مجله البيان (صفحة 2756)

المسلمون والعالم

السؤال المهم:

ماذا بعد عرفات؟

بقلم: عبد الملك محمود

ذكرت بعض المصادر الإخبارية أن ياسر عرفات قد انهار أثناء اجتماع

لوزراء خارجية الدول العربية بالقاهرة في شهر سبتمبر الماضي، ثم أغمي عليه

أثناء اجتماع للمجلس التشريعي الفلسطيني في شهر أكتوبر ونقل إلى المستشفى.

ويقول بعض من قابلوا عرفات خلال الآونة الأخيرة إنه يعاني أحياناً من صعوبة في

الحديث، وأن هناك ارتعاشاً لا إرادياً في شفته السفلى ويده وقدمه اليسريين، كما

يقال إن ذاكرته بدأت تضعف. وأشارت تقارير صادرة عن الاستخبارات العسكرية

الإسرائيلية أن عرفات يعاني حالياً من مرض (باركنسون) ويتلقى علاجاً لأعراض

الرعشة وتصلب العضلات. وقد أكد طبيب عرفات الخاص د. أشرف الكرد

المتخصص في طب الأعصاب بعض هذه الأعراض، وإن كان قد أكد على عدم

خطورة الأمر.

كثر ذلك الكلام مؤخراً عن متاعب عرفات الصحية، مما فتح باباً للتكهنات

حول مستقبل السلطة وعملية السلام برمتها. أما عرفات فإنه يبدي انزعاجه وقلقه

بخصوص كثرة الحديث عن صحته، ولربما كان هذا أحد دوافعه للقيام بسفرات

ورحلات مكوكية قياسية لم يبلغها أي زعيم آخر، فخلال أسابيع متتالية يذهب إلى

عواصم كثيرة في آسيا وإفريقيا وأوروبا ليبرهن على سلامة صحته وقوته طبقاً

للجملة المشهورة التي يستشهد بها كثيراً: (يا جبل ما يهزك ريح) ولكن رغم هذا لا

يمكن إخفاء حقيقة أن صحته ليست على ما يرام.

