مجله البيان (صفحة 2810)

نزار الذى شغل الناس حيا وميتا

قضايا ثقافية

نزار الذي شغل الناس حياً وميتاً

أضواء على حياته وأقواله وأشعاره

إبراهيم بن محمد الحقيل

نبذة عن حياته

ولد نزار قباني في دمشق عام 1923م في بيت موفور الرزق؛ حيث كان

والده تاجراً كبيراً، وكان له عم شاعر ومؤلف وممثل ومسرحي هو أبو خليل

القباني، وكان لحياة الترف التي عاشها واتصاله بعمه تأثيراً في حياته الشعرية.

نشأ نشأة عادية؛ إلا أنه كان مشغوفاً بالرسم منذ صغره، وبعد إنهائه دراسته

الثانوية، اشتغل بدراسة الحقوق التي أنهاها عام 1945م، ثم التحق بوزارة

الخارجية السورية واشتغل في السلك الدبلوماسي، ثم ترك ذلك أو أُبعد عنه، فهاجر

إلى لبنان وأسس فيها داراً للنشر، وأقام فيها، ثم كان هلاكه في لندن عن خمس

وسبعين سنة [1] .

حياته الشعرية:

ألف كتاباً ذكر فيه سيرته الذاتية وكثيراً من آرائه وأفكاره أسماه: (قصتي مع

الشعر) وكان ظاهراً فيه غروره وإعجابه بنفسه وكثرة إطرائها إلى حدٍ مخجل عند

العقلاء، وسيأتي من ذلك مقتطفات للدلالة على بعض النقاط المذكورة في بعض

مباحث هذه الدراسة المختصرة.

ويرى كثير من النقاد أنه تميز في بداية حياته الشعرية بهجر المدرسة

الكلاسيكية في الشهر العربي، ونحا نحواً جديداً في التعبير عن عواطفه الهائجة،

وكرس شعره في المرأة والجنس في الوقت الذي كان العرب يعيشون حالة استنفار

ضد الاحتلال الإسرائيلي، ثم بدأ يصحو من سكرة اللهو والجنس الشعري في حرب

السويس (1956م) واكتملت صحوته عقب نكسة (1967م) [2] .

بيد أن صحوته لم تكن صحوة إسلامية، وإنما كانت ثورية قومية جاهلية على

طريق معظم الساسة والقادة العرب ذاتها آنذاك.

ويرى بعض النقاد أنه ما نحا هذا النحو القومي في شعره إلا لأن جماهيره

عزفت عن شعره الماجن اللاهي العابث؛ في الوقت الذي كانت الأمة العربية

تتكالب عليها القوى المعادية، فاتخذ خطاً قومياً حتى يواكب ما فرضته القومية

آنذاك، وحتى ترضى جماهيره وتعود إلى شعره.

ويؤيد هذه الرؤية ما يلاحظه المتتبع لأحاديث نزار ومقالاته ومقابلاته من

غروره واستعلائه وإعجابه بنفسه، وبحثه عن الشهرة والأضواء أينما كانت وبأي

أسلوب كان؛ بدليل عودته إلى شعر المرأة والجنس بعد أفول نجم الحديث عن

النكسة، والتغني بالقومية. وغروره وإعجابه بنفسه لا يخفيه بل يظهره، ويجعل

ولادته ربيعاً على الأرض العربية التي ظلت بعيدة عن الإبداع حتى رُزقت نزاراً

كما هو ظاهر في قوله: (يوم ولدت.. كانت الأرض في حالة ولادة، وكان الربيع

يستعد ليفتح حقائبه الخضراء، الأرض وأمي حملتا في وقت واحد، ووضعتا في

وقت واحد) . ومن أقواله التي تبين غروره وإعجابه بنفسه: (نصف مجدي محفور

على منبر (الوست هول والشابل) الجامعة الأمريكية في بيروت، والنصف الآخر

معلق على أشجار النخيل في بغداد، ومنقوش على مياه النيلين الأبيض والأزرق

في الخرطوم) .

بل يعترف صراحة أنه ما سلك هذه الطريق القذرة في الشعر إلا من أجل

الشهرة وإرضاء الناس على حساب الدين والقيم؛ حينما يقول: (شعر الحب الذي

أصبح جواز سفري إلى الناس لم يكن في الحقيقة إلا واحداً من مجموعة جوازات

استعملتها) .

فالغزل الجنسي قبل النكسة كان جوازاً، ثم الشعر القومي في أثناء النكسة

جاء جوازاٌ آخر؛ حيث لم يعد الجواز الأول يحقق الشهرة والأضواء يومها، ثم

العودة إلى الجواز الأول بعد أن فقد الثاني بريقه بذهاب زمن القومية وحلول زمن

السلام البارد ثم الدافئ ثم التطبيع.

