ملفات
أمواج الردة وصخرة الإيمان
القوانين الوضعية هل لها دور في انتشار الردة؟
بقلم: د. علي مقبول
تمهيد:
يُعرّف القانون الجنائي الوضعي بأنه: (مجموعة القواعد التي تنظم سلطة
الدولة في توقيع العقاب على المجرمين، وهو يشمل قانون العقوبات وقانون أصول
المحاكمات الجزائية أو قانون الإجراءات الجنائية، ولكل من هذين تقنينٌ
مستقل) [1] .
والقانون الجنائي الإسلامي كان ولا يزال يتعرض لهجوم شديد من قِبَلِ أعداء
الإسلام؛ لأنه وللأسف الشديد لا يُدْرَس ولا يطبق منه في البلاد الإسلامية إلا الجزء
الخاص بالأحوال الشخصية، وما عدا ذلك فهو مهمل إهمالاً يكاد يكون تامّاً. وقد
أدى هذا الإهمال إلى نتيجة لا بد منها وهي أن المجتمعات الإسلامية أصبحت تجهل
أحكام هذا القسم جهلاً فاضحاً؛ بدليل أننا لم نسمع أنه قد أقيم حد الردة، أو الرجم،
أو نحو ذلك في هذه البلدان.
وكذلك رأينا كيف تعرض القانون الجنائي الإسلامي للتغيير، وكانت بدايةُ
ذلك على أيدي حكام الدولة التركية، فكان القانون الجنائي التركي أول قانون اقتُبس
من القوانين الفرنسية.
ثم بعد ذلك صدر قانون العقوبات المصري في مصر سنة 1875م، وطبق
في المحاكم المختلطة ثم المحاكم الأهلية سنة 1883م، وقد استمده واضعوه من
القانون الفرنسي.
وقد استحدث القانون الجنائي المصري عقوبات وإجراءات للتحقيق غريبة عن
البلاد، وأدى تطبيقه إلى شيء من الاضطراب، وازدادت الجرائم عقب تطبيقه
زيادة لفتت الأنظار.
وقد لاحق رجال القانونِ قانونَ العقوبات بالتعديل والتبديل، ولكن لم يُجْدِ ذلك
شيئاً فقد استمر تكاثر الجريمة وانتشارها؛ ففي سنة 1904م، صدر تقنين جديد
لقانون العقوبات، ولقانون تحقيق الجنايات، وقد أخذه واضعوه من القانون الفرنسي
والإيطالي والبلجيكي والإنجليزي والهندي والسوداني، وغُيِّرَ هذا القانون في سنة
1937م، ولم يفد كل هذا، ولو أنصف القوم لأقاموا شريعة الله تعالى وعند ذلك
سيرون كيف يعالج الجريمة ويقضي عليها [2] .
وبعد هذا التمهيد لنا أن نتساءل: ما هو حكم المرتد في القوانين الوضعية؟
جرت القوانين الوضعية مجتمعة على إغفال النص على عقوبة المرتد؛
والسبب في إغفال ذلك من وجهة نظري ما يلي:
أولاً: الأخذ بمبدأ حرية العقيدة.
ثانياً: الأخذ بمبدأ القاعدة القانونية المشهورة: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص
في القانون) .
ثالثاً: التوقيع على مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (مواثيق الأمم
المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان) .
رابعاً: موقف واضعي القوانين الوضعية من الدين.
وسوف أتناول دراسة هذه الأسباب بشيء من الإيجاز، ثم أبين موقف
الشريعة الإسلامية من ذلك.
أولاً: مبدأ حرية العقيدة والديانة:
يقصد بمبدأ حرية العقيدة والديانة: حرية الفرد في أن يعتنق الدين أو المبدأ
الذي يريده، وحريته في أن يمارس شعائر ذلك الدين سواء في الخفاء أو العلانية،
وحريته في أن لا يعتقد في أي دين، وحريته في أن لا يُفرض عليه دين معين، أو
أن يُجبر على مباشرة المظاهر الخارجية أو الاشتراك في الطقوس المختلفة للدين،
وحريته في تغيير دينه أو عقيدته، كل ذلك في حدود النظام والآداب [3] . ...
وقد تناول دستور مصر الصادر سنة 1923م هذه الحرية كغيره من الدساتير، فنصت المادة (12) على أن (حرية الاعتقاد مطلقة) كما نصت المادة (13) على
أن: (تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في
الديار المصرية، على أن لا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب [4] .