ومع هذا فإننا نقول إن الأمر ليس غريباً، فالرجل يبلغ من العمر 68 عاماً

(ونظام حياته السابق المجهد يقوم على العمل لمدة لا تقل عن 16 ساعة يومياً،

ولكن السؤال الأهم هو: ماذا بعد عرفات؟ وهل ستنتهي عملية السلام؟ ومن هو

الشخص أو الكيان البديل؟

الشارع الفلسطيني لا يتحدث عن الرجل المريض بقدر ما يتحدث عن السلطة

المريضة، فكل شخص تقابله يحدثك عن المحسوبية والرشوة والسرقات وأكل المال

بدون حق، وما تقرير المجلس التشريعي التابع للسلطة نفسها الشامل عن هذا الأمر

عنا ببعيد؛ حيث كشفت التحقيقات عن أرقام مفزعة من السرقات وأكوام من

الاختلاسات الكبرى وفضائح عدد من الوزراء ممن كان وراء هذه السرقات، مما

ألجأ عدداً كبيراً من الوزراء والمسؤولين إلى تقديم استقالاتهم خوفاً من الفضيحة،

ولكن عرفات أجّل قبول هذه الاستقالة ووعد أكثر من مرة بإجراء تعديل وزاري

وكانت آخر هذه الوعود قبيل نهاية العام المنصرم. وكان المجلس التشريعي قد

طالب في بيانه قبل نحو 4 أشهر بحل مجلس الوزراء والانصياع لمتطلبات التطهير

الإداري، ولكن أنى هذا وحاميها هو حراميها؟ طالب الناس بالإصلاح والتغيير

والمحاسبة حتى نفد صبرهم، ولم يتم أي شيء في هذا الخصوص، ولم يطالب

بهذا الإسلاميون فقط أو المعارضون لعملية السلام بل حتى بعض الرموز من داخل

السلطة أو ممن عمل معها طالبوا بذلك، فحيدر عبد الشافي الذي أحرز أعلى نسبة

في أصوات الناخبين في المجلس التشريعي تحدث في كثير من المقابلات الصحفية

التي أجريت معه وفي مقالاته وفي كتاب استقالته من المجلس التشريعي وفي

محاضراته عن العفن داخل السلطة وعن الديكتاتورية العرفاتية. وفي محاضرة

للدكتور زياد أبو عمرو أمام مئات الحاضرين ذكر بعض صور السلطة الهزيلة وهي: لنا سلطة رئيسها بحاجة إلى تصريح إسرائيلي ليطير من مكان إلى آخر، لنا قوة

أمن مبعثرة وأشبه ما تكون بالمليليشيات، لنا عَلَم ولا نملك السيادة، لنا مجلس

تشريعي تذهب توصياته وقراراته أدراج الرياح [الوطن العربي، 5/12/1997م] .

هذا جانب من صورة السلطة في وضعها الحالي، ولم يذكر الرجل صوراً

قاتمة أخرى يراها المراقب الإسلامي مثل: المسلسل العدائي لكل ما هو إسلامي

بدءاً من محاربة الرموز الإسلامية والسجن والتعذيب، مروراً بشن حملة إفساد

للشعب وبث الفجور.

خليفة عرفات:

على صدى الكلام عن صحة عرفات ومن سيخلفه، فقد شحذ البعض هممهم

استعداداً لخلافة عرفات بمجرد سماع الأنباء عن مرض عرفات وتدهور صحته،

ولكن هل هناك شخصية معينة مؤهلة لنفس دور عرفات؟

من صفات عرفات الزئبقية التي يتميز بها قدرته الفائقة على إمساك العصا من

الوسط، ودفع كل الأطراف في الساحة إلى الصراع في جميع الساحات بل

والاشتباك إذا لزم الأمر باستثناء ساحة واحدة هي التزاحم على مركزية القيادة

باعتباره خطاً أحمر لا يمكن الاقتراب منه. لقد تناحر مسؤولو السلطة حول كعكة

المال وحصة كل منهم من أموال الدول المانحة كل بحسب استطاعته حتى جاءت

النتيجة وبسرعة مذهلة لتكشف عن حجم غريب من السرقات، كما أنهم توزعوا

الكراسي داخل المجلس الوطني والوزارات المختلفة ولكن كل هذا الاختلاف حتى

بين الفصائل المختلفة رافقه إجماع على زعامة عرفات وعدم المساس بها. ولذلك

يمكن القول بأن الصراع على التركة ستكون بعد ذهاب عرفات لا قبل ذلك،

فالمتربصون جميعاً يجمعون على قيادة عرفات وزعامته.

والحقيقة الظاهرة لنا أنه لا يوجد من قيادات السلطة كافة من يستطيع أن يملأ

هذا الفراغ ويقوم بالأدوار نفسها. وقد تداول المراقبون عدة أسماء مرشحة لخلافته

مثل محمود عباس، وفاروق قدومي، أو بعض العسكريين مثل جبريل الرجوب ... ولعل أبرز الشخصيات المرشحة والأوفر حظاً لخلافة عرفات هو محمود عباس (أبو مازن) أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح؛ فالرجل سياسي ممن أسهم بصورة كبيرة في السعي للحلول السلمية مع (إسرائيل) وهو مفصل أميركياً، وربما يقوم حلف بينه وبين بعض العسكريين على تقاسم السلطة بحيث لا يفقدون امتيازاتهم ويعملون في الوقت نفسه على الوقوف ضد التيار الإسلامي.

ولكن بدلاً من الخوض في هذه التخمينات، دعونا نلقي نظرة إلى وضع

السلطة الفلسطينية والحال التي وصلت إليها، وخططها التفاوضية مقارنة مع

التخطيط الإسرائيلي.