ويزيد من تأكيد هذه الحقيقة مقولته المشهورة: (دعوني أعترف لكم أنني

بالرغم من شهرتي شاعر حب فإنني نادراً ما وقعت في الحب) [3] .

نزار في الميزان:

لا يشك كل مطلع على شعره ونثره في زندقته وإلحاده، حيث تعدى على

الذات الإلهية، واستهتر بالشرائع السماوية، وجعل رضى حبيبته موصلاً له إلى

مقام الربوبية أو الرسالة، وتقريره أن الحياة مجرد لهو وعبث ومجون، هدف

الإنسان فيها تحصيل الشهوات والملذات، مع ثورة عنيفة ومستمرة في شعره ونثره

على الدين والأخلاق والمبادئ والقيم. وفي الحقيقة فإنه كان يمثل مرحلة متقدمة في

إطار الشعوبية الذي بناه الغزو الفكري في أدبنا العربي بالنرجسية والكشف

والإباحية، والخروج عن أصالة مفهوم الشعر في الأدب العربي.

يقول أحد الباحثين: لا سبيل إلى فهم شعر نزار قباني دون الاستعانة

بنظريات علم النفس الحديث، وبالذات نظرية (فرويد) عن الغريزة الجنسية

ومراحل نموها وانحرافاتها المختلفة، وليس هذا بالأمر الغريب فقد اتفقوا على

تلقيبه بشاعر المرأة؛ وأغلب شعره يدور حول المرأة، يتحدث بلسانها: يقدسها

ويهجوها ... وأغلب شعره يدور حول دائرة مغلقة قلما يخرج منها وهي دائرة

الغزل الجنسي المسرف في الواقعية والشوق إلى مفاتن الجسد ووصف العاهرات

والماجنات والمتهالكات [4] .

وكان نزار مغرماً بل مصراً على أن شعره كله وطني إلا أن بعض

الباحثين [5] فند هذا الزعم؛ حيث أحصى قصائده في دواوينه الستة الأولى التي تبلغ مائة وتسعين قصيدة منها مائة وخمس وخمسون قصيدة في المرأة، وليس منها وطنية إلا إحدى وعشرين قصيدة.

ولست أود الإطالة في هذه المقدمة؛ حيث سأترك القارئ يطلع على شيء من

شعره ونثره من مقولاته حتى تتبين له حقيقة هذا الرجل التي زوّرها الإعلام العربي

حينما دلّس على الناس في رفع شأنه وتعظيمه، ويمكن تقسيم انحرافاته إلى ما يلي:

أولاً: اعتداؤه على مقام الربوبية:

1- قال في مقالة له بعنوان: هل يمكن استنساخ المتنبي: ( ... ومعناه أن

العلماء بدأوا بتحدي السماء ... ومعنى هذا أيضاً أن الإنسان لم يعد له رب يؤمن به، يركع في محرابه ويصلي له ويطلب رضاه وغفرانه.. لأن المختبرات أخذت

مكان الرب..) [6] .

2- ومما قاله في قصيدة له:

(متمردان على السماء.. على قميص المنعم

صنمان إني أعبد الأصنام رغم تأثمي) [7] .

3- وفي رسالة حب كتبها قال:

(يحدث شيء غير عادي..

في تقاليد السماء ...

يصبح الملائكة أحراراً في ممارسة الحب ...

ويتزوج الله حبيبته) [8] .

تعالى الله عن قوله علواً كبيراً.

4 - وقال أيضاً في إحدى قصائده:

(ملك أنا ... لو تصبحين حبيبتي

لا تخجلي مني ... فهذي فرصتي

أغزو الشموس مراكباً وخيولا

لأكون رباً، أو أكون رسولا) [9]

ولقد قال فرعون قبله: [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى] [النازعات: 24] وقال:

[مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي] [القصص: 38] وفرعون أخزاه الله قالها وهو في

غمرة الملك والسلطان؛ وأما نزار فقالها وهو في مستنقع الانحلال والرذيلة؛ فهو

من فراعنة هذا الزمان في التعدي على مقام الربوبية، تعالى الله عن أقواله وأقوال

الظالمين علواً كبيراً.

