المسلمون والعالم
بقلم: عبد العزيز كامل
لا أظنها مصادفة أن يكون اسم (كعكة العيد) ، من بين الأسماء التي أطلقت في
الغرب على عملية (رعد الصحراء) التي أرجئت، فهذا الوصف (كعكة العيد)
مملوء بالإيحاءات والمعاني الواضحة، فالعراق بما فيه من ثروات وثورات، وما
يعيشه من آمال وآلام.. أُدخل المطبخ الغربي المتطور جيداً، لتصنع منه كعكة
كبيرة، يتولى صدام إشعال النار لإنضاجها للأكلين..
(كعكة العيد) ! ! ولكن أي عيد؟ !
هل هو عيد خمسينية (إسرائيل) التي لا تزال تضع فوق منصة الكنيست
عبارة التوراة المحرفة (لنسلك أُعطى هذه الأرض، من النيل للفرات) ؟ !
أم هو عيد مئوية (بازل) والمؤتمر الأول لحكماء صهيون بزعامة (هرتزل)
الذي اعتبر نصف العراق ضمن أرض الدولة اليهودية المستقبلية (إسرائيل الكبرى) ؟ ! أم هو عيد الألفين الثانية عند النصارى الذين يؤمنون بحديث الإنجيل المحرف
عن معركة (الهرمجدون) التي تمهد لعودة المسيح، تلك الحرب التي ستكون ضد
قوى الشر من بلاد (آشور) ومن يتحالف معها؟ !
على أية حال، لا يبعد وصف الكعكة كثيراً عن وصف (القصعة) فكلاهما
تتداعى عليه الأكلة.. أكلة الحقوق.. أكلة السحت.. بل أكلة لحوم البشر..!
فالقصعة التي أخبر الرسول عنها في الخبر الصحيح [1] ، لا نشك أن العراق
وغير العراق تمثل تريدها ولحمها الذي تتناهشه الذئاب البشرية. فالعراق/ الكعكة.. أو العراق/ القصعة، يبدو أنه اليوم علي أعتاب عهد لم يعهده من قبل، ومرحلة
جديدة كنا نقرأ عنها ولا نتصور تسارع الأحداث للوصول إليها بهذه الدرجة، وهي
مرحلة التفتيت والتقسيم، التي تناثرت الأخبار عن المخططات الموضوعة لها، لا
فيما يتعلق بالعراق فحسب، بل فيما يختص ببلاد أخرى في المنطقة كمصر
والسودان ولبنان واليمن وغيرها بحيث تتحول إلى دويلات بدلاً من دول، على
أسس طائفية أو عرقية أو قبلية. لتبقى دولة اليهود سيدة المنطقة، وصاحبة الذراع
الطولي فيها، وسط كيانات ممزقة، متصارعة، متناقضة، مشغولها بنفسها
ومنكفئة على ذاتها.
وفيما يتعلق بالعراق أيضاً، هناك خطة، كان قد وضعها قبل أكثر من خمسة
وعشرين عاماً الصهيوني المخضرم (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الأمريكي
الأسبق، وهي عبارة عن إطار استراتيجي عام، يتم بمقتضاه إبقاء الأوضاع ملتهبة
بالاختلافات والتناقضات في المناطق المحيطة بإسرائيل، لتطل في مأمن من وجود
كيان مستقر وقوي، أو قابل لأن يكون قوياً ومستقراً وفيما يخص العراق تقضي
الخطة بترتيب ظروف سياسية وعسكرية كفيلة بإضعاف وحدته، ثم إقامة دولة
جديدة في منطقة الخليج، تمتد على أكثر من 80 بالمئة من أراضي الجنوب
العراقي، إلى جانب منطقة الأحواز التي تقع غرب إيران، وتحاذي مناطق جنوب
العراق، ومن شأن دولة كهذه، أن تحظى بأكثر من 60 بالمئة من الثروة النفطية
الموجودة في كل من إيران والعراق، إلى جانب تمتعها بثروة كبيرة، وبقطعة
زراعية مناسبة، هذا عدا التجانس الحاصل بين سكانها الذين ينتمي معظمهم إلى
الطائفة الشيعية المنحدرة من أصول عربية وتهدف واشنطن من وراء تنفيذ هذا
المخطط، أن تجني فوائد استراتيجية كبيرة على النحو التالي:
1- اقتطاع جزء كبير من القدرات النفطية والبشرية والمائية والزراعية في
كل من العراق وإيران، مما يقلل من حضورهما الإقليمي، ومن المخاطر التي
يشكلها كل من البلدين على جيرانها في الحال أو المآل.
