دراسات تربوية
الشباب المراهق في الإسلام
(2من2)
محمد حامد الناصر
حدد الكاتب في الحلقة الماضية معنى المراهقة ومرحلتها السنية، ثم تحدث
عن أهمية هذه المرحلة، وكيفية التعامل الصحيح مع الشباب في هذا السن، ومنها: تربية انفعالات المراهق وترويضها، ومراعاة حاجاته الأساسية. ويواصل الكاتب
إيضاح جوانب أخرى في هذه الحلقة. ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -
شباب السلف الصالح قدوة مثلى:
إن هذا السن هو سن الطاقات المتفجرة، سن الإبداع البناء، ولقد ضرب
سلفنا الصالح أروع الأمثلة في مختلف ميادين الدعوة والتضحية والعلم والجهاد،
ولمّا يبلغوا سن العشرين، بل كان بعضهم لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
كانوا فتياناً بعمر الورود عندما تحملوا العذاب والاضطهاد في سبيل عقيدتهم
في جنبات مكة المكرمة.
منهم مصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وطلحة الخير، وسعد بن أبي
وقاص، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً، فقد تحملوا الجوع والعطش،
وهم محاصرون في شِعب أبي طالب، حتى جهدوا، فكانوا يأكلون ورق الشجر ولم
يتجاوزوا سن الخامسة عشرة من أعمارهم.
أما آل ياسر، وبلال بن رباح، وخباب بن الأرت، فقد لاقوا من العذاب
ألواناً، وهم صابرون لا يغير ذلك من دينهم شيئاً.
فهذه تطبيقات واقعية، تدحض أقوال الزاعمين: (أن فترة المراهقة فترة
أزمات، وصراعات) وتؤكد أن التربية المتوازنة تحت مظلة العقيدة قد حوّلت
صغار الشباب أولئك إلى مجاهدين بررة، بل إلى قادة للجيوش الإسلامية، تنشر
التوحيد في ربوع الأرض [1] .
كان صغار الشباب في فجر الدعوة يتسابقون إلى ساحات الجهاد كما يتسابق
شباب اليوم إلى ساحات الملاعب، وأماكن اللهو والترفيه.
وهل سمعت أخي الكريم! بشباب يبكون لأنهم رُدّوا عن ساحات المعارك،
ولمّا يبلغوا الحلم بعدُ؟ !
وهل تُغلب أمة هذا شأن صغارها، فما بالك بكبارها؟ !
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
كان معاذ بن الحارث ومعوذ أخوه، وهما ابنا عفراء، شابين من شباب
الأنصار، شهدا معركة بدر الكبرى.
قال الشابان لابن عوف رضي الله عنه قبل بدء المعركة: يا عم أتعرف
أبا جهل؟ قد بلغنا أنه يؤذي رسول الله؛ فدلهما عليه، وعندما حمي الوطيس، شد الشابان على عدو الله، فوقع صريعاً، وأجهز عليه بعد ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
شابان في سن المراهقة، لا يقبل طموحهما أقل من قائد معسكر الشرك
وصنديدهم آنذاك.
أما الذين ردهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنهم في معركة أحد
فكثير، منهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رُدّ في أحد، وفي غزوة الخندق
أجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد بلغ الخامسة عشرة [2] .
وقد رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ: أسامة بن زيد، وزيد بن
ثابت، والبراء بن عازب، وأجازهم كلهم يوم الخندق.
وممن رُدّ يومئذ: سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة، فقيل: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ؛ فأجازه، وقيل: يا رسول الله إن سمرة
يصرع رافعاً؛ فأجازه [3] .
قصص البطولة عند أبناء هذه المرحلة لا تنتهي.. فعمير بن أبي وقاص أخي
سعد، ومن تلك الروائع المأثورة عنه ما يروي سعد أن أخاه عميراً كان يتوارى قبل
أن يعرضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخروج إلى بدر: فقلتُ: ما لك
يا أخي؟ فقال: أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيستصغرني
فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.
وبالفعل رده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى عمير، فأجازه رسول
الله. قال سعد: كنت أعقد له حمائل سيفه من صغره، فقتل ببدر وهو ابن ست
عشرة سنة، قتله عمرو بن ود، وكان هذا من صناديد قريش [4] .
ماذا يقول شباب اليوم أمام هؤلاء الصبيان وقد كانوا في سن المرحلة ...
المتوسطة في هذه الأيام؟ !
ماذا يقولون؟ وها هو حنظلة رضي الله عنه، يخرج ليلة زفافه تاركاً
عروسه ليلبي منادي الجهاد، وعندما استشهد في معركة أحد، أخبر رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- بقوله: (إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة، فاسألوا
أهله ما شأنه؟ (فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة.
قال ابن إسحق: فقال رسول الله: (لذلك غسلته الملائكة) [5] .