تدهور شعبية عرفات وسلطته:

المراقب للوضع الفلسطيني، يلاحظ افتقاد عرفات للشعبية؛ فمسيرة السلام

وأحلامها تعثرت، وسياسة الاستيطان الإسرائيلية على أشدها والوضع الاقتصادي

للناس في تدهور. أما عن السلطة فقد أقام عرفات سلطته على المحسوبيات وعلى

نظام متعفن انتقل بين العواصم العربية وكان يعاني من ألوان من السوء والفساد

أصلاً. وقد جمع عرفات إلى هذا ديكتاتوريته المعروفة، وعمل على بناء أجهزة

عسكرية مختلفة ليضمن بقاء السلطة بيده ووضع على رأس هذه الأجهزة أشخاصاً

من الموالين له ممن يأتمرون بأمره ومن أبرزهم شقيقه د. موسى عرفات رئيس

جهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطينية. ويطلق الناس كثيراً من النكات عن

ميليشيات السلطة المنتشرة على طريقة: (حارة كل مين إيدو إلو) .

لقد كان من أوائل إنجازات عرفات بناء 30 مركزاً للتوقيف والاعتقال، و17

سجناً مع أكثر من 40 ألفاً من شرطته التي دخلت في حرب مع الشعب الفلسطيني.

وحوّل عرفات الأجزاء الصغيرة من فلسطين الواقعة تحت سيطرته إلى جحيم لا

يطاق، وكم كان مؤلماً ذلك التقرير الذي أعده الصحافي الإنجليزي المخضرم

(باتريك سيل) عن ممارسات سلطة عرفات القمعية ونشره في صحيفة الإندبندنت

قبل أشهر بعنوان: (عار في غزة) .

صور الفساد والطريق المسدود الذي وصلت إليه السلطة أدى إلى حالة من

الإحباط لدى الناس؛ فالأوضاع الاقتصادية على سبيل المثال بلغت غاية في السوء، ولعل الدول المانحة والمتصدقة تضخ بعض الأموال كمسكنات للوضع حتى لا

ينفجر، ولكن الناس يعانون ويشعرون بالإحباط للنتائج الحالية. ذكر رئيس البنك

الدولي كمال درويش في مؤتمر الدوحة المنعقد قبل أيام: (أن متوسط دخل الفرد

الفلسطيني في مناطق السلطة الوطنية انخفض بنسبة 30% عما كان عليه عام

1993م) (العالم اليوم، 29/11/1997م) ، -لا يعني هذا أن الوضع عام 1993م

كان ممتازاً-. ولا شك أن السلطة فقدت كثيراً من بريقها، فقد ذهبت السكرة

وجاءت الفكرة، وتبين للناس أن المستقبل الوردي وسنغافورة الشرق الأوسط ما

كان إلا عَقّاراً للتخدير.

السلطة والوضع الداخلي:

هناك مجموعة من المشكلات الكبيرة داخل السلطة، ومن أواخرها تلك

الحاصلة بين تنظيم حركة فتح وبين الأمن الوقائي بقيادة جبريل الرجوب، أحد

الشخصيات القوية التي رشحها بعض المراقبين لخلافة عرفات، فكلٌ من الطرفين

يحاول الإيقاع بالآخر وعزله وإضعافه. ويطالب بعض أعضاء اللجنة المركزية

لفتح مثل: صخر حبش، وزكي عباس، بإبعاد الرجوب، ويتهمونه بالتواطؤ مع

(إسرائيل) (خصوصاً بعد الكشف عن تسليمه لعضوين من خلية سرية لحماس في

قرية صوريف) .