2- إكمال دائرة السيطرة الأمريكية على معظم منابع النفط في منطقة الخليج
بعد أن تكون هذه الدولة قد اقتطعت أكثر من 60 بالمئة من الإمكانات النفطية لكل
من العراق وإيران.
3- ستكون هذه الدولة حال قيامها بمثابة شريط حدودي يفصل إيران والعراق
عن جيرانهما من الدول الخليجية التي عانت لفترة طويلة من المخاطر المحتملة
لهذين الجارين.
4- يمكن لهذه الدولة أن تمثل عامل استقطاب لأبناء الطائفة الشيعية من
البلدين (العراق وإيران) يساعد على وضع هذه الطائفة ضمن سياق معيشي
اجتماعي ذي طبيعة ثرية مترفة، تلتهي بها عن ميولها (الثورية) لتتلائم بعد ذلك
للمساهمة في خدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الخليج.
قد يقال: إن هذه الخطة الموضوعة منذ ربع قرن، قد تكون التغيرات في
المنطقة الآن لا تساعدها على التنفيذ، أقول: قد يكون هذا، ولكن الخطة تدلل على
حال على أن تقسيم العراق وغيره هدف قديم للقوى الغربية التي قسمت بالفعل العالم
العربي والإسلامي، وفرقت بين شعوبه بحدود وسدود جغرافية وسياسية، الغريب
زن دولة (الأحواز) الرافضية هذه، لم يواريها النسيان كما يُظن، بل لا يزال
التهامس بها يتردد في أروقة الغرب، فقد نقلت جريدة السياسة الكويتية في عددها
الصادر في 23/5/1417 عن مصادر أردنية، أن هذه الدولة ربما ترى النور في
غضون سنوات قليلة على حسب ما يتردد في أوساط الإدارة الأمريكية التي تؤكد
المصادر أنها رصدت لتنفيذ المخطط مبلغ ثلاثين بليون دولار!
واللافت للنظر، أن الأزمة الأخيرة، بما فيها من أحداث متتابعة، شهدت
رواجاً لما يعرف بخيار (الحل الشيعي) ومؤداه: إقامة كيان شيعي في جنوب العراق، بتفاهم أو بدون تفاهم مع إيران، وبالرغم من أن مجرد الحديث عن هذا الخيار،
يسيل لعاب روافض العراق، إلا أنهم من باب التقية السياسية يظهرون معارضهم
لهذا الحل [2] ، ويعتبرون الحديث عن تقسيم العراق من اختراعات صدام حسين
ليثير مخاوف دول الجوار إذا ذهب هو.. كما صرح بذلك (محمد بحر العلوم)
الأمين العام لمركز أهل البيت بلندن، و (سامي العسكري) عضو المكتب السياسي
لحزب الدعوة الإسلامية الشيعي في العراق، و (أكرم حكيم) عضو الشورى
المركزية للمجلس الأعلى (للثورة) الإسلامية في العراق ... ولا ندري ... إذا كان
هذا التقسيم مجرد وهم كما يقولون، فلماذا (الثورة) ومجلسها الأعلى؟ ! [3]
الظاهر أنهم يعارضون التقسيم لو صدقوا من باب عدم الاكتفاء بالجزء عن الكل،
وهذا يزكرنا بموقف شيطان الجنوب في السودان (جون جارانج) الذي أطلق على
ثورته (حركة تحرير السودان) وليس جنوب السودان فقط! ويذكر أيضاً
بتصريحات (شنودة) بابا الأقباط في مصر الذي تعجب عندما سئل عن رغبة الأقباط
في الاستقلال (بجنوب مصر) فقال: (كيف نكتفي بالجزء عن الكل..؟ إن مصر ...
كلها وطن الأقباط، فكلنا أقباط، غير أن منا مسلمون ومنا مسيحيون) ! !
إن الخطر الشيعي إذا بسط يديه على العراق، فإنه سوف يكون ظهيراً لا قدر
الله لحركة مد شيعي رافضي في المنطقة، تمتد من طهران إلى المنامة!
