مجله البيان (صفحة 2822)

إشراقات قرآنية

وخلق كل شيء فقدره تقديراً

عبد العزيز مصطفى

لا شك أن المعرفة بالله تورث المحبة والخشية واليقين؛ فكلما كان العبد بالله

أعرف، كلما كان له أخوف، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: [إنَّمَا

يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) وقد كان رسول الله لله أعلم الناس

وأعرفهم، ولهذا فإنه كان أخشى الناس لله تعالى قال لله: (أنا أعرفكم بالله وأشدكم

له خشية) [1] .

ونحن مدعوون إلى أن نزيد معرفتنا بالله، لتزداد خشيتنا له فتخشع قلوبنا له

[أَلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا

كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ]

[الحديد: 16] .

ولهذه االمعرفة بالله سبل لا يُتوصل إليها بدونها، يقول ابن القيم رحمه الله:

(الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته عن طريقين: أحدهما: النظر في

مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته

المسموعة المعقولة..) [2] .

ومن القرآن العظيم نلتمس الطريقين، فهو يفتح القلوب للنظر إلى مفعولات

الله، ويفتق الأذهان والعقول إذا تفكرنا وتدبرنا في آياته.

إن النظر في مفعولات الله تفكّر، وقد دُعينا إلى التفكر [أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي

أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمَّى]

[الروم: 8] .

وإن من أعظم ما يعيننا على النظر في مفعولات الله: التأمل في تقديره

سبحانه وتعالى في خلقه، فهو القائل سبحانه: [وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً]

[الفرقان: 2] .

فلله تعالى في كل شيء من خلقه قدْر وتقدير، وهذا التقدير معناه إعطاء كل

شيء مقداراً وكمّاً محدداً على سبيل الحكمة، والتقدير أيضاً: إعطاء الشيء القدرة؛ فتقدير الله الأشياء على وجهين: أحدهما: بإعطاء القدرة، والثاني: بجعلها على

مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة [3] .

ونحن إذا تأملنا حديث القرآن عن التقدير، لوجدنا هذا التقدير بادياً في معالم

الخلق كلها؛ فالتقدير بادٍ في خلق السماوات، وباد في خلق الأرض وفي خلق

الإنسان على الأرض وفي رزقه وفي حياته وفي مماته.

وسنرى الآن أن القرآن قد حوى في إيجاز وإعجاز الحديث على هذه المعالم

فأشار إليها كلها، ولفت نظر الإنسان للتفكر في تقدير الله تعالى فيها بكلياتها

وجزئياتها.

التقدير في السموات:

إن أعظم ما يظهر لنا من المخلوقات السماوية في عالم الشهادة، وأكبر ما له

تعلق بحياتنا منها، هذان النيّران العظيمان: الشمس والقمر، ولا شك أن السماوات

مملوءة بملايين المخلوقات غيرها من النجوم والكواكب، وأيضاً الملائكة التي خلقت

لسكنى السماء، ولكن يبقى النيّران الشمس والقمر من أهم مخلوقات السماء التي

تتعلق بهما حياة الإنسان على الأرض، فلننظر إلى حديث القرآن عن تقدير هذين

المخلوقين العظيمين، يقول الله تعالى: [هُوَ الَذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً

وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] [يونس: 5] .

فالآية تشير هنا إلى تقدير له تأثير مباشر على حياة الإنسان، [وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ] أي قدر سيره في منازل [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] يعني حساب الأوقات

من الأشهر والأيام والليالي، وقد خُص القمر في هذا السياق بالتقدير؛ لسرعته

ولأن دوراته وتحركاته لها تعلق أكثر بأحكام الشرع، والمخاطبون هنا خطاباً أولياً

هم أهل الإيمان بهذا الشرع [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] قال الألوسي رحمه

الله: (وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة للشمس، ولأن منازله معلومة

محسوسة، ولكونه عمدة في تواريخ العرب، ولأن أحكام الشرع منوطة به في

الأكثر) [4] وقد أشار القرآن إلى لون آخر من التقدير المتعلق بالقمر في قوله تعالى: [وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ] [يس: 39] فالعباد يرون

القمر في منازله المقدرة تلك: يولد هلالاً، ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً،

ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً.. كالعرجون القديم.

ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الأجرام والكواكب

والنجوم التي لا حصر لها. إن هذه الكرات السماوية التي لا تزال معلقة في الفضاء

منذ قرون لا نعرف عدتها؛ تدور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم، والقمر واحد من تلك الأجرام السماوية، وحركته تلك المشاهدة، ترشدنا إلى أن

نتذكر أن كل أجرام السماء لها أفلاكها التي تَسبْح وتُسبّح فيها باسم الخالق العظيم [وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] [الإسراء: 44] .

أما الشمس فلها تقديرها الذي أشار إليه القرآن بقوله: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي

لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ] [يس: 38] .

فهي تشرق وتغرب منذ أن خلق الله الدنيا شاهدة على انتظام ناموس الكون

وفق قدرة الله؛ فإذا قدر الله لهذا الناموس أن يختل اختل ناموس الشمس بأمر الله،

وكان اختلاله أعظم آية على بدء الخلل العام في نظام الكون إيذاناً بانتهاء الدنيا..

إن هذا يحدث عندما تشرق الشمس من مغربها، فعندها تترادف الأشراط الكبرى

المؤذنة بنهاية العالم.

أما قبل هذا.. فالشمس تجري والقمر يدور في منازله، وهكذا كل أجرام

السماء وفق نظام دقيق وتقدير محكم [لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيْلُ

سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] [يس: 40] فلكل نجم أو كوكب فلك أو مدار

لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة

لكنها مقدرة وأكبر دليل على أنها مقدرة بدقة بالغة أنها لا تتصادم ولا تضطرب ولا

تتناثر قبل الموعد المقرر لها. إن المسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس كما يقول

علماء الفلك تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال، والقمر يبعد عن الأرض

بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال، وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر

حين تقاس إلى ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا.

وتلك المسافات المقدرة في أبعادها السحيقة لبعضها تأثير على مظاهر هامة

في حياتنا على الأرض؛ فالقمر مثلاً هو أقرب جيراننا في الفضاء، وهذا القرب

يؤثر على البحار يومياً في حركة الأمواج والمد والجزر.

والمسافة الفاصلة بين الأرض والقمر مناسبة تماماً ومقدرة لصالح أهل

الأرض، ولو نقص هذا الفاصل إلى خمسين ألفاً من الأميال لحدث طوفان شديد في البحار تغطي أمواجه أكثر مناطق الأرض المأهولة فيغرق كل شيء، كما أن

المسافة بيننا وبين الشمس لو اقتربت أكثر هي عليه الآن لاحترقت الأرض وما عليها [5] .

التقدير في الأرض:

قال تعالى: [قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ

أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ (?) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا

أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ] (فصلت: 9-10) إن التقدير في الأرض لا

يمكن أن يستوعبه بجوانبه تفكير البشر، فكل شيء فيها مقدر، لقد قدرت في

جرمها، وفي وزنها وفي شكلها، وفي قربها أو بعدها عن غيرها، وقدر رسوها

بالجبال، وقدرت الحواجز فيها بالبحار والأنهار، وقدرت البركة فيها على قدر

أرزاق ساكنيها [وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] فالبركة في كل عناصرها،

فعناصر من الهواء كونت الماء، وبالماء مع الهواء مع الرياح والشمس تكونت

التربة الصالحة للزراعة، ووضعت البركات بقدر في الماء والشمس والرياح،

فتكونت الأمطار التي هي أصل الماء العذب كله من أنهار ظاهرة وأنهار باطنة

تظهر في شكل ينابيع وعيون وآبار.

وكل هذا من البركة التي تأسست عليها بركة أعظم وألصق بحياة الإنسان،

وهي البركة في الأقوات.

كيف قدرت الأقوات؟

لقد تضافرت في ذلك عوامل عدة. لننظر مثلاً في دور الهواء في توفير

الغذاء ...