من جهة أخرى فإن هناك عدة دلائل تبين انخفاض الشعبية التي كانت تتمتع

بها المنظمة؛ فالانتخابات في الجامعات والنقابات تبين ارتفاع الرصيد الشعبي

للإسلاميين على حساب المنظمة. وعلى سبيل المثال فإن احتفالات الذكرى التاسعة

لإعلان الاستقلال الفلسطيني خيم عليها جو من الكآبة الكامنة في الأعماق، ففي

أوسع ساحات التجمع لم يتجمع سوى بضع مئات معظهم من صغار السن الذين

جذبتهم الأضواء والزينات وصوت المرفقعات؛ بينما لزم الكبار البيوت يجترون

خيبة الأمل، رغم أن السلطة حرصت على إقامة الاحتفالات ووضعت لها برامجاً

لتغطي كافة المناطق. ومن الأمور المضحكة أن يذكر عرفات أنه سيعلن قيام الدولة

الفلسطينية بعد عامين مع العلم أنه تم الإعلان عن هذه الدولة قبل ذلك، فما هو

الجديد؟

الوضع على صعيد المفاوضات:

ها قد انقضت أربعة أعوام على اتفاق أوسلو فما هي نتيجة هذه الاتفاقيات؟

إنه وضع عجيب: أراضٍ محاصرة فلا الغزاوي يستطيع أن يذهب إلى الضفة،

ولا الضفاوي بقادر على الذهاب إلى غزة إلا بتصريح وربما لا يستطيع الحصول

عليه إن نسبة المساحة المتاحة للفلسطينيين الآن من مساحة الضفة الغربية لا

تتجاوز 3%، وغاية العروض الإسرائيلية المقدمة ستحصر الفلسطينيين في مساحة

من 6 إلى 8% من الأرض، وقد كانت (معركة السلام) (!) في الأيام الأخيرة

تدور حول النسبة الممنوحة لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية

وهل هي أقل من 9% كما يطرح اليهود، أو هي من رقمين كما تصر الولايات

المتحدة (!) والرقمين تعني نسبة لا تتجاوز 11%.

فما الجدوى من المفاوضات والعملية المسمّاة بالسلمية برمتها إن كانت النتيجة

سجناً هذه هي مساحته؟ لقد ضاعت الأرض وتوقفت الانتفاضة ولم يتحقق السلام،

وابتُلعت القدس وبقي اللاجئون مشردون في أصقاع الدنيا وزادت الأحوال سوءاً،

فهل هذه النتيجة التي يحلم بها الناس بعد سنوات؟ !

يجمع المراقبون على أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، على سبيل

المثال في ندوة مستقبل الوطن العربي التي عقدت في (أبو ظبي) على مدى ثلاثة

أيام في بداية شهر نوفمبر الماضي والتي شارك فيها نحو 150 من الشخصيات

السياسية البارزة من العالم العربي وغيره في هذه الندوة أجمع المشاركون على أن

المفاوضات المتوقفة فعلى جميع المسارات وصلت حداً خطيراً. ففيما يؤكد عصمت

عبد المجيد الأمين العام للجامعة العربية أن (إسرائيل) تريد سلاماً أعرج يحقق

مطالبها الأمنية دون أي اعتبارات أخرى، فإن فاروق قدومي رئيس الدائرة

السياسية في منظمة التحرير يؤكد أن السلام يُحتضَر وربما يكون قد مات بالفعل.

وفي حين كانت لهجة ريتشارد ميرفي أقل تشاؤماً فإنه مع هذا يؤكد أن الوضع

خطير جداً في الشرق الأوسط، بينما بلغ تشاؤم حيدر عبد الشافي حداً بعيداً.

ويشير محمد حسنين هيكل الكاتب المصري المعروف أيضاً إلى أن عرفات

يؤدي في مسيرته السلمية دوراً محدداً ثم ينتهي، فهو يقوم بما لا يستطيع غيره

القيام به، فيشق طريق التسوية ثم يخلي الساحة لسواه بعد أن تكون قد أرهقته، بل

أنهته سياسياً نتائج فعلته. ويكون دوره كما أسر عرفات لهيكل نفسه بقوله: إنني

أشعر بما يريدونه مني ... إنهم يريدون أن ألعب دور ذكر النحل: يقوم بتلقيح

الملكة ... ثم يموت. (الرأي العام، 20/12/1997م) .