ولا يقال هنا إن العداء بين أمريكا وإيران يحول دون حصول ذلك، فأمريكا
إن كانت تعادي إيران سياسياً الآن، فإنها لا تعادي كل الروافض فالضرورة تحتم
عليها أن تصادقهم [4] ثم متى كان الروافض على مر التاريخ أعداء للنصارى أو
غيرهم من أعداء الأمة؟
من شك في هذا فليسأل التاريخ عن تواطؤ الرافضة مع قادة الحملات
الصليبية وعن تواطئهم مع التتار لاجتياح بغداد عاصمة الخلافة العباسية يضاف إلى
هذا أن شيعة العراق يرون أنفسهم شيئاً آخر غير شيعة إيران، بل هم ينظرون إلى
أنفسهم على أنهم فوق شيعة إيران، فهم أصل الشجرة التي تفرعت جذورها باطنياً
حول العراق، فأنبتت وأثمرت في إيران وعلى ضفاف الخليج. يقول (ليث كبة)
مدير العلاقات العامة في مؤسسة الخوئي الخيرية بلندن (الزعامة الدينية في العراق
وفي النجف هي الأقدم والأعرق تاريخياً، فالعراق هو أرض الأئمة، وهو الثابت
في تاريخ التشيع منذ كانت الكوفة عاصمة الخلافة وإلى يومنا هذا، بينما قبلت
إيران التشيع قبل خمسة قرون، وعمر مدرسة (قم) المقدسة، هو قصير بالقياسي
إلى مدرسة (النجف) لهذا فإن شيعة العراق يعتبرون العراق كله وطنهم من الفاو إلى
زاخوا) ! [الشرق الأوسط، 14/2/1998م] .
وماذا عن الأكراد؟
الظاهر أن الضرورة الأمريكية تقضي بأن يعطى الأكراد قطعة من القصعة
العراقية، فالزعامة العلمانية الكريمة أطماعها القديمة في القسمة، وقد دأب الحزب
الديمقراطي المكردستاني بزعامة (مسعود البرزاني) بالمطالبة بحكم ذاتي للأكراد
وقاتل الحزب عبر سنوات طويلة للوصول لهذا الغرض، أما الحزب الآخر، وهو
الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، فقد جعل قضيته التي يناضل
من أجلها: حق تقرير المصير للشعب الكردي، ويقترح الحزب إدارة (كونفدرالية)
بين الحزبين الرئيسيين لأكراد العراق، ويعتبر هذا حلاً وقتياً آنياً، فما هو الحل
الدائم؟ إن الحزبيين العلمانيين ينتظران ما ستسفر عنه المواجهة بين أمريكا
والعراق، فإذا أسفرت عن سقوط النظام أو ضعفه جداً، فسيفرضان سيطرتهما
كقوتين أو كقوة واحدة فاعلة تمتلك أرضاً وشعباً وقيادة. وقد شهدت الأونة الأخيرة
انفراجاً في العلاقات بين الخصمين اللدودين في قيادة الحزبين.. فهل تسمح
الظروف واقعياً لإقامة كيان كردي مستقل في شمال العراق؟ أم أنها أوهام أيضاً ... ؟
نحن نجزم بأن القسمة الكردية (العلمانية) من الكعكة العراقية، حاصلة الآن
واقعياً، وإن لم تعلن رسمياً، ففي شمال العراق سلطة منفصلة عن السلطة
المركزية في بغداد، وإن لم ترفع علماً أو تختر نشيداً أو ترسِّم حدوداً.
وسُنّة العراق ... من لهم؟
الثلث المتبقي من العراق في الوسط، من نصيب أهل السنة ومن أضاحيك
الزمان؛ أن صداماً هو المسؤول (طائفياً) عن أهل السنة وهو المرشح فيما يبدو لأن
يظل جاثماً على صدورهم إذا اقتطع الشمال للأكراد والجنوب للشيعة، فصدام ليس
على قائمة الأهداف في (رعد الصحراء) فالوصول إليه شخصياً يكاد يكون مستحيلاً
على حسب مزاعم الأمريكيين والبريطانيين، ولهذا فمن المظنون فيه أو المقطوع به، أنهم يريدونه مسؤولاً عن القطاع السني في عراق ما بعد التقسيم، ليظل كنُصب
تذكاري، يذكر العرب بمفاخر القومية العربية البائدة ... تعلوه راية (أم المعارك)
الممزقة، وتعزف من حوله أنشودة الحماس الأجوف ... أمجاد يا عرب أمجاد!