ومما سبق يتضح لنا: أن مجلس الدولة المصري حرص على حماية حرية
العقيدة، إلا أنه قرن ذلك بضرورة خضوعها للعادات المرعية، وأن تجد حدها في
عدم الإخلال بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب؛ دون إشارة إلى عقائد الإسلام
بوجه خاص.
وقد أوضحت لنا محكمة القضاء الإداري (المصري) أن حرية العقيدة وإن
كفلها الدستور وفرض على الدولة توفير حمايتها لكل فرد، إلا أنها ليست مطلقة من
كل قيد، بل يجب أن تخضع للعادات المرعية، وأن تجد حدها عند عدم الإخلال
بالنظام العام أو منافاة حرمة الآداب، فلا يسرف فيها إلى حد المغالاة والتطرف،
ولا يتخذ منها وسيلة للطعن في عقيدة أخرى، بما يثير النفوس ويُحفظ الصدور،
ولا يُتذرع بها للخروج على المألوف من الأسس الدنيوية والأوضاع الشرعية القائمة، ولا تُستغل بها عواطف البسطاء من الناس باسم الدين لبلبلة أفكارهم وزعزعة
عقائدهم [5] . ولكن التطبيق العملي لذلك المبدأ القانوني فتح أبواباً من الفوضى
العقائدية ...
ثانياً: عدم وجود نص على عقوبة المرتد (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) .
استُمدت معظم الدساتير العربية من الدستور المصري، ولهذا أكدت جميع تلك
الدساتير على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات [6] ومبدأ قضائية العقوبة كضمان
للحريات الفردية من تعسف السلطة أو تجاوزاتها، ومن ذلك ما نصت عليه المادة
(66) من الدستور المصري على أن [7] : (العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا
عقوبة إلا بناءً على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على
الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون) [8] .
فالدساتير العربية قد نصت على هذا المبدأ، وقد أكد هذا المبدأ أيضاً
التشريعات العقابية العربية، ومن بينها على سبيل المثال: قانون العقوبات
الاتحادي رقم (?) لسنة 1978م لدولة الإمارات العربية المتحدة المادة (1، 4) ،
قانون الجزاء الكويتي المادة (?) ، قانون عقوبات قطر المادة (?) . وكلها تؤكد على
أن العقاب على الجنايات والجنح والمخالفات وفق القانون المعمول به وقت ارتكابها. ويعد مبدأ الشرعية الجنائية دستور قانون العقوبات، ويقصد به: التغيير عن
القاعدة الجنائية الشهيرة القائلة بأنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في القانون) [9] .
والهدف من هذه القاعدة: هو حماية الفرد من خطر التجريم والعقاب بغير
الأداة التشريعية وهو القانون.
فاختصاص السلطة التشريعية وحدها بتحديد الأفعال التي تعد جرائم وبيان
أركانها، وتحديد العقوبات المقررة لها سواء من حيث نوعها أم مقدارها، يعد من
أهم الضمانات الأساسية لحماية الحرية الفردية [10] .
وخلاصة القول: أن مبدأ الشرعية يلزم المحاكم بأن لا تحاكم أي إنسان إلا
بموجب القواعد المفروضة على جميع المتقاضين هذا أولاً. وثانياً: يحظر قانون
العقوبات القياس خشية امتداد النص الجنائي إلى أفعال لم يحرمها المشرع ولم يقرر
لها عقاباً؛ فالقياس يفتح الباب على مصراعيه لتحكم القضاة في أحكامهم مما يؤدي
إلى إهدار وانتهاك مساواة المواطنين أمام القانون الجنائي [11] .
ثالثاً: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان [12] :
أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948م على المساواة
القانونية بصفة عامة، فنص في مادته الأولى على أنه: (يولد جميع الناس أحراراً
ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعاملوا
بعضهم بعضاً بروح الإخاء) .
ويدين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التمييز بجميع أشكاله في التمتع بجميع
الحقوق والحريات، وذلك فيما سطره في المادة الثانية من أنه: (لكل إنسان حق
التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي
نوع. ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة، أو
المولد، أو أي وضع آخر ... ) .
وكذلك نصت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان [13] صراحة على حظر
جميع أنواع التمييز بين الأفراد، حيث ذكرت المادة (14) من هذه الاتفاقية على أنه: (يكفل التمتع بالحقوق والحريات المقررة في هذه المعاهدة دون تمييز أياً كان
أساسه: كالجنس، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو العقيدة، أو الرأي السياسي، أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي، أو الانتماء إلى أقلية قومية، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر) .
