دراسات في الشريعة والعقيدة
من القواعد الفقهية الكبرى
(الضرر يزال)
فواز أبو راحيك
الضرر يزال:
هذه القاعدة تعتبر من القواعد الكبرى التي يعتمد عليها الفقهاء في تقرير
الأحكام الشرعية للحوادث والمسائل المستجدة، وأغلب كتب القواعد الفقهية عبرت
عنها بقول: (الضرر يزال) ، وعبر عنها الشيخ عبد الرحمن السعدي، والدكتور
البورنو، والأستاذ الزرقاء [1] بـ (لا ضرر ولا ضرار) وهو ما جعله الآخرون
أصلاً لها.
أصل القاعدة:
أصلها قوله لله: (لا ضرر ولا ضرار) وهو حديث أخرجه مالك في الموطأ
عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً.
وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي، والدارقطني من حديث أبي سعيد
الخدري، وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت رضي الله
عنهم [2] .
معنى الحديث:
الضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقاً.
الضرار: مقابلة الضرر بالضرر.
والحديث يفيد تحريم الضرر بشتى أنواعه؛ لأنه نوع من أنواع الظلم؛
ويشمل ذلك دفعه قبل وقوعه بالطرق الممكنة، ورفعه قبل وقوعه بالتدابير
والإجراءات اللازمة.
ولا يجوز أيضاً مقابلة الضرر بالضرر؛ لأنه توسيع لدائرة الضرر؛
فالإضرار لا يُلجأ إليه إلا لضرورة، ويستثنى من ذلك ما خُصّ بدليل وكان عقوبة
شرعية مثل الحدود والعقوبات الأخرى كالقصاص.
شرح القاعدة:
هذه القاعدة من أركان الشريعة، وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة
وهي أساس لمنع الفعل الضار وترتيب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، وهي
أيضاً سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المصالح ودرء المفاسد؛ وهي عدة الفقهاء
وعمدتهم وميزانهم في تقرير الأحكام الشرعية للحوادث [3] .
ونص هذه القاعدة ينفي الضرر فيوجب منعه مطلقاً، ويشمل ذلك الضرر
العام والضرر الخاص، ويشمل أيضاً دفع الضرر قبل وقوعه، بطرق الوقاية
الممكنة، كما يشمل أيضاً دفعه قبل وقوعه بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره
وتمنع تكراره؛ ومن ثَمّ فإن إنزال العقوبات المشروعة بالمجرمين لا ينافي هذه
القاعدة وإن ترتب عليها ضرر بهم؛ لأن فيها عدلاً ودفعاً لضرر أعم وأعظم.
ما يبنى عليها من أبواب الفقه:
يبني الفقهاء على هذه القاعدة كثيراً من أبواب الفقه، منها:
الرد بالعيب، وجميع أنواع الخيارات من اختلاف الوصف المشروط
والتعزير وإفلاس المشتري والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شرعت لدفع ضرر
القسمة، والقصاص والحدود والكفارات، وضمان المتلف والقسمة، ونصب الأئمة
والقضاة، ودفع الصائل وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإفساد
أو غير ذلك [4] .
المقصود بالضرار:
نفي فكرة الثأر المحض لمجرد الانتقام الذي يزيد الضرر ويوسع دائرته؛
فالإضرار ولو كان على سبيل المقابلة لا يجوز أن يكون هدفاً مقصوداً؛ وإنما يُلجأ
إليه اضطراراً عندما لا يكون غيره من طرق التلافي؛ والقمع أنفع وأفضل منه.
فمن أتلف مال غيره مثلاً لا يجوز أن يُقابل بإتلاف ماله؛ لأن ذلك توسيع
للضرر بلا منفعة، وأفضل منه تضمين المتلِف قيمة ما أتلف، فإن فيه نفعاً
بتعويض الضرر، وتحويل الضرر نفسه إلى حساب المعتدي، وذلك بخلاف
الجناية على النفس أو البدن مما شرع فيه القصاص؛ فمن قتل يقتل، ومن قطع
يقطع؛ لأن هذه الجنايات لا يقطعها إلا عقوبة من جنسها [5] .
من أحكام هذه القاعدة:
1- لو انتهت مدة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يُستَحصَد الزرع فإن
الأرض تبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد منعاً لضرر المستأجر بقلع
الزرع قبل أوانه.
2- لو باع شيئاً مما يسرع إليه الفساد كالفواكه مثلاً، وغاب المشتري قبل نقد
الثمن وقبض المبيع وخيف فساده، فللبائع أن يفسخ البيع ويبيع غيره دفعاً للضرر.
3- يجوز حبس المشهورين بالدعارة والفساد حتى تظهر توبتهم، ولو لم
يثبت عليهم جرم معين بطريق قضائي دفعاً لشرهم؛ لأنهم قد يحتاطون ويتحفظون، فقد يملأون الدنيا فساداً وإضراراً ولا يمكن إثبات شيء عليهم بطريق قضائي [6] .