إن التسارع المحموم نحو تقسيم العراق، يخدم مجموعة متباينة من الأكلة،
بالوكالة أو بالأصالة، وعلى رأس المستفيدين من القسمة الضيزى ... الدولة
اليهودية (إسرائيل) .. ثم الإمبراطورية الصليبية (أمريكا) .. ثم -وكالعادة.. تتقاسم
بقية الضباع بقايا ما تتركه السباع. ولا ينبغي أن ننسى أن العراق - الذي يبدو
الآن ضعيفاً وفقيراً - لا يزال غنياً بثرواته الجالبة للأطماع، فآبار النفط لم تنضب، ومجاري الأنهار لم تجف، والمساحات الزراعية لا تزال حية.
ومما يثير العجب أن الكل يقر في الظاهر بأن تقسيم العراق ضرر فادح ...
ولكن كل فريق بعد ذلك يتصرف فعلياً على أن التقسيم ضرورة لا مفر منها ... بدءاًً
من صدام الذي يفضل التنازل عن وحدة العراق على التنازل عن الكرسي [5] ،
ومروراً بفصائل المعارضة الانتهازية التي ترى في التقسيم فرصتها لإثبات الذات
وإحراز المكتسبات، وانتهاء بأمريكا التي تريد أن تدخل القرن الجدد بخارطة
تضمن مصالحها لأجيال قادمة [6] ، لكن هناك طرفاً واحداً يرى في التقسيم
ضرورة خالصة، لا ضرر فيها، وهم اليهود! والظاهر أنهم لا يرونه ضرورة
فقط، بل ضرورة عاجلة، فقد أدلى (بنيامين نتنياهو) بتصريح في أخر أيام عام
1997 قالى فيه: (كل المؤشرات المتوافرة تحت أيدينا تؤكد أن بغداد في حالة
استكانة وضعف عسكري تام) (الشرق الأوسط، 26/11/1997م) وبعد هذا الكلام
الواضح عن قدرات العراق في نظر تقارير المخابرات الإسرائيلية, لم تمض أسابيع
حتى ملأ اليهود (الإسرئيليون والأمريكان) الدنيا صراخاً عن قوة العراق المرعبة،
وتكاثرت التصريحات على ألسنة المسؤولين والأمريكيين الكبار - وأكثرهم يهود -
وفي افتتاحيات أكثر الصحف الأمريكية - وأكثرها يهودية -، تعبر عن تخوف
عظيم من الخطر العراقي الذي أصبح يتهدد كل الجيران، خاصة الجار السابع
(إسرائيل) وتحدث المحذرون عن خطر حقيقي يهدد اليابسة والماء والهواء معا إذا
استعمل العراق ما بحوزته من أسلحة!
ولم تكن هذه التحذيرات مجرد فرقعات إعلامية لصحافيين هواة أو محترفين،
بل جاءت على ألسنة مسؤولين يفترض أن يكونوا محترمين؛ فوزير الدفاع في
أكبر دولة في العالم (وليم كوهين) لوَّح وقتها أمام الملايين من المشاهدين الأمريكيين
بكيس من السكر وقال لهم: (إن عبوة بهذه الحجم من الجراثيم التي يملكها العراق
تكفي لإبادة كل سكان مدينة بحجم نيويورك) ! ثم خرج بعدها وزير الدفاع
البريطاني (جورج روبتسون) أمام الكاميرات وفي يده زجاجة مياه صحية، وقال
للمشاهدين البريطانيين المذهولين: (إن عبوة مثل هذه الزجاجة من غاز (في -
إكس) التي يملكها العراق، تكفي لإبادة كل سكان مدينة لندن) ! ! وأيضا تبرع
رئيس فريق الأمم المتحدة لنزع أسلحة العراق (ريتشارد بتلر) وذكر مدينة ثالثة هي
(تل أبيب) وقال: (إن بقدرة صدام أن يبيد بلحظات كل سكان تل أبيب) ثم ظلت
العجوز اليهودية (أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية تنفخ في جمر التحريض،
لتشتعل نار الحرب! ونجح هؤلاء بتلك التصريحات النارية في إلهاب مشاعر
السخط لدى قطاعات عريضة من شعوب الغرب - الساخط أصلاً - ودقت طبول
الحرب عالية ... واستمرت الحشود العسكرية متزايدة متوالية. وصدرت
التوجيهات للرعايا الغربيين بمغادرة مواقع الأحداث المتوقعة.. ووزعت كمامات
الوقاية من الغازات ...
