مجله البيان (صفحة 2821)

ماذا يفعل أعدائى بى؟

الافتتاحية

ماذا يفعل أعدائي بي؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى

بهداه وبعد:

فإن الصراع بين الحق والباطل من سنن الله في الكون، وإذا كان المتبادر إلى

الذهن أن مفهوم الصراع مقتصر على مواجهة مسلحة بين فئتين يحسم فيها الأمر

سريعاً ويتبين المنتصر من المهزوم؛ فإن الحقيقة أن المواجهة الأشد هي التي يحتار

فيها القوي في كيفية التعامل مع الضعيف الذي لا يحمل إلا سلاحاً واحداً هو سلاح

العقيدة والثبات على المبدأ مع الاستعداد للتضحية.

لقد مر العالم الإسلامي بنماذج كثيرة انتصر فيها الضعيف الأعزل؛ فبعد

استقرار الدولة الإسلامية وغلبتها، واتصال المسلمين بالثقافات الأخرى قامت

محاولات لوضع الإسلام في أطر غريبة عليه؛ فمنهم من حاول أن يعبر عن

الإسلام بعقلية حكماء الهند وكُهّانها، ومنهم من حاول تبني اتجاهات النصرانية

ورهبانها؛ فظهرت طوائف الصوفية المختلفة، والباطنية، ومنهم من اتجه إلى

الفلسفة اليونانية، فظهر المعتزلة الذين حاولوا أن يؤطّروا الإسلام بالنهج العقلاني

البحت والأطر الغريبة، وأصبح فيها العقل والمنطق هو المرجع الأساسي في الفهم، والأخطر من ذلك أنهم نجحوا في إقناع الدولة بتبني هذا المذهب الفاسد كما حصل

بتبني الخليفة المأمون النهج المعتزلي بل وإجبار الناس عليه.

ولفسادهم العقدي والسياسي فإننا نجد أنهم اختزلوا الإسلام في مسألة عقلية

واحدة ابتدعوها هم لم يسبقهم إليها أحد من المسلمين، وجعلوا هذه المسألة ألا وهي

خلق القرآن مقياساً لحسن إسلام المرء من عدمه؛ فمن لم يتابعهم عليها فليس جديراً

بقضاء ولا تدريس ولا إمامة ولا ... ولما خضع مجمل أهل العلم خوفاً أو طمعاً

أخذوا البقية الباقية بالشدة والعنت، وممن ثبت وجاهد ذلك التوجه الإمام أحمد بن

حنبل رحمه الله الذي رفض باطلهم ولم يدخل معهم في مساجلات عقيمة، بل وضع

يده على الداء وواجههم بقول واحد جامع مانع ألا وهو: (هاتوا آية أو حديثاً) لأنه

يعلم أنهم أُتوا من خلل في مصدر التلقي عندهم، وهنا مصدر الانحراف، وصبر

سنين على الضرب والسجن، ومنعه من التدريس. وفي النهاية ذهبوا إلى مزبلة

التاريخ وبقي ذكر الإمام أنموذجاً للصبر والثبات على البلاء الحق.

لقد فهم رحمه الله أن الدولة العباسية مجرد حاضن لهذا المذهب المنحرف،

ولذا لم يتعرض لها؛ فلم يتكلم عن المأمون ولا عن المعتصم على الرغم من أذاهم

الشخصي له، بل ركّز على المعتزلة وهدم مذهبهم؛ ونجح في ذلك حتى إنه ابتُلي

في آخر حياته بإقبال الدولة عليه لما عادت واحتضنت مذهب أهل السنة من جديد.

لقد مثّل الإمام أحمد معضلة كبيرة للمعتزلة؛ فلم ينفع معه الوعد ولا الوعيد؛

وتعذيبهم له سبّب لهم مشكلة، كما أنشأ سجنه لهم معضلة فأطلقوه خوفاً من موته في

السجن، فعاش سنين يحمل معه يداً معيبة شاهداً على ظلمهم ورمزاً لطغيانهم منعوه

من التدريس بعد أن أصبح رمزاً، وأخيراً قام بالتدريس والفتيا بعد أن أصبح إماماً

ولم يُتوف رحمه الله إلا وقد فقد المعتزلة السلطة والاحترام، وبدأ عصر جديد في

حاضرة الخلافة ألا وهو عصر الحنابلة أو على الأصح عصر أهل الحديث،

وتحقق ما كان يكرره وهو قوله: (بيننا وبينهم الجنائز) .

أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد عاش حياته كلها جهاداً بالكلمة لأمته

التي أصابها بعض الانحراف، وبالسيف لأعدائها، وابتُلي حتى قال كلمته

المشهورة: (ما يفعل أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري؛ مهما رحلت فهي

معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) . نعم

لقد مات في سجن دمشق، وبقي ذكره يعطر الآفاق عالماً وإماماً يشار له بالبنان

ويترضى عنه كل من قرأ آثاره العلمية الجليلة؛ فأين الذين كانوا أقوى منه وسجنوه! لقد اندرسوا، وبقي ذكره وعلمه ومنهجه على مر العصور، نعم لقد كان معضلة

لأعدائه.

سيد قطب رحمه الله وإن اختلفنا معه في بعض المآخذ [1] إلا أنه كان معضلة

لأعدائه؛ ففي حريته كان يعمل بلا كلل في سبيل ما يرى أنه الحق، ولمّا غُيّبَ في

السجن أكبّ على التدبر في حال الأمة، وأخرج لها كتابه القيم: (في ظلال القرآن) ، لقد رفض المناصب العالية، وسيق إلى الإعدام وهو يبتسم ... لقد كان يرجو ما

عند الله من جهة، ومن جهة أخرى يرجو أن يكون موته بهذه الصورة معضلة

لأعدائه؛ لأن كلماته ستبقى هامدة لا روح فيها حتى يرويها بدمه؛ وهذا ما حصل،

ومن كان يعرف سيداً لو لم يبتلَ؛ لكن إذا أراد الله نشر فضيلة أتاح لها لسان حسود.

وإذا انتقلنا إلى عصرنا الحاضر فإننا نجد أن هناك أمثلة يحق أن نسميها:

(معضلة لأعداء الله) .

فمثلاً الشيخ أحمد ياسين حفظه الله رجل فريد في هذا الزمان؛ فإنه مشلول لا

يتحرك منه سوى رأسه حتى إن كأس الماء يوضع في فيه؛ لأنه لا يستطيع أن

يشرب بنفسه؛ ومع ذلك فقد استعمل ما أبقى الله له، فعمل ودرّس، وأدار حركة

ناشئة في ظروف عصيبة، وكوّن أول الخلايا الجهادية، فقام اليهود بسجنه وهو

المشلول المعاق، وبقي في السجن عشر سنوات، وهو يمثل إحراجاً وإزعاجاً لهم،

وكان مطلب إخراجه مع كل عملية لكتائب عز الدين القسام، وقد رفض عروضاً

عديدة للخروج من السجن مع الإبعاد، وأصر على العودة إلى وطنه، وتم له ذلك

أخيراً، وعاد إلى غزة بعد أن أصبحت حماس رقماً صعباً. ولما خرج الشيخ

للعلاج قام بالرغم من حالته الصحية بجولة واسعة لقي فيها كل ترحيب في كل

البلاد التي زارها، وكان التعاطف الشعبي ملفتاً لأنظار الجميع، ولكن الأغرب هو

ذلك الترحيب الرسمي في مختلف البلاد؛ حيث إن الحكومات وجدت في الزيارة

فرصة للتعبير عن عدم رضاها عما يسمى بالعملية السلمية، وفرض إسرائيل من

قِبَلِ أمريكا زعيمة لدول المنطقة، واتجهت للتعامل مع حماس؛ لأنها تمثل الجهة

الوحيدة الفاعلة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

والذي نراه أن أهم ما في هذه المرحلة هو أن قضية فلسطين عادت قضية

إسلامية، حيث حرص الأعداء على إضعاف ذلك البعد العقدي الخطير؛ فبعد

التركيز على البعد العربي اختزل إلى بعد فلسطيني، ثم أخيراً إلى عرفاتي؛ حيث

انتهى الأمر إلى الاعتراف بحق اليهود في فلسطين!

من الواضح أن الشيخ نجح في أن يكون معضلة لليهود وأتباعهم؛ فتركُهُ حراً

أو سجنه أو خروجه كلها معضلات، بل هناك تردد في السماح لعودته بعد جولته

لكن الله يدافع عن الذين آمنوا. وبالفعل سمح له بالدخول إلى غزة فيما بعد؛ مع

إيذاء واستفزازات صهيونية كالعادة.

أما حماس فهي معضلة للأعداء وستبقى معضلة بشرط الثبات على التركيز

على الهدف الأساسي وهو: اليهود؛ واليهود داخل فلسطين فقط، وعدم الانجرار

إلى استفزازات السلطة من أجل الدخول في صراعات معها مما يحولها عن الهدف،

وللحيلولة دون إعطاء السلطة مسوغات التصفية الشاملة، مما يدمر الطرفين معاً؛

وهذا غاية ما يتمنى اليهود الذين نرجو أن يصدق فيهم حَدْس الشيخ بأنهم لن يحتفلوا

بمرور مئة سنة على إنشاء دولتهم؛ ونرجو أن يكون ذلك أقل؛ وما ذلك على الله

بعزيز، والله غالب على أمره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015