إن نتنياهو يضع العراقيل يومياً في وجه المفاوضات التي لا تناسب اليهود،

ونتنياهو هذا اعتبر اتفاقات أوسلو خطراً على (إسرائيل) ، كما اعتبر عملية السلام

ككل (ضارة) بالدولة اليهودية. بينما عرفات لا يعرف عقلية مؤلف كتاب (مكان

تحت الشمس) أعني (نتنياهو) لهذا فهو لا يستطيع أن يزاحمه في مكان لائق تحت

الشمس.

الدور الأمريكي:

تحاول الولايات المتحدة بين آونة وأخرى أن تضخ الدماء في عروق

المفاوضات حرصاً على سلامة (إسرائيل) وأمنها، ولكن ما من سبيل؛ فإسرائيل

تريد الحلول التي تراها مناسبة ولا تُفرض عليها فرضاً. والحقائق التاريخية تؤكد

أن الدور الأمريكي في المنطقة دور ملطخ منذ بدايته، كله ظلم وصلف ودعم لدولة

اليهود، ومع هذا فلا زال البعض يعلق آمالاً عريضة على دور راعي السلام.

هل نحن بحاجة إلى بيان الدور الأمريكي معنا؟ الأدوار الأميركية المشينة

معنا لها تاريخ طويل، فما بالك الآن وقد أصبحت الإدارة الأمريكية غابة من اليهود، والبيت الأبيض يعج بالشخصيات الصهيونية في كل دائرة وبأيديهم أهم الوزارات

كالخارجية والدفاع وأهم المناصب كمجلس الأمن القومي.

لقد زارت (مادلين أولبرايت) المنطقة فماذا حققت زيارتها؟ لقد طلبت

أولبرايت من (إسرائيل) وقف عمليات الاستيطان (!) ، وجاء على لسان (ناطق

إسرائيلي) رسمي أن وقف الاستيطان يعني وقف الحياة، ولا نسمح لأحد أن يطلب

منا الموت. ومنذ وصولها إلى إسرائيل حيث جرت العادة في الرحلات المكوكية

الأمريكية أن تكون إسرائيل هي أول محطة وآخر محطة كذلك أعلنت أولبرايت

الانحياز الكامل لوجهة النظر الإسرائيلية، وشنت حرباً صارخة على الإرهابيين

(أي الإسلاميين) ودعت عرفات لمواجهة حماس والجهاد معاً.

لم يكن هناك فارق بين ما يطرحه نتنياهو وما تطرحه الإدارة الأمريكية، فقد

كان التركيز الأول والأخير على قضايا الأمن. كما عبرت الزيارة من جهة عن

رفض للمطالب الفلسطينية في قيام الدولة وتجميد الاستيطان، وكانت اللغة صريحة

في هذا الشأن. وتركت الزيارة (إسرائيل) قوةً تتحدى الجميع، وقادرة على إعلان

حرب على سورية، وإذا حدث ذلك فإن واشنطن لن تكون بعيدة عن تأييد هذه

الخطوة. ومجمل القول أن الولايات المتحدة و (إسرائيل) تريدان من عرفات أن

يقوم بدور (أنطوان لحد) في جنوب لبنان، وكل الاتفاقات القديمة والجديدة تصب

في هذه الزاوية وهي التشديد على التصدي للإسلاميين في فلسطين.