ثانياً: ثورته على كل ما هو شرعي:

فنزار لا يفتأ يثور على الدين والشريعة، والقيم والمبادئ، والسلوك

والأخلاق، ولا يأنف من التصريح بذلك حينما يقول: (أنا ضد الشرعية بكل

صورها) ، ويقول أيضاً: (أنا بطبيعة تركيبي ضد الشرعية) وأشعاره تدل على ذلك؛ حيث لم يترك خلقاً قويماً إلا ثار عليه في سكرة شعره الجنسي [10] وينقم على

المجتمعات العربية عدم قبولها ثورته وهزله واستخفافه بالدين والقيم حينما يقول:

(شعراء الغزل الحسي في أوروبا وكتاب الروايات المسرحية لا يخوضون حرباً

صليبية مع مجتمعهم كما يخوضها الكتاب العرب) [11] .

ثالثاً: موقفه من اللغة العربية:

يعتبر نزار من الشعوبيين الذين يكرهون اللغة العربية وفنونها؛ حيث يسميها: اللغة المتعجرفة، وهو يرى أنه أسدى معروفاً للعرب بخلطه اللفظ العربي بغيره

من الأعجمي والعامي؛ زاعماً أنه اخترع لغة جديدة للأمة العربية [12] .

وتشتد نقمته على المجامع اللغوية التي لا تجيز التخبط في المصطلحات

المحدثة وإدخالها في اللغة العربية حيث يقول: (كانت اللغة أملاكاً خصوصية،

اللغويون جمعية منتفعين، وكانت الفتوى بشرعية كلمة أو تعريب مصطلح علمي أو

تقني تستغرق المجامع اللغوية سنوات من التنجيم والاستخارات، والألوف من

كؤوس الشاي ومحلول البابونج) [13] .

رابعاً: انهزاميته أمام الغربيين وانحلالهم:

كثيرون أولئك العرب الذين انهزموا أمام حضارة الغرب منذ عهد رفاعة

الطهطاوي وإلى يومنا، ولكن كثيراً منهم كان انهزامهم أمام مظاهر الحضارة من

حيث التفوق الصناعي والتقني والنظام الإداري وثورة المعلومات وسرعة

الاتصالات، ومن المنهزمين من كان انهزامهم أمام الانحلال الأخلاقي والتفسخ

والعري، وما نزار إلا من هذا الصنف، ولا أدل على ذلك من تحسره على شعبه

العربي المنغلق حسب زعمه حينما يقول: (لو كنت أستطيع أن أستورد شعباً عربياً

آخر تكون له ثقافة برجسون وبروست وأندريه مالرو لفعلت، لكن الشعب العربي

هو قدري لأنني ورثته كما هو) [14] .

وهذا الانبهار والتأثر واضح في شعره ونثره حتى أداه إلى استخدام رموز

شعائرهم وأساطيرهم؛ كاستخدامه ألفاظاً كالصليب والكنيسة في تعابيره وتشبيهاته

ومن ذلك:

1- (صليب المتاعب نحمله على أكتافنا) [15] .

2- هذا الحب بيني وبين الجمهور صار صليباً ثقيلاً على كتفي) [15] .

3- (حين أفكر في جراح أبي خليل، وفي الصليب الذي حمله على

كتفيه) [15] .

4- (تهرأ كل ما فيه كباب كنيسة نخر) [16] .

5- (لم أسرق نار السماء كبرومثيوس) مستوحياً تلك الأسطورة

الإغريقية [15] .

خامساً: إسهامه الكبير في هدم الأسرة وإشاعة الفاحشة:

فلقد كرس حياته وشعره لهذا الغرض، وأكثر دواوينه إنما هي في وصف

جسد المرأة والدوران حول الجنس بل والغوص في تفصيلاته، فهو في شعره

شهواني موغل، والشهوة يكاد يعبدها.

والجنس ملازم له يدور في خياله حتى في حديثه عن الأمور العادية من السفر

والكتابة لا تفارقه الصورة الجنسية أبداً، ومن ذلك قوله:

كل فنادق العالم التي دخلتها حملت معي دمشق، ونمتُ معها على سرير

واحد) ويقول: (أحياناً أشعر أن الورقة مستعدة فأمارس الحب معها بنجاح، وأحياناً

كثيرة أشعر أن الورقة لا تريد فألبس ثيابي وأنصرف) [17] .

وقد مضى سابقاً مقولته أنه نادراً ما وقع في الحب!

ويكفي في ذلك مقولته الكفرية: (لو كنت حاكماً لألغيت مؤسسة الزواج

وختمت أبوابها بالشمع الأحمر) وقوله: (العري أكثر حشمة من التستر) [18] .

فتأمل إلى أي حد يبلغ استخفافه بشرع الله؛ فهو يريد إلغاءه لتكون الفوضى

الجنسية بديلاً لذلك.