هذه هي تربية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وهذا ما ينبغي
أن نسعى إلى تحقيقه تربيةً واقتداءً.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ظهرت
كفاءات قيادية نادرة، سيّروا الجيوش المجاهدة، ومن هؤلاء علي بن أبي طالب،
وأسامة بن زيد، ومن سار على نهجهم كمحمد بن القاسم الثقفي.
فكان علي رضي الله عنه بطلاً مغواراً، وكان اللواء بيده في كثير من
المشاهد والغزوات، ودفع الرسول لله إليه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة
وكان حامل الراية يوم خيبر.
أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فقد كان أحد القادة الفتيان، توفي رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ولأسامة عشرون سنة، وقيل ثمانية عشر عاماً، وكان
قد أمّره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جيش عظيم فتوفي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه، لمحاربة الروم في الشام،
وكان عمر بن الخطاب يجله ويكرمه، وكان لم يلق أسامة قط إلا قال: السلام عليك
أيها الأمير ورحمة الله، توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأنت عليّ أمير.
قال عروة بن الزبير: فلما بلغ الجيش الشام أصابتهم ضبابة شديدة فسترتهم حتى
أغاروا وأصابوا حامية العدو [6] .
ومن القادة الشباب محمد بن القاسم الثقفي، ولاّه الحجاج فتح السند (باكستان
الآن) فهدم صنم الهنود، وقتل ملكهم، ورجع بجيشه بغنائم عظيمة. قال أحد
معاصريه فيه:
ساس الرجال لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
أخي الشاب: إن أمتك في انتظارك، حتى تقيل عثرتها وتعيد أمجادها..
قد أعدّوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل [7]
وقد نبغ شباب الرعيل الأول في العلوم المختلفة: فنبغوا وكانوا قمماً عالية في
كل شيء، ويأتي على رأس هؤلاء الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما.
قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس) كان
أصحابه يسمونه الحَبْر، كان يطلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وعمره حين وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً، يقول رضي
الله عنه: (إن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي
على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: (يا ابن عم
رسول الله ما جاء بك؟ هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟ (فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.
فأسأله الحديث..) فكان عَلَماً في التفسير والقرآن وعلومه، والحديث وعلوم الشعر
واللغة [8] .
وزيد بن ثابت الأنصاري، كان عمره حين قدم الرسول - صلى الله عليه ...
وسلم - المدينة إحدى عشرة سنة، جمع القرآن زمن أبي بكر كما ثبت في الصحيح.
ومن فتيان الصحابة وعلمائهم: عمرو بن حزم الخزرجي، استعمله رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع عشرة سنة، على أهل نجران ليفقههم في
الدين، ويعلمهم القرآن.
وربيعة الرأي صار محدّث المدينة وفقيهها وإمامها رغم حداثة سنه؛ كان
مجلسه يضم مالك بن أنس (صاحب المذهب المعروف) وأبا حنيفة النعمان وسفيان
الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد [9] .
والإمام أحمد رحمه الله كان قد برع في طلب الحديث وعمره ست عشرة سنة، نشأ يتيماً وعنيت به أمه. واشتهر علمه في الآفاق، وقيل: إنه طلب العلم وهو
ابن خمس عشرة سنة، وأنه حج وعمره عشرون سنة ماشياً، ليس معه إلا جراب
فيه كتبه، كان يضعه فوق لَبِنَةٍ، ويضع رأسه عليه [10] .
ومن علماء هذه الأمة الإمام البخاري، ربته أمه ثم قرأ الكتب المشهورة وهو
ابن ست عشرة سنة، وصنف في قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وهو ابن
ثماني عشرة، وصنف كتاب التاريخ إذ ذاك عند قبر رسول الله لله في الليالي
المقمرة (هدي الساري مقدمة فتح الباري) .
أدبهم مع شيوخهم: تلقى الإمام أحمد بعض العلم والسنن عن الإمام الشافعي
خلال إقامته بالعراق، وانتقل إلى مصر وتوفي فيها. كان الإمام أحمد يقول: (ما
بتّ منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) ولما سأله ابنه عبد الله: أي
رجل كان الشافعي؟ قال: (يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن،
هل لهذين من خَلَفٍ؟ أو عنهما من عِوض؟) [11] .
وعندما علم سفيان الثوري بقدوم الإمام الأوزاعي إلى مكة للحج خرج منها
سفيان يستقبل ضيفها، حتى لقيه بذي طوى، وأخذ بخطام بعيره يقوده قائلاً:
الطريقَ للشيخ ...
هكذا كان طلب العلم عند شباب هذه الأمة، علماً وأدباً وخشوعاً لله.
بقدر الجد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي
هؤلاء هم قدوتك أخي الشاب، أبناء الرعيل الأول؛ وليسوا شباب الفن
والطرب وأجيال الهزائم!
هذه نماذج نضعها بين يديك ولك فيها قدوة حسنة تنسج على منوالها بإذن الله،
عسى أن تكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وفقنا الله وإياك إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد لله رب العالمين.