وقد يقول قائل: وما دخل هذه الاتفاقيات وحكم المرتد؟ خاصة وأن هذه
الاتفاقات ليس لها قوة ملزمة بالنسبة للدول؟ فمن غير المقبول أن يكون لسلطة
الجمعية العامة للأمم المتحدة فرض قواعد ملزمة على دول الأعضاء؛ لذا فإن هذه
الإعلانات تأخذ في حقيقة الأمر شكل التوصيات؛ أي أنها إعلانات نوايا مجردة
تماماً من كل قيمة قانونية إلزامية [14] .
والجواب:
أولاً: أن هناك من رجال القانون العام العرب [15] من يرى أن للقواعد التي
تتضمنها إعلانات الحقوق قيمة قانونية تعادل القيمة القانونية للنصوص الدستورية؛
ومن ثم فإن قوتها تعلو القوانين العادية وتكون واجبة الاحترام من السلطة التشريعية.
ثانياً: أن الدول الإسلامية وللأسف الشديد مع ضعفها سياسياً تحسب لهذه
القضايا ألف حساب؛ حيث أنها تراعي الديمقراطية الغربية والنمط الغربي،
وتخاف من الضغوط الغربية عليها؛ ولذلك نسمع ونشاهد أنه عندما يحكم على أحد
المجرمين بالإعدام في البلدان الإسلامية فإن الدنيا تقوم ولا تقعد، وقد يباد شعب من
المسلمين بأكمله ولا يتحرك هذا الضمير الغربي المدافع عن حقوق الإنسان؛
والواقع المعاصر أكبر شاهد على ما نقول!
ثالثاً: تختلف القوانين الوضعية عن الشريعة الإسلامية في أنها لا تعاقب على
تغيير الدين بالذات، ولكنها تأخذ بنظرية الشريعة وتطبقها على من يخرج على
النظام الذي تقوم عليه الجماعة؛ فالدولة الشيوعية تعاقب من رعاياها من يترك
المذهب الشيوعي وينادي بالديمقراطية أو الفاشية، والدولة الفاشية تعاقب من يخرج
على الفاشية وينادى بالشيوعية أو الديمقراطية، والدول الديمقراطية تحارب
الشيوعية والفاشية وتعتبرها جريمة؛ فالخروج على المذهب الذي يقوم عليه النظام
الاجتماعي في دائرة القانون يقابل الخروج على الدين الإسلامي الذي يقوم عليه
نظام الجماعة في الشريعة الإسلامية.
والخلاف بين الشريعة والقوانين في هذه المسألة خلاف في تطبيق المبدأ
وليس خلافاً على ذات المبدأ؛ فالشريعة الإسلامية تجعل الإسلام أساس النظام
الاجتماعي، فكان من الطبيعي أن تعاقب على الردة لتحمي النظام الاجتماعي.
والقوانين الوضعية لا تجعل الدين أساساً للنظام الاجتماعي، وإنما تجعل
أساسه أحد المذاهب الاجتماعية. فكان من الطبيعي أن لا تحرم تغيير الدين وأن
تهتم بتحريم كل مذهب اجتماعي مخالف للمذهب الذي أسس عليه نظام
الجماعة [16] .
ومما سبق يتبين لنا: أن القوانين الوضعية أغفلت النص على عقوبة المرتد،
ولم يكن هذا الموضوع ليشغل بال واضعي القانون؛ وذلك لأن رجال القانون
يعتبرون حد الردة وحشية وهمجية ولا يتناسب مع القرن العشرين الذي نعيش فيه!
وإن تعجب فعجبٌ أنّ رجال القانون قد وضعوا عقوبة شديدة جداً قد تصل إلى
حد الإعدام لما يسمونه بالخيانة العظمى على ما سيأتي تفصيله وهي تتمثل في إفشاء
أسرار الدولة الخارجية والداخلية، أو التعرض لشخص رئيس الدولة، ومن خلال
النصوص التي ذكروها يتضح جلياً أن خيانة الدين والردة عنه مسألة فيها نظر؛ أما
خيانة الوطن فهي مسألة ذات خطر؛ ولعلِّي عزيزي القارئ أبين لك بعض
النصوص القانونية التي توضح ذلك.
تعريف الخيانة العظمى: يطلق رجال القانون اصطلاح الخيانة على عدد من
الاعتداءات الخطيرة الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهي جميعها جنائية
الوصف، وتنم عن فصم روابط الولاء الذي يشعر به المواطن نحو وطنه وأمته
ودولته، وعن استهدافه في خدمة الدولة الأجنبية وتعهده مصالحها على حساب
مصلحة دولته التي ينتمي إليها [17] .