قواعد تتعلق بهذه القاعدة:
يتفرع عن هذه القاعدة ويندرج تحتها ويتعلق بها قواعد، منها:
1-الضرورات تبيح المحظورات:
هذه القاعدة مستفادة من استثناء القرآن الكريم في حالات الاضطرار الطارئة
في ظروف استثنائية بقوله تعالى: [إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ] [الأنعام: 119] بعد
ذكر طائفة من المحرمات، لذا جاز للطبيب الكشف على عورات الأشخاص إذا
توقفت عليها مداواتهم، وجاز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر عند
الغصة، والتلفّظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال وأخذ مال الممتنع من أداء
الدين بغير إذنه، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله بشرط عدم نقصان الضرورة في
نظر الشرع عن المحظور الذي اقتضت إباحته كما اشترط الشافعية وغيرهم [7]
فلو كان الميت نبياً فلا يحل أكله للمضطر؛ لأن حرمته أعظم في نظر الشرع من
مهجة المضطر؛ وكذا لو دفن الميت بلا تكفين فلا ينبش منه؛ لأن مفسدة هتك
حرمته أشد من عدم تكفينه الذي قام التراب بالستر مقامه.
2- الضرورات تقدر بقدرها:
هذه القاعدة تعتبر قيداً لسابقتها؛ فالاضطرار إنما يبيح من المحظورات مقدار
ما يدفع الخطر؛ فلا يجوز الاسترسال؛ ومتى زال الخطر عاد الحظر؛ فالطبيب
يكشف من العورة لمداواتها بالقدر الذي يحتاج إليه كشفه فقط، والمرأة لا يجوز أن
يطلع على عورتها للتطبيب أو التوليد رجل إذا وجدت امرأة تحسن ذلك؛ لأن
اطلاع الجنس على جنسه أخف محظوراً، وتقبل شهادة النساء في المجالات التي لا
يمكن اطلاع الرجال عليها؛ وذلك بسبب الضرورة، ولكن لا تقبل شهادة النساء
فقط دون أن يكون معهن أحد من الرجال في المحال التي يمكن اطلاع الرجال عليها؛ لأن ما جاز للضرورة يُقدّر بقدرها [8] .
3- الضرر لا يزال بمثله (أو بالضرر) :
هذه القاعدة تعتبر قيداً لقاعدة: (الضرر يزال) التي أوجبت إزالة الضرر قبل
وقوعه ودفعه بعد وقوعه؛ فإزالة الضرر لا يجوز أن تكون بإحداث ضرر مثله؛
لأن هذا ليس إزالة؛ ومن باب أوْلى أن لا يزال الضرر بضرر أعظم منه؛
فالشرط أن يزال الضرر بلا إضرار بالغير، فإن أمكن وإلا فبأخف منه.
وعلى ذلك لا يجوز لإنسان محتاج إلى دفع الهلاك عن نفسه جوعاً أن يأخذ
مال محتاج مثله، كما لا يجوز لمن أُكره على القتل أن يقتل إذا كان المراد قتله
مسلماً بغير وجه حق.
* وإذا ظهر في المبيع عيب قديم وحدث عند المشتري عيب جديد امتنع رد
المبيع بالعيب القديم لتضرر البائع بالعيب القديم إلا أن يرضى [9] .
4- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
5- اختيار أهون الشرين أو أخف الضررين.
6- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما [10] .
هذه القواعد الثلاث ممتدة المعنى؛ أي أن الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما
أشد من الآخر فيتحمل الأخف ولا يرتكب الأشد.
والأصل في هذه القواعد قولهم: (إن من ابتلي ببليتين وهما متساويتان يأخذ
بأيتهما شاء، وإن اختلفتا يختر أهونهما؛ لأن مباشرة الحرام لا تجوز إلا للضرورة، ولا ضرورة في حق الزيادة) [11] .
فلو كان برجل جرح لو سجد سال دمه فإنه يومئ ويصلي قاعداً؛ لأن ترك
السجود مع المحدث أهون من ترك الصلاة مع المحدث، وترك السجود هنا أيضاً
يدفع عن الجريح ضرر خروج الدم ونزفه، وكذا لو أن مصلياً لو صلى قائماً فإنه
ينكشف من عورته ما يمنع جواز الصلاة، ولو صلى قاعداً فلا ينكشف منه شيء
فإنه يصلي قاعداً؛ لأن ترك القيام أهون.
ولو ابتلعت دجاجة شخصٍ لؤلؤة ثمينة لغيره؛ فلصاحب اللؤلؤة أن يمتلك
الدجاجة بقيمتها ليذبحها، وكذا جاز شق بطن المرأة الميتة لإخراج الجنين إذا كانت
ترجى حياته.
7- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام:
هذه القاعدة مبنية على المقاصد الشرعية في مصالح العباد؛ واستخرجها
المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص؛ فالشرع جاء ليحفظ على الناس دينهم
وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم؛ فكل ما يؤدي إلى الإخلال بواحد منها فهو
مضرة يجب إزالتها ما أمكن؛ تأييداً للمقاصد الشرعية بدفع الضرر الأعم بارتكاب
الأخص؛ ولهذه الحكمة شرعت الحدود وشرع القصاص.