وفي هذا الإطار فإن المستجدات الأخيرة مثل استقالة وزير الخارجية

الإسرائيلي دافيد ليفي في 4/1/1998م التي ستزيد من صعوبات مسيرة السلام

المزعومة؛ لأنه من أبرز رموزها في حكومة نتياهو. من جهة أخرى فإن نتياهو

وجه إلى السلطة الفلسطينية ضربة مذهلة (على حد رأي حماس) من خلال

تصريحاته يوم 19/12/1997م أي بعد يومين من لقاء نتياهو بأولبرايت التي زعم

فيها أن الضفة الغربية تشكل جزءاً من إسرائيل. فماذا كانت ردة فعل عرفات؟

وفيما يصرح عرفات أثناء زيارته للوكسمبورغ: ب (أن هذه التصريحات تشكل

انتهاكاً خطيراً لاتفاقيات السلام المبرمة في واشنطن) يستمر نتياهو وكافة المسؤولين

اليهود في تعجرفهم وعدم مبالاتهم بكل الاتفاقات. إن هذه هي عقيدة حزب ليكود

والعمل وكل اليهود وهي استراتيجيات وقناعات يهودية، وليست رد فعل على

عمليات عسكرية، واليهود لم ولن يرضوا عن عملية السلام إلا بمقدار ما تقوم

السلطة بتحقيقه نيابة عنهم بقمع الشعب المسلم في فلسطين وفتح الأبواب لهم ليكونوا

معبراً إلى العواصم العربية والإسلامية، فهل يفهم هذا عرفات؟

وآخر تصريحات نتنياهو وعشية وصول دينيس روس منسق عملية السلام

الأمريكي قوله بأنه لن يقبل أي ضغط على حكومته.

[وكالات الأنباء،5/1/ 1998م] .

تخطيط يهودي.. وتخبط فلسطيني:

في مقابل التخبط الحاصل في السلطة الفسلطينية والضعف العام في الأنظمة

المجاورة، نلمح على الطرف الآخر التخطيط اليهودي، والحديث عنه حديث طويل

ذو شجون، ولكن هناك بعض الإشارات المهمة؛ فلقد مضى مئة عام على مؤتمر

بال بسويسرا وفي الخمسين الأولى منها يعتبر اليهود أن التركيز هو على إقامة

الدولة، أما الخمسون الثانية فهي مرحلة إقامة إسرائيل الكبرى. ويتحدث علماء

إسرائيل وأحبارها عن بناء الهيكل حتى عام 2000م وأنهم إن لم يتموا بناء الهيكل

مكان المسجد الأقصى فسيكونون مقصرين حسب زعمهم في تنفيذ أوامر الرب.

كما لا يغفل التخطيط اليهودي مسألة احتمال اندلاع حرب مع العرب حين

تسنح الفرصة، وهناك عدة دلائل على هذا الأمر. ولا شك أن هناك خططاً

إسرائيلية كثيرة نجحت، فقد تم نجاح إيقاف الانتفاضة، وتم إيقاع الفلسطينيين في

فخ الحكم الذاتي ولعبة المفاوضات وغير ذلك.

هل من عودة إلى الانتفاضة؟

كانت الانتفاضة التي بدأت عام 1987م ملحمة سطر فيها الفلسطينيون شباناً

وأطفالاً ورجالاً ونساءاً صوراً شامخة من البطولات علمت اليهود دروساً ودروساً،

وبلغ عدد من قتل فيها أكثر من 1200 من الفلسطينيين غير آلاف المصابين

والمعاقين. وكان النتيجة أن شجعت الانتفاضة على الجلوس على مائدة المفاوضات

مع عرفات ومنظمة التحرير، وساعد اليهود على زرع كيان جديد من أبناء جلدتنا

لسحق المجاهدين وقمعهم وتوفير جهد ودماء اليهود. قال يوسي بيلين عضو

البرلمان الإسرائيلي عن حزب العمل الذي كان من أوائل المفاوضين مع منظمة

التحرير: (الدرس المستفاد من الانتفاضة أنه في غياب عملية السلام، البديل

الوحيد هو العنف) . (رويتر، 4/12/1997م) .

