأخ القائد على يقين
ببراءة (موكليه) فلماذا يصر على عدم تسليمهما للمحاكمة؟ !
إن هذا هو السؤال الذي يغامر النظام الليبي وتجامله فيه الأنظمة العربية
للحيلولة دون الإجابة عنه ... ولكن الأيام وحدها ستجيب عن هذا التساؤل، وسواء
أثبتت إدانة الشخصين أو لم تثبت في جريمة تفجير الطائرة المدنية فوق (لوكربي)
فإن هناك جريمة أخرى كاملة قد وقعت ونفذت على مرأى ومسمع من العالم أجمع،
وهي إيقاع عقوبات تستمر لسبع سنوات على تهمة لا تزال قيد التحقيق! ! ولا
ندري من أيهما نعجب: أمن من غطرسة القوة الغربية التي تعاقب قبل ثبوت
الاتهام (كما حدث أيضاً في السودان وأفغانستان) ؟ أم من عنتريات الزعامات
الثورية التي تحارب شعوبها، ثم تريد بعد ذلك أن تحارب بهم العالم؟ !
لك الله يا شعب ليبيا ... وكان الله في عونك يا شعب العراق! !