الهواء كما نعلم ركب من عدد من العناصر، وهي (أكسجين ... ثاني أكسيد

الكربون ... نتروجين) إننا نستمد أنفاسنا من الهواء من أكسجينه ويستمد النبات

نموه من الهواء من كربونه ونحن نأكل النبات، ونأكل الحيوان الذي يأكل النبات،

ومن كليهما تبنى أجسامنا. بقي من غازات الهواء: النيتروجين أو الأزوت فهذا

لتخفيف أثر الأكسجين حتى لا نحترق بأنفاسنا، أما بخار الماء فهذا لترطيب الهواء، وتبقى طائفة من غازات أخرى قليلة في نسبها، ولكن لها تأثيرها) [6] إن

الأقوات المقدرة في الأرض والتي أشارت إليها الآية أوسع مفهوماً مما يؤكل في

بطون البشر فهي أقوات في الأرض [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] فهي للإنسان والحيوان،

وللطير وللهوام وللنبات وللكائنات الأولية، بل وللكائنات الغيبية كالجن ودوابها،

وكل الأقوات مركبة من العناصر الأصلية التي تحتويها الأرض في جوفها أو جوها

سواء، فيمتد الأمر إلى ما هو فوق الغذاء، فيشمل أيضاً الدواء والكساء، فكل هذا

من بين عناصر الأرض المودعة فيها والمقدرة، وكل هذا يشير إلى شيء من

البركة والتقدير لعلنا نتفكر.

والأرض في ضخامتها لا تساوي ذرة من هذا الكون العظيم، ولو أن حجمها

كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن لاستحالت الحياة فوقها؛ لأن هذا التغيير في

حجمها سيؤثر في مقدار الجاذبية الحالية لها، مما يؤثر في تماسك الماء والهواء من

حولها، أما إذا زاد حجمها كثيراً عما هو عليه الآن لتضاعفت الجاذبية، ومن ثم

سينكمش الغلاف الجوي ويزداد الضغط الجوي وسيؤدي ذلك إلى استحالة نشأة

الأجسام الحية أو استمرارها.

إن الأرض تتم دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة ومعنى

ذلك أنها تسير حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، فإذا افترضنا أن هذه

السرعة انخفضت إلى مائتي ميل في الساعة لطالت أوقات ليلنا ونهارنا عشر مرات

بالنسبة إلى ما هي عليه الآن، ويترتب على ذلك أن تحرق الشمس لاستمرار

حرارتها كل شيء فوق الأرض [7] ، وما بقي بعد ذلك ستقضي عليه البرودة

الشديدة في الليل؛ فسبحان من خلقها، فسواها فقدر ها تقديراً.

التقدير في خلق الإنسان:

الإنسان هو أكرم مخلوق على الأرض كما قال الله: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ

وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ] [الإسراء: 70] وكرامة الإنسان تبدو في خلقته وفي

تقدير الله له، فالتقدير ملازم لحياة هذا المخلوق حتى قبل أن يكون شيئاً مذكوراً،

ألم يكن هذا الإنسان في مبدأ خلقه نطفة؟ ! نعم نطفة ومع هذا خلقه منها فقدره،

ولكن هذا الإنسان للأسف ينسى خلقه وينسى تقديره فيكفر بربه [قُتِلَ الإنسَانُ مَا

أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ] (عبس: 17-19) .

قال صاحب الظلال: (من هذا الشيء الذي لا قيمة له، ومن هذا الأصل

الذي لا قوام له! ولكن خالقه هو الذي قدره: من تقدير الصنع وإحكامه، وقدّره:

من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً، وجعله خلقاً كريماً، وارتفع به من ذلك

الأصل المتواضع.. إلى المقام الرفيع الذي تسخر فيه الأرض وما عليها) [8] .

ورحلة الإنسان إلى هذا المقام تمر عبر مراحل من التقدير الإلهي اللطيف

الذي به يرعاه بقدرته. قال تعالى: [أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي

قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ] [المرسلات:

20 - 23] .

فمع نشأته الجنينية ورحلته العجائبية، يتنقل هذا المخلوق المكرم من طور

إلى طور: ماء مهين تكتنفه رعاية في قرار مكين إلى قدر معلوم.. ثم يخرج إلى

الدنيا فيعطى قدراً وقدرة بهما، فتمضي الحياة إلى أجل مرسوم. كل هذا وفق تقدير

ذي القدرة المطلقة [فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ] .