إذن فيعتبر خيانة عظمى: كل جريمة تمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجي أو
الداخلي أو نظام الحكم الجمهوري.
عقوبة الخيانة العظمى: يكون معاقباً عليها في القوانين بعقوبات الإعدام،
أوالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة، أو الاعتقال المؤبد أو المؤقت [18] .
مع العلم أن مخالفة الأحكام الأساسية التي يقوم عليها الدستور لا تنضوي تحت
مدلول (الخيانة العظمى) وإنما جعل المشرع الوضعي هذه المخالفة (مخالفة الخيانة
العظمى) جريمة مستقلة وعاقب عليها بعقوبة خاصة [19] .
وكما تلاحظ فإن المشرِّع الوضعي أورد نصاً خاصاً ومستقلاً لجريمة الخيانة
العظمى لخطورة هذه المسألة في نظره [20] مع أنه لم يورد نصاً خاصاً أو عاماً
عن أحكام الردة؛ لأن هذه مسألة تدخل في نطاق الحرية العقدية والدينية. فإلى الله
المشتكى من هوان الدين على أبنائه.
وأذكر من باب الفائدة أن بعض القوانين الوضعية تفرق بين الخيانة العظمى
وخيانة الوطن، أما الأولى: فتشمل أكثر الجرائم المخلة بأمن الدولة الداخلي
كالجنايات الواقعة على الدستور وغيرها، وأما الثانية: أي خيانة الوطن فتقع على
أمن الدولة الخارجي، وهي إما أن تكون خيانة عسكرية وتتناول جميع أنواع
الخدمات التي يقدمها الفاعل إلى العدو في خلال الحرب، كما تتناول شتى ألوان
الدسائس التي يستعملها لدن دولة أجنبية لدفعها إلى مباشرة الاعتداء على الوطن أو
لتوفير الوسائل اللازمة لذلك. وإما أن تكون خيانة سياسية أو دبلوماسية وتتناول
جميع الأفعال التي تؤول إلى إفشاء أسرار الدولة أو الإضرار بمركزها السياسي.
وقد تقع أفعال الخيانة السياسية زمن السلم وزمن الحرب على السواء. ويُجمع
شراح الأنظمة، في هذه الحال، على صعوبة التفريق بين أفعال هذه الخيانة وأفعال
التجسس [21] .
وفي نهاية المطاف وقبل أن أبين موقف الشريعة الإسلامية من هذا الموضوع
الخطير أرد على شبهتين أساسيتين هما:
أ - أن عقوبة المرتد تَدَخّل في حرية العقيدة ومُصَادَرَةٌ لها، وإكراه على
تبديل الدين، وإجبار الإنسان على اعتناق ما لا يريده ولا يرغب فيه.
وهذه الشبهة مردودة؛ لأنها تنطلق من الجهل بطبيعة هذه العقوبة، والجهل
بمعنى الردة، ومعنى الإكراه على اعتناق العقيدة.
وبيان ذلك: أن الردة كما هو معروف رجوع عن الإسلام، والمرتد هو
الراجع عن الإسلام. فنحن إذن إزاء مسلم ارتكب جريمة معينة هي الردة، ولسنا
أمام يهودي أو نصراني نريد أن نكرهه على تبديل دينه وحمله على اعتناق الإسلام. ومبدأ أن لا إكراه في الدين مبدأ مقرر في الشريعة الإسلامية بنص القرآن ولا
يجوز المساس به، بدليل واضح بسيط أن الإسلام شَرَعَ الجزية وعقد الذمة؛ وهذا
يعني إبقاء غير المسلم على دينه وتركه وما يدين به.
فلو كان الإكراه على تبديل الدين واعتناق الإسلام بالجبر والإكراه مشروعاً لما
شَرَعَ الإسلام عقد الذمة.
ولكن قد يقال: فلماذا، إذن، نعاقب المرتد؟ ألا يعني هذا إكراهه على
الاستمرار على دين الإسلام وقد أصبح لا يرضاه؟ !
