افتتاحية العدد
يجتذب مصطلح (العولمة) يوماً بعد آخر المزيد من النقاش، والكثير من
الجدل؛ لما لهذا المصطلح من تأثير مباشر متراكم آخذ في القوة على حياة البشرية
منذ أن أخذت وسائل الإعلام ومؤسسات صنع العقول في طرحه وتسويقه إلى
المثقفين والعامة ... هذا المصطلح الذي يأتي امتداداً لرؤية عالم الاتصال الكندي
الشهير (مارشال ماكلوهان) بتحول العالم إلى قرية كونية أو عالم واحد يثير اليوم
غباراً كريهاً من الممارسات والفواجع والكوارث.
لنتفق أولاً على أن (العولمة) ليست مخلوقاً جديداً أو فكرة ترفل في ثياب
جديدة مع تسليمنا بأن وجود مصطلح العولمة يقصد به وجود نمط عالمي واحد،
وباختصار: امتداد طبيعي لنمو (المركز) الغربي وانبساطة في الأرض (مبشراً)
بنموذجه المادي المغرق في حب السيطرة، أو كما يقول أحد المفكرين الغربيين:
(إنها روما الجديدة ... كما كانت روما في السابق تصر على أن كل الطرق تؤدي
إليها؛ فإن العولمة حتماً لا تعرف سوى طرق تؤدي إلى أمريكا، وكما كانت روما
جنة السادة وجحيم العبيد فإن أمريكا تعيد الفكرة نفسها حيث لا يوجد قرية كونية إنما
مدينة مقسمة: واحدة للأثرياء، وأجزاء شاسعة للفقراء الذين يشعرون بالسعادة؛
لأنهم يجاورون السادة ويشاركونهم اسم المدينة) .
ولنتفق ثانياً أن من حق الأمة المسيطرة أن تسعى لفرض ثقافتها وسلوكها
ومعتقدها ومصالحها؛ عملاً بمبدأ التدافع في الأرض.
ولنتفق ثالثاً على عدم طرح العولمة على أنها شر محض ونقبل ما فيها من
مصالح مثل انتقال المعلومات المجردة، ونقل أيسر للتقنية ورأس المال اللازم
لتنمية البلدان الفقيرة والأقل نمواً.
(هل هناك داعٍ لذكر أن المسلمين يشكلون رقماً لا بأس به في هذه القائمة؟)
ولنطرح أيضاً موقفاً محايداً من كل العوامل السلبية التي يراد لنا أن نبتلعها ونتلذذ
بطعمها المر ثم لنسأل أسئلة مدوية بحجم القضية المطروحة.
لماذا يبشر النموذج الأمريكي بالعولمة في الوقت الذي تزداد السياسة الأمريكية
والغربية انغلاقاً وعنصرية ورفضاً (للعالمي) إذا مس أرضها ومصالحها ونمط
معيشتها أدنى مس..؟
لماذا تتفق مراكز العولمة وأركان صنع قرارها على اتخاذ الإسلام عدواً وحيداً
أمام النموذج الذي تدعوه بـ (المتحضر) والذي يعكس تفاهة تلك الثقافة وغوغائيتها؟
لماذا يراد لنا نحن المسلمين أن نقبل بعضوية (نادي العولمة) دون أن نسأل
عن شروط العضوية، ورسوم الاشتراك، وطقوس النزع التي تنتظرنا، ودرجة
حرارة النار التي سوف يطبخ عليها (العشاء الأخير) الذي سيزيل من أجسادنا آخر
ذرات المقاومة ليجهز في النهاية على أنفاسنا؟
إن هذه الأمة بشهادة خبراء العولمة أنفسهم كانت حتى هذه اللحظة ولا تزال
أصعب الأمم على القولبة وأشدها مراساً في مواجهة النموذج الاستعماري المتغطرس.
والعولمة لا تعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والتقنية والمعلومة والشركة
والسلوك والثقافة منفردة الواحدة تلو الأخرى.. كلا إنها تعني أن يقدم هذه الطّعم
ضمن سياق فكري لا نحتاج إلى ذكاء شديد أو حتى بلاهة أشد لنعرف حقيقة أنه
الثقافة الغربية: النصرانية/ المادية في نموذجها الأشد فجاجة وغطرسة وتعالياً!
وإذا كان من حق فرنسا أن تقاتل وتحارب وترفع صوتها وتتصدى بالقوانين
والممارسة لهذا النموذج ... فلا أظن أن اللاعقين لجراح (داحس والغبراء)
المعاصرة إلا أن يفتحوا عيونهم قليلاً وعقولهم كثيراً لهذه الهجمة المتواصلة منذ
انحسار الإسلام كقوة عالمية ودولية مؤثرة!
إن الأسئلة تزداد توغلاً في صدورنا ونحن نرى اليوم ثمار العولمة تنبت في
أراضينا شجراً من علقم..