ولنقف لحظات مع بعض جوانب القدرة في خلق الإنسان لنرى كيف خلقه الله

فقدره، ثم السبيل يسره، ونختار على ذلك مثالاً واحداً هو الجهاز العصبي في

الإنسان. يقول وحيد الدين خان: (إننا نتحير إذا رأينا النظام المعقد لأسلاك

التليفون، ونتحير إذا وجدنا أن مكالمة من لندن إلى ملبورن بأستراليا تتم في بضع

ثوان، فإذا كان تعقيد نظام أسلاك التليفون يوقعنا في هذه الحيرة، فما بالنا بنظامنا

العصبي، وهو أوسع من هذا النظام وأشد تعقيداً؟ !

إن ملايين الأخبار تجري على أسلاك نظامنا العصبي، الذي خلقه الله، من

جانب إلى آخر ليل ونهار، وهذه الأخبار هي التي توجه القلب في تدفقها وفي

وحركتها، وتتحكم في حركات الأعضاء المختلفة، ولو لم يكن هذا النظام موجوداً

في أجسامنا لصارت الأجسام تلفيقاً لأشياء مبعثرة تسلك كل منها مسلكها الخاص.

ومركز هذا النظام للاتصالات مخ الإنسان، وفي هذا المخ يوجد ألف مليون

خلية عصبية، ومن كل هذه الخلايا تخرج أسلاك تنتشر في سائر الجسم، وتسمى

هذه الأسلاك (الأنسجة العصبية) وفي هذه الأنسجة يجري نظام استقبال وإرسال

للأخبار، بسرعة سبعين ميلاً في الساعة، وبوساطة هذه الأنسجة نتذوق، ونسمع،

ونرى ونباشر سائر أعمالنا، بل إن هناك ثلاثة آلاف من الشعيرات المتذوقة،

ولكل منها سلك عصبي خاص متصل بالمخ، وبوساطة هذه الشعيرات نحس

بالمذاقات المختلفة. وتوجد في الأذن عشرة آلاف خلية سمعية، ومن خلال نظام

معقد يسري من هذه الخلايا يسمع مخنا، وفي كل عين مائة وثلاثون مليون من

الخلايا الملتقطة للضوء، وتقوم بمهمة إرسال المجموعات التصويرية إلى المخ،

فإذا قربنا إلى الجلد شيئا حاراً، فإن ثلاثين ألفاً من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس

بهذه العملية وترسلها فوراً إلى المخ.. وإذا قربنا إلى الجلد شيئاً بارداً فإن ربع

مليون من الخلايا التي تلتقط الأشياء الباردة تحس به وعندئذ يمتلئ المخ بأثرها

ويرتعد الجسم، وتتسع الشرايين الجلدية فيسرع مزيد من الدم إليها ويزودها

بالحرارة، وإذا أحست هذه الخلايا بحرارة شديدة، فإن مخابرات الحرارة توصلها

إلى الدماغ، وحينئذ تفرز ثلاثة ملايين من الغدد العرقية تلقائياً عرقاً بارداً إلى

خارج الجسم لتخفيف الحرارة) [9] .

التقدير في رزق الإنسان:

يشير القرآن إلى التقدير العجيب في الأرزاق التي يبسطها الله أو يقبضها

بحكمة ولطف؛ فأرزاق البشر مقدرة في كمها وكيفها ونوعها وحجمها كما قال

سبحانه: [وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]

[الحجر: 21] والله تعالى أنزل للبشر بمجموعهم رزقاً معلوماً في هذه الدنيا، وأنزل لكل طائفة أو جيل أو شعب منهم رزقه المقدور، ولكل فرد من هؤلاء رزقه المكتوب مع أجله، وهو لن يموت حتى يستوفيه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها) [10] .

وتقدير أرزاق البشر يسير وفق مشيئة الله القدرية لكل مخلوق، وما من واحد

منهم يقدر على شيء أو يملك شيئاً على الحقيقة؛ فخزائن الرزق عند الله مصادرها

ومواردها وإنما يجريها على أهلها بحسب ما قدر من أسباب مقترنة بها [وَمَا نُنَزِّلُهُ

إلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ] فهذا إنسان تصلح له سعة الرزق في أول العمر، وهذا إنسان

يؤجل اتساع رزقه إلى نهاية العمر، وثالث يوسع عليه في العمر كله، وآخر

يضيق عليه في العمر كله؛ وكل هذا على حسب ما هو مكتوب عند الله من

المصائر والنهايات.