ومن فروع هذه القاعدة: جواز رمي كفار تترسوا بالأسرى من المسلمين أو
صبيانهم أو نسائهم لدفع ضرر زحفهم عن العموم [12] .
وجاز حجر المغنّي الماجن صيانة لدين الناس، والحجر على الطبيب الجاهل
حرصاً على أرواحهم، وعلى المكاري [13] المفلس حرصاً على أموالهم وأوقاتهم،
وكذا جاز التسعير على الباعة دفعاً لضررهم عن العامة أو بيع أموال المحتكرين
المحتكَرة وإن أضرهم ذلك دفعاً لضرر الاحتكار عن العامة.
8- درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع [14] :
فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدّمَ رفع المفسدة؛ لأن اعتناء الشرع بالمنهيات
أشد من اعتنائه بالمأمورات، والمراد بدرء المفاسد ورفعها وإزالتها لما يترتب على
المفاسد من ضرر جسيم ينافي حكمة الشارع في النهي.
ودليل هذه القاعدة قوله لله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا
منه ما استطعتم) [15] .
ومن أمثلة هذه القاعدة:
منع التجارة في المحرمات من خمر ومخدرات وخنزير، ولو أن فيها أرباحاً
ومنافع اقتصادية.
منع مالك الدار من فتح نافذة تطل على مقر نساء جاره؛ ولو كان فيها منفعته.
منع الجار من التصرف في ملكه تصرفاً يضر بجيرانه؛ كاتخاذ معصرة أو
فرن يؤذي الجيران بالرائحة أو الدخان.
ومثل هذه القاعدة قولهم: (إذا تعارض المانع والمقتضي يُقدّم المانع، إلا إذا
كان المقتضي أعظم) والمراد بالمقتضي هنا: الأمر الطالب للفعل؛ فوجود المانع
يمنع من الفعل غالباً.
وقولهم أيضاً: (إذا اجتمع الحلال والحرام أو المبيح والمحرم غلب الحرام) .
9- الحاجة تنزل منزلة الضرورة (عامة أو خاصة) [16] :
ومن هذا القبيل جوزت الإمارة على خلاف القياس؛ لأن المعقود عليه وهو
المنفعة معدوم؛ والقياس البطلان؛ ومنه تجويز السّلَم على خلاف القياس؛ لكونه
بيع معدوم دفعاً لحاجة المفاليس، ومنه جواز الاستصناع، والدخول إلى الحمام
بأجرة مع جهالة مكثه فيه وجهالة ما يستعمل من الماء.
ومنه أيضاً تجويز بيع الوفاء لمّا كثرت الديون على أهالي بخارى ومست
الحاجة إلى ذلك مع أن بيع الوفاء [17] غير جائز أصلاً.
شرح القاعدة:
الضرورة أشد درجة ودافعاً من الحاجة.
الضرورة: ما يترتب على عصيانها خطر كما في الإكراه الملجئ، وخشية
الهلاك جوعاً.
الحاجة: ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة وصعوبة.
والمراد بكونها عامة: أن يكون الاحتياح شاملاً جميع الأمة.
والمراد بكونها خاصة: أن يكون الاحتياج لطائفة منهم كأهل بلد أو حرفة،
وليس المراد بخصوصها كونها فردية. وعلى هذا يكون معنى القاعدة: أن
التسهيلات التشريعية الاستثنائية لا تقتصر على حالات الضرورات الملجئة، بل
حاجات الجماعة مما دون الضرورة توجب التسهيلات الاستثنائية أيضاً [18] .
الخاتمة:
لقد حرص الإسلام على رفع الضرر عن العبد بعد وقوعه، كما حرص على
دفعه قبل وقوعه بشتى الوسائل والأساليب الناجعة والإجراءات والتدابير الرادعة؛
مما يحقق للعبد المصلحة، ويدفع عنه المفسدة وفقاً لنظرية المصالح والمفاسد التي
تقتضيها المقاصد الشرعية لحفظ نفس العبد ودينه وعرضه وعقله وماله.
ومن هنا نجد أن قاعدة: (الضرر يزال) هي قاعدة هامة جداً لتحقيق المقاصد
الشرعية؛ حيث تقتضي تحقيق المصلحة ودفع المفسدة وهي ما تقتضيها قواعدها
الفرعية التي تبين معنى الضرر وكيف تكون إزالته؟ وتبين حالات الضرورة ومتى
يفعل العبد المحظور من أجلها؟ كما أن قاعدة درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع
التي بينت لنا أن الإنسان لا يجوز له أن يلحق الضرر بغيره مقابل انتفاعه هو بحقه؛ وهذا ما اصطلح عليه شراح القانون الحديث اليوم بنظرية (التعسف في استخدام
الحق) والتي بينت المسموح والممنوع في استخدام الحق.
ومن هنا نلحظ أن هذه القواعد توفر للعبد الراحة، وتبين له ما يجب عليه
فعله وما لا يجب متى كان هذا الفعل يلحق الضرر بالآخرين، وإن كان حقاً خالصاً
له؛ فهذه القواعد تنظم شؤون العباد وتضع الأسس المثلى والضوابط الجيدة لتعامل
بعضهم مع بعض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.