ويقدم كتابه: (يوميات امرأة لا مبالية) إلى طالبات الجامعة الأمريكية ويقول

فيه: إنه كتابكن كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل بالإعدام، ونفذ

حكمه فيها قبل أن تفتح فمها، ولأن هذا الشرق غبي وجاهل ومعقد يضطر رجل

مثلي أن يلبس ثياب امرأة ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها، أليس من

مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء ولا تستطيع النساء أن يصرخن

بأصواتهن الطبيعية [19] .

وهذا النص يكشف لك حقده على الدين وعلى المجتمعات الشرقية؛ لأنها تدين

بالإسلام، ويصفها بالغباء والجهل والتعقيد!

وكذب في زعمه أنه يدافع عن المرأة؛ لأن حقيقته أنه يدافع عن الفوضى

الجنسية؛ إذ ينفي عن عالمه الشعري كل امرأة تجاوزت الأربعين، أو كانت لا

تتمتع بذلك الجمال المثالي والمطلق!

وهو من أكثر الشعراء الذين أساؤوا إلى المرأة وامتهنوها بتعرية

جسدهاوتشريحها على قارعة الطريق: وفي رثائه لزوجه بلقيس وأم أولاده صوّرها

لنا أنها امرأة تافهة مع أنه قبل ذلك وصفها بأنها معبودة ورسولة، ولم يكتب شيئاً

عن أدبها أو فكرها أو خلقها أو ثقافتها؛ لأنه يختزل المرأة في وصف الجسد فقط،

على نحو عنيف من الإيغال في مفاهيم الاشتهاء والافتتان؛ إذ لا يرى في المرأة إلا

الجنس، ويعتبر الجنس هو الحياة كلها [20] .

ولذلك فهو يلعن المرأة المحتشمة ويثور عليها، ويرفض الالتزام بمجتمعه

وقيمه، ولم يكتب عن المرأة كأم أو أخت أو زوجة، بل جل كتاباته تدور حول

العشيقات والخليلات.

ولا يتحدث عن المرأة بقدر ما يتحدث عن جسدها؛ إنه لا ينظر إليها إلا

بوصفها دمية ومتعة، ولا يعرض العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة إلا من زاوية

الجنس.

ورغم إساءته للمرأة ومصادرة عقلها وفكرها وثقافتها وأخلاقها وعطائها

للمجتمع وإلغاء كل ذلك في شعره فإن له جمهوراً من النساء يعتبرنه الشاعر المعبر

الراقي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضحالة فكر هؤلاء النسوة

وانحلالهن إلى درجة يجعلن الحياة كلها جنساً وشهوة على الطريقة النزارية [21] .

سادساً: جمهوره المراهقون، ويدعمه المنافقون:

لا يمتري عاقل أن اللاهثين وراء شعره شهوانيون، يعانون فترات المراهقة

المبكرة والمتأخرة، وما دام شعره متردداً بين الكأس والجنس؛ فمن البدهي أن

يكون جمهوره من المراهقين والشهوانيين؛ لأن شعره غذاؤهم.

وأرجو ألا يستعجل في الغضب بعض جمهوره والمعجبين به من هذه المقدمة

المعقولة؛ لأن شاعرهم ينص على ذلك بقلمه حينما يقول: (قصيدة (نهداك) كانت

الشرارة الأولى التي أطلقتني، والمفتاح إلى شهرتي، الطلبة العراقيون كانوا

يسكرون عليها على ضفاف دجلة، واللبنانيون كانوا يمزمزونها على موائد العرق

في زحلة، لقد كان الطلاب خلال تاريخي الشعري كله جنودي وكتائبي وراياتي،

فبهم شددت أزري؛ وبهم أسرجت خيولي، وبهم أكملت فتوحاتي) [22] .

والواقع أن نزار قباني ما هو إلا نبت أجنبي مسموم يحاول أن يطرح من

خلال شعره عن المرأة مجموعة من المفاهيم الفاسدة والمنحلة التي يطمع النفوذ

الغربي أن تصبح من المسلّمات عند الشباب المسلم.

ويساور الشك كل متأمل في هذه الحملة الدعائية التي صاحبت هلاكه رثاءً

ومدحاً وشعراً ونثراً، هل كانت لأسلوبه فقط؟ أم لمضامين شعره ومعانيها الثورية

التي هي في غاية الاستخفاف بمقام الربوبية والنيل من الشريعة، والانحراف في

الشهوانية، والتعلق بالغرب إلى حد الهيام، وهل هناك نفاق يراد له أن يظهر

ويشيع حينما يخفي حقيقة هذا الزنديق عن الناس، ويشاع بينهم المدح والرثاء مكان

الذم والتحذير؛ فأين هي الموضوعية؟ ! وأين أمانة الكلمة؟ !

طور بواسطة نورين ميديا © 2015