المسلمون في جنوب شرق آسيا كانوا قبل أشهر ضحية للعولمة مضافاً إليها
مخزون كراهية متفجر.. فالخبراء الأوروبيون يرون أن تحطم الأسواق الآسيوية،
كانت عملية مدبرة بين البنك الدولي والبنوك الغربية الكبرى وامتدادها الياباني حيث
أغرقت هذه الأسواق بالقروض الربوية القصيرة الأمد والتي كانت تقدم بشكل مثير
وبأرباح هائلة تدفع لأصحاب الثروات البنكية، ثم اتضح بعد الأزمة أن البنك
الدولي تَقَدّم لمساعدة هذه الدول شريطة تسديد أرباح البنوك الغربية الفلكية وإغلاق
البنوك الوطنية الربوية هي أيضاً لينفرد النموذج الوحيد نفسه للعولمة بالساحة؛
وتنتهي مقولة النموذج الآسيوي أو النمور الصاعدة التي تُروّض بأمثال اليهودي
البشع (سورش) .
هذه العولمة يقودها كما يطمئننا الخبراء المروِّجون للعولمة الأفراد لا
الحكومات، وإذا كان سورش بإجماع الخبراء هو (نجم العولمة القادم) فلنقرأ شيئاً
من سيرته.
قام سورش بدعم المافيا اليهودية الحاكمة في روسيا؛ وهذه المافيا تشمل
إمبراطوريات المال والإعلام، ويستثمر ما يزيد على 30 بليون دولاراً متحالفاً مع
عصابات المافيا والإجرام التي يحركها اليهود هناك.
قام بالمضاربة في بورصات جنوب شرق آسيا لأشهر قبل الأزمة؛ ويتفاخر
بأنه حطم أسعار البورصات إلى النصف، وكانت ماليزيا وأندونيسيا أكثر الدول
تضرراً حيث ما زالتا تعانيان الأمرّيْن.
يدعم حالياً صناعة الألماس (الإسرائيلية) بـ 20 بليون دولاراً حتى لا ينهار
سعر الألماس المصنّع الذي يشكل مصدراً هاماً للدخل للدولة الصهيونية.
ساد الهلع سوق المال المصرية بعد إعلانه استثمار بلايين الدولارات في
السوق المصري الذي أكد خبراء المال أن دخوله إليه سيحطمه وبسرعة!
إذن هذه هي بعض (لقيمات) العولمة الاقتصادية التي هبت لمساعدة كوريا
وتايلاند بينما تركت أندونيسيا وماليزيا تلعق جراحها رغم أن كوريا ليست في
أمريكا الشمالية وتايلاند لا تمت إلى القارة الأوروبية بصلة! !
أما العولمة العسكرية فنحن في هذا الجزء من العالم نشهدها ونلمسها حين
تصر واشنطن على الخيار العسكري المدمر في الخليج بينما كل دول العالم ترى أن
خيارات المفاوضات العالمية بعد ذلك لإرضاء (غطرسة العولمة) التي لا تنظر للعالم
سوى بمنظار السادة والعبيد.
أما العولمة الثقافية فهي برأي الخبراء والمفكرين تروِّج لثقافة (الهمبرجر)
(والكوكاكولا) والغناء على الطريقة نفسها، وهي طلائع العولمة التي لا تبشر إلا
بمزيد من الشقاء والتعاسة للبشرية.
فكم من (سورش) على الطريق يعمل لوأد كل اتجاه صاعد في عالمنا ...
الإسلامي؟ ! وهل يا ترى ننتبه لما يراد لنا أم على قلوب أقفالها؟ !
وأخيراً: فالعولمة تحدٍّ كبير يحتاج من الأمة أن تستدعي مثقفيها وعلماءها
ومفكريها إلى رصدها والتصدي لها من منظور إسلامي، وهي قضية شائكة تتطلب
التفهم الإيجابي لبعض مكوناتها كالاستفادة من التقنية أو الجوانب الاقتصادية التي لا
تتعارض مع مصالح الأمة المسلمة..
وهذه الدعوة تحتاج إلى عقول ورجال وإمكانات بحجم التحدي الهائل وبحجم
الإحجام والإهمال الذي نشعر به من مثقفي المسلمين الأصلاء، والذين نخجل من
نتاجهم في هذا الجانب مقارنة باهتمام ومتابعة ومقاومة الاتجاهات الفكرية الأخرى
داخل وخارج عالمنا الإسلامي.
بقيت حقيقةٌ هي منطلق هذه المحاولات والدعوات، كما أنها هي الضوء في
نهاية نفق التحدي المليء بالوطاويط.
أبداً لن تَهزِمَ ثقافةُ (ميكي ماوس) الإيمانَ الحقيقي الفعال.. إيمانَ الغلام حين
يُستدعى للموت فيطلب الشهادة شريطة أن يُنادى بسمع الكون وبصوت عالٍ ...
باسم الله رب الغلام.
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 21] .