إيقاف اللعبة:
بعد كل هذا النفير وشد الأعصاب ... فوجئت أمريكا ومعها بريطانيا ... بأن
حلفاءهما الدوليين - الفاهمين للعبة - غير موافقين على هذا الإجراء العسكري الذي
يستهدف في النهاية الاستحواذ على الغنيمة كلها، ففرنسا وجدت نفسها مرة أخرى
في موقف ضعف مع بريطانيا التي ظلت منافساً رئيساً لها طوال القرن الماضي
وشطرا من هذا القرن، كانت دائما تتصرف بمنطق الأنانية واستباق الوصول
للغنيمة، لقد أقصت فرنسا عن مصر والسودان، وعرقلت تغلغلها في منطقة الخليج، وأحبطت مساعيها في الاستقرار في بلاد المغرب العربي، واليوم تزاحم بريطانيا
على اكتساب موطن قدم في صنع سياسة الهيمنة الدولية في النظام الدولي الجديد
بقيادة أمريكا ... وقد بلغ التقارب البريطاني الأمريكي حداً أفزع فرنسا، عندما
أطلق (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني الوعيد للعراق من داخل غرفة عمليات
الحرب العالمية الثانية في البيت الأبيض، وكلينتون واقف بجواره ... كان لابد
لفرنسا أن تعمل لإحباط مساعي بريطانيا في تقاسم أمريكا مغانم هذه الحرب المبيتة
بليل، وهي لم تنس بَعْدُ أنها خرجت بخفي حنين من حرب الخليج التي شاركت
فيها، حيث لم تفز المؤسسات الصناعية الفرنسية إلا بفتات العقود والصفقات التي
حصدت الولايات المتحدة القسط الأكبر منها بالاشتراك مع بريطانيا، ولهذا رفعت
سلاح (الدبلوماسية) وأصرت على تفعيله وتدويله، وشاركتها روسيا في رفع هذا
السلاح، فالروس يشاركون الفرنسين في إحباطاتهم؛ لأن العراق كان صديقاً
للسوفييت في الماضي وتتمنى روسيا أن يكون العراق سوقاً للروس في المستقبل،
ولهذا تواصل روسيا دعمها للعراق سراً وعلناً، كما حدث عام 1995م عندما باعت
للعراق بشكل غير مشروع أجهزة يمكن استعمالها في تصنيع الأسلحة البيولوجية.
وروسيا التي لا تزال تلعق جراح السقوط المدوي للقطب الثاني، لا تريد
للقطبية الفردية لأمريكا أن تظل مهيمنة على العالم - خاصة - المناطق الغنية،
وهي تبحث عن شركاء في هذا المطلب، وترى أن لدى الصين وإيران تضامنا مع
رؤيتها المستقبلية. يقول (أرييل كوهين) المحلل الأمريكي: (إن الهدف النهائي
لروسيا في الآونة الأخيرة، إقامة تحالف روسي صيني إيراني جديد لتحدى
الولايات المتحدة بدءاً من الخليج حتى مضايق تايوان) .
موقف ألمانيا:
وفي حين تخرج فرنسا وروسيا عن الفلك السياسي الغربي فيما يتعلق بالعراق، نرى دولاً أخرى تدخل فيه مثل ألمانيا، التي اتخذت موقفاً مفاجئاً بوقوفها بقوة
أمام الحسم العسكري مخالفة بذلك موقفها التقليدي المتجانس مع فرنسا ... فلماذا
تتخذ ألمانيا هذا الموقف؟ إنها تريد أن ترد لها أمريكا الجميل بأن تقبل بعد ذلك
طلبها المُلِح بالحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن، ومن ناحية أخرى
فهى لا تزال تحمل (عقدة الذنب) تجاه اليهود بسبب مواقف هتلر منهم، وهي تريد
أن تثبت لهم أنها سوف تتوب توبة عملية بالمشاركة في تنفيذ واحدة من أكبر
مخططاتهم في المنطقة!