والجواب: أن المسلم بإسلامه التزم أحكام الإسلام وعقيدته، والإخلال
بالالتزام لا يجوز، ويعاقب المخل بالتزامه بالعقوبة المناسبة، فعقوبة المرتد إذن
وجبت لإخلال المسلم بالتزامه. وبالإضافة إلى هذا الإخلال فإن المرتد بردته
يرتكب جملة جرائم أخرى، وهذه الجرائم نتيجة حتمية لردته، وبيان هذه المسألة:
أن المرتد لا بد أن يعلن ردته بشكل من أشكال الإعلان؛ لأنه لو كتمها ولم يعلنها
لما عرفنا به ولبقي من المنافقين، فإعلانه للردة جريمة أخرى؛ لأن فيها استخفافاً
بعقيدة الأمة ونظامها الذي ارتكز على الإسلام، كما أن في ردته تشجيعاً للمنافقين
لمتابعته في ردته وإظهار نفاقهم، وتشكيكاً لضعاف العقيدة بعقيدتهم، وهذا كله
يؤدي إلى اضطراب في المجتمع واهتزاز في نظامه القائم على الإسلام واستخفاف
به؛ وهذه أمور جسيمة يجب منعها عن المجتمع الإسلامي بمعاقبة المرتد. وجعلت
عقوبة المرتد القتل؛ لأن جريمته خطيرة؛ ولأن إخلاله بالتزامه إخلال خطير جداً، ويجب أن لا نستغرب ذلك؛ فرب إخلال بالالتزام يترتب عليه قتل المخل مثلما
تقدم في عقوبة الخيانة العظمى بهذا، كما لو تعاقد شخص مع الدولة لتز ويد الجيش
بالأرزاق، فإذا تعمد هذا المتعاقد عدم التزويد بالأرزاق، والجيش في حاجة إليها،
كما لو كان في حالة حرب، مع قدرة المتعاقد على الإيفاء بالتزامه؛ فإن عقوبته قد
تصل إلى الإعدام [22] .
وأخيراً: فإن الشريعة الإسلامية، مع خطورة جرم المرتد أوجبت إمهاله ثلاثة
أيام فإذا رجع عن ردته سقط عنه العقاب، فهل بعد هذا الذي قلناه تبقى لأحد حجة
للقول بأن في عقوبة المرتد تدخلاً في حرية العقيدة واكراهاً على تبديل واعتناق
الإسلام؟ ! !
ب - أن في عقوبة المرتد مخالفة للنص الدستوري الذي ينص على أن:
(حرية الاعتقاد مطلقة) [23] .
وهذه الشبهة أيضاً مردودة؛ لأن الدستور في جميع الدول الإسلامية ينص
على: (أن الإسلام دين الدولة) [24] . واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ
الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. كما تنص قوانين العقوبات الحالية على
أن لا تخل أحكام هذا القانون في أي حال من الأحوال بالحقوق الشخصية المقررة
في الشريعة الغراء [25] .
وإذا كان الدستور يقضي باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً [*] ،
للتشريع فإنه يترتب على ذلك أنه لا يجوز لتشريع وضعي لاحق لصدور الدستور،
أو حتى كان سابقاً عليه أن يخالف حكماً قطعياً من أحكام الشريعة الإسلامية وإلا كان
التشريع مشوباً بعيب مخالفة الدستور.
والكلام السابق هو كلام رجال القانون، حيث بينوا أن أي حكم أو تشريع
وضعي لاحق لصدور الدستور يعتبر مخالفاً للنصوص الدستورية الأعلى منه قوة
وهو ما يطلق عليه عيب مخالفة الدستور [26] .
موقف الشريعة الإسلامية من الردة:
إن الردة تعتبر من الجرائم ذات الخطورة البالغة على المجتمع والدولة والأمة
الإسلامية؛ والحس الإسلامي يرفض أن يكون هناك تساهل فيها؛ وقد شرع الإسلام
القتل لجرائم أخف ضرراً؛ حيث أمر بقتل الزاني المحصن بأسلوب رادع زاجر؛
لما يترتب على فعله من نشر الفحشاء بين المسلمين، وأمر بالقصاص حفظاً لأمن
الجماعة، فلا يعقل أن تكون معالجة جريمة الردة، وعقاب مرتكبها، أخف ضرراً
مما سبق؛ لأنه يترتب على الردة انهيار أركان المجتمع بمجمله دون ذلك.
والحق أن المرتد إذا ثبتت ردته، وانطبقت عليه الشروط وانتفت الموانع فإنه
يجب على الدولة الإسلامية قتله إذا لم يتب لما ثبت في ذلك من السنة وإجماع أهل
العلم [27] .
وكذلك فإن من أهم مقاصد الشريعة: حفظ الدين من أعدائه أو من أدعيائه؛
وهو في هذه الحالة لا يكون مناقضاً لمبادئه؛ وإنما مؤكداً لها وحامياً في الوقت نفسه.