لكن هل هناك أمل في أن تعود الانتفاضة من جديد؟ تدل المؤشرات وتقارير

كثير من المراقبين على استبعاد هذا الخيار حالياً، ولكن هل ستبقى الأوضاع على

ما هي عليه؟ لا يمكن أن يبقى الناس مكتوفي الأيدي وهم يعانون من شتى ألوان

الظلم، لا نريد أن تكون نظرتنا للأمر سوداوية، لكن الأوضاع الحالية في أكثر

بلاد المسلمين وليس فقط في فلسطين لا تدل على أن الوضع سيتغير سريعاً. ولكننا

متفائلون بالمستقبل إن شاء الله، وقد علمتنا أمة محمد على امتداد العصور أنها أمة

حية لا تموت.

الإسلام هو البديل:

في الآونة الأخيرة ارتفع رصيد حركة حماس وشعبيتها بصورة كبيرة لم

تخطط حماس لها، خصوصاً بعد محاولة اغتيال (خالد مشعل) رئيس المكتب

السياسي لحماس في عمان، وما أعقب ذلك من إطلاق الشيخ أحمد ياسين. من

ناحية أخرى فإن ممارسات السلطة وتكشّف فضائحها المالية وأنواع الفساد الأخرى،

والوضع العام المزري أدى ذلك كله إلى وجود فجوة بين السلطة وبين الناس،

وهناك حالة من الفراغ، تصب في خانة الإسلاميين.

ولا شك أن التيار الإسلامي هو الغالب على الساحة، ولكنه مع شعبيته وقوته

يصعب أن يكون البديل السياسي القوي في الأوضاع الحالية. فالوضع في داخل

فلسطين شديد الصعوبة ولا يمكن أن تسمح (إسرائيل) ولا الولايات المتحدة بل ولا

الدول الأخرى بقيام كيان إسلامي في فلسطين.

الإسلاميون والدور المطلوب؟

لسنا في مقام من يوجه ويصحح ويعلم بقدر ما يذكر وينصح، وإنما بضع

همسات لعلها تساهم في الوصول إلى أهدافنا التي نصبو إليها.

إن هذا التخطيط اليهودي والصليبي الحاقد يتطلب من المسلمين أموراً مهمة

وعلى رأسها:

1- الحرص على بقاء (إسلامية) المعركة:

لقد حرص اليهود منذ عشرات السنين على إقصاء البعد الإسلامي عن قضية

فلسطين، فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية [1] مقالاً جاء فيه (إن

على وسائل إعلامنا ألا تنسى حقيقة مهمة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في

حربها مع العرب، وهي أننا قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا (!) في إبعاد

الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً

عن المعركة إلى الأبد، لذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع

استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب) . هذا الخوف والهلع كان يسيطر

من قبل على زعيم اليهود ورئيس وزرائهم الأول دافيد ابن غوريون الذي قال (إن

أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد) .

وانظروا إلى صورة من المخططات اليهودية في محاولات اقتلاع الإسلام من

النفوس. لقد اعتمدت إسرائيل سياسة تجفيف المنابع الإسلامية مقلدة في ذلك بعض

الأنظمة، وعلمت السلطة الفلسطينية بقوة في هذا الاتجاه، وقد أخذت هذه السياسة

صوراً كثيرة في وسائل التعليم وإمامة المساجد وإلغاء الجمعيات الخيرية. فقام

اليهود بتأميم المساجد الواقعة تحت السيطرة اليهودية في المناطق المحتلة عام

1948م، ويشرف على ذلك يهودي عراقي في وزارة الأديان يسمى (موسى بن

حاييم) حيث لا يتم تعيين أي إمام قبل أن يجري مقابلة مع (موسى حاييم) الذي يتقن

العربية، ويحذر أي إمام من تبني مواقف وأفكار لا توافق عليها إسرائيل. كما حُرِمَ

المسلمون من أي وسيلة إعلامية فاعلة في الأراضي التي يسيطر عليها اليهود.