إن الله تعالى قادر على أن يجعل كل من على الأرض أغنياء، ومع قدرته

على ذلك فإنه لم يقدره لأسباب كثيرة، لعل منها: أنه سبحانه لا يريد لهذه الدنيا

الدنية أن تتحول إلى جنة غنية ثرية؛ فالجنة لها وقتها ولها أهلها. ثم إن معادن

البشر في الغالب يطغيها الغنى، وهذا الطغيان يمكن أن يعطل انتظام الحياة على

هذه الأرض، ولهذا قال تعالى: [وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ

وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ] [الشورى: 27] فما ينزل من الرزق، إنما ينزل بتقدير

محسوب لتستمر الحياة، وليتم أيضاً الابتلاء فيها.

وحتى الماء الذي هو عصب هذه الحياة، ينزل بتقدير محسوب كما قال

سبحانه: [وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ

لَقَادِرُونَ] [المؤمنون: 18] ينزل الماء من السماء بتقدير وحكمة، فلا هو كثير

كثرة تفسد على أهل الأرض معيشتهم، ولا هو قليل قلة تسبب الجدب والمحل،

ولا يأتي في غير أوانه فيذهب بلا فائدة، إنه يخزن في طبقات الأرض بتقدير الله،

وإذا شاء أذهبه فيغور في طبقاتها البعيدة، بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي

استقر عليها فحفظته، أو بغير هذه الأسباب؛ فالذي أمسكه بقدر قادر على إذهابه،

وبقدر أيضاً [وَإنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ] .

التقدير في حياة الإنسان:

يقول الله تعالى: [اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ

وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ] [الرعد: 8] .

قال الألوسي: بمقدار: أي بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه، فإن كل حادث

من الأعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين وميادينها وقت معين

وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه) [11] . إن كل شيء في هذه الدنيا خُلق وسُخّر

من أجل الإنسان، قال سبحانه: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

جَمِيعاً] [الجاثية: 13] فجميع الأشياء مخلوقة من أجله، وكلها مقدرة فكل ما يظهر

لنا من مخلوقات في السماء، يقترن بقاؤه ونظامه ببقاء الإنسان، والأرض وما فيها

وما عليها يقترن بقاؤها ببقاء الإنسان، ولهذا فعندما يأتي أوان انتهاء الحياة

الإنسانية، تنتهي كل هذه المخلوقات في الأرض وأيضاً في السماوات. قال تعالى:

[إذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (?) وَإذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (?) وَإذَا البِحَارُ فُجِّرَتْ (?) وَإذَا

القُبُورُ بُعْثِرَتْ (?) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ] [الانفطار: 1، 5] وهذه النهاية

أيضاً لا بد أن تلفت نظر الإنسان إلى أن الله تعالى ما كان ليخلقه ويسويه، فيعدله

ويهديه ويخلق كل هذا من أجله لكي يمضي سويعات العمر في العصيان والغرور،

ولهذا قال سبحانه بعد تلك الآيات: -[يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ (?)

الَذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (?) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (?) ] [الانفطار:

6 - 8] .

وغرور الإنسان لا تقل حدته إلا بالتفكر.. التفكر في خلق الله في تقديره وفي

تسويته لخلقه وفي هدايته لهم؛ فهذا التفكير يدعونا إلى أن نقدره سبحانه حق قدره،

وأن نسبح بحمده كما أمرنا [سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (?) الَذِي خَلَقَ فَسَوَّى (?)

وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] [الأعلى: 1 - 3] .

وأخيراً: التقدير في موت الإنسان:

فإذا كانت حياة الإنسان كلها تسير وفق سنن التقدير، فكذلك الموت. يقول

تعالى: [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ] [الواقعة: 60] أي جعلناه

مقدراً بآجال معلومة وأعمار منها طويل، ومنها قصير ومتوسط؛ فالله تعالى يعلم

المدة التي تصلح لحياة كل مخلوق حي على حسب علمه السابق بمصيره في الآخرة، فيطيل عمر هذا في الطاعة، وينقص من عمر هذا حتى لا يزيد في المعصية،

ويملي لهذا حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويمهل ذاك حتى يتوب أو ينوب، هذا

على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمم والأجيال أيضاً؛ فإن لها آجالها كذلك

[وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جََاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاًخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ]

[الأعراف: 34] .

فسبحان خالق الإنسان، وسبحان خالق الأكوان، سبحان خالق الحياة،

وسبحان خالق الموت الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015