وتركيا أيضاً:
أما تركيا (العلمانية) ، فأطماعها في العراق لا تخفى، فهى بين آن وآخر
تنادي باستعادة ولاية (الموصل) العراقية التي تعتبرها أرضاً تركية اقتطعت لصالح
العراق، وقد غزت شمال العراق عدة مرات بذريعة ملاحقة حزب العمال
الكردستاني، وحاولت في كل مرة الاحتفاظ بوجود عسكري لها في العراق لإقامة
شريط حدودي بزعم ضمان أمنها، وقد نجحت تركيا في مطلبها بفضل الحصار
الأمريكي، فأصبح لها ما يشبه الوجود الدائم في شمال العراق، وهي عندما تحشد
هذه القوات هناك، منتهكة القانون الدولي؛ فإنها تستعد بذلك لملء الفراغ الذي
سيحدث في الشمال إذ ادخلت الخطة فصولها النهائية، فهي تعلن أنها لن تسمح
لإيران أو حزب العمال الكردستاني بملء هذا الفراغ.
إن تركيا المتحالفة الآن استراتيجياً مع دولة اليهود ... لن تتأخر في وضع
إمكاناتها تحت تصرف اليهود، عندما يحين أوان تقسيم الكعكة.
وهكذا يتضح أن المواقف المتعارضة والمتناقضة للقوى الدولية الفاعلة فيما
يتعلق بأحداث العراق، تعكس تصارعها في التسابق لتحصيل مصالحها بكل جشع
وأنانية.. وقد أفضت هذه الأحوال بأمريكا وبريطانيا ومن تحالف معهما، إلى أن
وجدوا أنفسهم يواجهون وضعاً دولياً مربكاً؛ فأمريكا التي ضربت العراق في حرب
الخليج الثانية وسط تصفيق دولي ومباركة من (الشرعية الدولية) ، ألجأها منافسوها
هذه المرة إلى وضع رأت فيه أنها تتحرك خارج ما يسمى بـ (الشرعية الدولية)
فكان لابد أن تبحث عن فرصة أخرى لضربة أخرى باسم تلك الشرعية الدولية ...
لهذا كان الاتفاق، وكان (أنان) ، وكانت العودة للتفتيش عن أسلحة العراق مرة
أخرى ... ريثما يجد المفتشون كيساً من السكر، أو زجاجة من الماء تحتوي على
المواد التي تهدد بفناء واشنطن ولندن وتل أبيب!
فالاتفاق - في رأيي - هو المفتاح السري الذي يمكن لأمريكا أن تعيد به فتح
باب الترحيب الدولي بإنهاء العراق.
فهذا الاتفاق قد رُبط مصيره بشيء واحد، هو احترام صدام لبنوده حرفاً حرفاً ... حتى لو استُفز ... حتى لو استُدرج ... حتى لو اثير! ! ومعنى هذا أن الحرب
- تحت مظلة الشرعية الدولية - متوقفة على مجرد استفزاز أو استدراج أو إثارة
من أمريكا لصدام! ! ! فهل هناك من يسبق أمريكا وعملاءها في الاستفزاز
والاستدراج والإثارة؟ أم أن هناك من هو أقل صبراً من صدام في الاستجابة
الحمقاء للاستفزازات والاستدراجات ... ؟ لقد بدأت أمريكا مبكراً في هذا الاستفزاز
عملياً بأن تم تنصيب (سكوت ريتر) رئيساً لفريق التفتيش بعد الاتفاق الجديد ...
و (سكوت) هذا، كان قد اتهم في العراق بأنه جاسوس.. فهل تراهن أمريكا على عدم
سكوت صدام على (سكوت) رئيس الفريق الدولي؟ !
إن الحشود المجتمعة في الخليج تتحرق شوقاً لجولة جديدة يقود إليها صدام..
فهي لم تأت لنزهة بحرية أو برية أو جوية ... ولكنها جاءت لتسوية نهائية للمسألة
العراقية على الطريقة اليهودية، فاللهم رحماك ... ولك الله يا شعب العراق.