2- سلامة الإعداد والتخطيط: لا ينبغي للجزئيات والتفاصيل أن تستغرقنا

فننسى هذه الأهداف البعيدة، وعلينا أن نخطط بصورة جيدة؛ فالعدو لا ينام وقد

غلب علينا في حياتنا ومواقفنا العشوائية ورفع الشعارات المدوية والعواطف

المتأججة وردود الأفعال، بينما الأعداء يخططون ويكفينا مثلاً مؤتمر بال بسويسرا.

3- إعطاء التربية اهتماماً أكبر: على الإسلاميين خصوصاً حماس أن يحملوا

على عاتقهم مسؤولية إذكاء جذوة الإسلام في النفوس والدفاع عن الإسلام وتربية

الشعب عليه، وفي المرحلة الحالية قد لا يكون الخيار العسكري هو ما نستطيعه،

إذن فلا بد أن نربي الناس على معاني الجهاد وسلامة المنهج وعندما يأذن الله

فسنحرر فلسطين وغيرها من رجس يهود والأذناب، وهذا الأمر يعتبر في أعلى

قائمة الأولويات.

4- عدم الخوف من أعداء الله، وقد أعطت حماس الأمة دروساً في هذا الباب

في قهر العدو وكسر حاجز الخوف النفسي، حتى أظهر الله ضعف اليهود في

مواطن كثيرة، وما محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة (حماس) الأخ

خالد عبد الرحيم مشعل التي نفذها رجال الموساد الإسرائيلي عنا ببعيد، فقد فضحت

هذه المحاولة أسطورة قوة الموساد التي توحي للناس بشكل أو بآخر بأنها قادرة على

كل شيء.

نعم نجح الأعداء في إسكات الانتفاضة، ثم لجأوا إلى محاولات إخماد جذوة

الحمية والحماس في النفوس ودعمتهم السلطة في هذا الأمر. وهذا يتطلب إبقاء

جذوة الحماس وروح الغيرة والجهاد في النفوس حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

5- إحياء رسالة المسجد لمقاومة التيارات المنحرفة الجارفة إعلامياً وثقافياً

وأخلاقياً.

6- توحيد الصفوف والبعد عن الشقاق، وإحياء أدب الخلاف كما كان بين

السلف. وكم نتمنى أن تتوحد الجهود الموجودة على منهج سليم مع العلم أن

الكثيرين يراهنون على انشقاق حماس ويتمنون أن يدب الشقاق بين أبنائها.

7- علينا أن نزرع الثقة والأمل في نفوس شعوبنا بأن المستقبل للإسلام بإذن

الله، ونبين ذلك بالأدلة الشرعية حتى لا تيأس الأمة. إننا نعاني الآن من الضعف

والفرقة والعدو يملك ميزان القوة العسكرية حالياً ولكنها فترة وجيزة ومحنة

سنتجاوزها ثم تتغير الأحوال بإذن الله.

ونود أن نشير إلى أنه قد صدر عن بعض الإسلاميين تصريحات غير

منضبطة إسلامياً، ونحن نقدر عاطفتهم الإسلامية وغيرتهم والجهود التي قاموا بها

ولكن لا بد من الانضباط، ومن هذه الأمور مواقف البعض من السلطة. أو قول

بعضهم نحن مستعدون للعيش مع اليهود أحسن عيشة في أخوة (!) وتعاون

وتعايش بشرط ألا يلتهموا حقوقنا.

يا إخوتاه.. لا شك أن الطريق طويل ولا بد فيه من الفتن والصبر عليها،

إنه طريق طويل وصعب نعم ولكنه هو الطريق الوحيد المستقيم. والله سبحانه لا

يسألنا عن النتائج وإنما علينا أن نعمل ونغرس حتى لو كان هذا للجيل القادم وجنده

القادمين بإذن الله. [لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا] [البقرة: 286] ، [وَقُلِ

اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ] [التوبة: 105] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015