دراسات شرعية
(1من2)
بقلم: ميمون بن عبد السلام باريش
يُعَدّ علم تصنيف العلوم من بين العلوم المنهجية التي اعتنى بها العلماء
المسلمون عناية فائقة تجسدت أساساً في كتب ورسائل امتازت بالدقة في التصنيف
والبراعة في الترتيب سواء ما كان منها مقلداً للترتيب الأرسطي للعلوم، أو ما كان
منها خاضعاً للمنهج الإسلامي الأصيل في تصنيف المعارف [1] . ويرجع السبب
الرئيس في هذا الاهتمام إلى ما شهدته الساحة الإسلامية من تشعب العلوم وتنوع
الفنون المعرفية. ولعل هذا ما عبّر عنه العلاّمة طاش كبرى زاده [968هـ] حيث قال: (إن الفنون كثيرة، وتحصيل كلها بل جلها لعلها عسيرة، مع أن مدة العمر
قصيرة، وتحصيل آلات التحصيل عسيرة، فكيف الطريق إلى الخلاص من هذا
المضيق؟ فتأمل فيما قدمت إليك من العلوم اسماً ورسماً وموضوعاً ونفعاً، وفيما
اخترعت من التفصيل في طريق التحصيل) [2] .
أما الغاية من وراء هذا الاهتمام، فهي غاية تربوية تعليمية تستهدف أساساً
توجيه العقل المسلم إلى الميادين المعرفية المتنوعة لاستيعابها وتمثلها أولاً بأول،
لاسيما أن العلوم بأسرها تمثل كلاً متكاملاً ووحدة متناسقة تمتزج فيها علوم المقاصد
وعلوم الوسائل على حد سواء. وفي هذا الصدد يقول الغزالي (505هـ) : (على
المتعلم ألا يخوض في فنون العلم دفعة، بل يراعي الترتيب، فيبدأ بالأهم فالأهم،
ولا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيباً ضرورياً
وبعضها طريق إلى بعض [ ... وعليه] ألاّ يدع فناً من فنون العلم ونوعاً من أنواعه
إلا وينظر فيه نظراً يطّلع به على غايته ومقصده وطريقه، ثم إن ساعده العمر
وواتته الأسباب طلب التبحر فيه، فإن العلوم كلها متعاونة مترابطة بعضها
ببعض) [3] .
بل أبعد من ذلك أن العلوم الإنسانية يطبعها طابع التكامل والتداخل، وفي
العلوم الإسلامية يمكن التمييز بين تداخلين اثنين: أحدهما التداخل الداخلي وهو
الذي يحصل بين العلوم التراثية الأصيلة فيما بينها؛ والثاني: التداخل الخارجي
وهو الذي يتم بين العلوم الإسلامية والعلوم الدخيلة: يونانية كانت أو فارسية أو
هندية [4] .
وإذا كان هذا التدخل قد تجسد بنوعيه في علم أصول الفقه باعتباره منهج
بحث ومعرفة لاستنباط الأحكام الشرعية والاستدلال عليها انطلاقاً من النقل واعتماداً
على العقل [5] ؛ فإن الضرب الأول منه أقصد التداخل الداخلي قد تجسد في علم
التفسير باعتباره نسيجاً متكاملاً ومتناسقاً من العلوم الإنسانية المتنوعة سواء أكانت
من علوم الوسائل أم من علوم المقاصد. ولتفسير هذه الظاهرة لا بد من الأخذ بعين
الاعتبار أمرين هامين:
أولهما: ما كان عليه علماء التفسير من اتساع العقل وكمال العلم البشري؛
ذلك أن أغلب المفسرين كانوا من الموسوعيين الذين رسخت أقدامهم في العلوم
العقلية والنقلية على حد سواء، ويكفينا مثالاً على ذلك العالم العلاّمة والبحر الفهّامة، صاحب التصانيف المشهورة، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310هـ) الذي
تمكن من ناحية مختلف العلوم التي كانت سائدة في زمانه، فكتب في كل منها بقلم
العالم المتخصص.
وثانيهما: أن علم التفسير علم لصيق بالظاهرة القرآنية، وهي في حد ذاتها
لصيقة بالظاهرة الإنسانية والاجتماعية؛ إذ القرآن الكريم في مجمله إما حديث عن
الإنسان، أو حديث إلى الإنسان. ولقد أصاب ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من أراد علم الأولين والآخرين، فليثوِّر القرآن) [6] .
ولا بد من الإشارة إلى أن نظرة أولية في تعريفات العلماء الأجلاء لعلم
التفسير من شأنها أن تكشف عن مظاهر التداخل بين هذا العلم وغيره من العلوم،
ومنها مثلاً تعريف أبي حيان التوحيدي القائل: (التفسير علم يبحث فيه عن كيفية
النطق بألفاظ القرآن الكريم ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي
تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك) [7] . وقد نص هذا التعريف على أن
تفسير كتاب الله عز وجل لا يتأتى إلا لمن جمع زاداً علمياً يؤهله لذلك، ويدخل في
ذلك علم القراءات، واللغة، وعلم التصريف وعلوم البلاغة والدلالات، وعلوم
أخرى متممة للفهم السديد كالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقصص،
والتاريخ، وغيرها من العلوم المساعدة على توضيح ما أشكل من الذكر الحكيم.
وهذا نفسه ما عبّر عنه الإمام الزركشي (794هـ) حيث قال: (التفسير علم يفهم به
كتاب الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبيان معانيه، واستخراج
أحكامه وحِكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان
وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ) [8] .
وعلى هذا النحو جاءت باقي تعريفات علم التفسير، وفي كل منها تنصيص
على بعض العلوم التي يحتاج إليها علم التفسير مما كان سائداً في زمن قائليها. ولقد
نص جلال الدين السيوطي (911هـ) على أن تبيين ما أبهم من الآي لا يتأتى إلا لمن
كان جامعاً للعلوم التي يحتاج إليها المفسر، وذكر من ذلك خمسة عشر علماً بما في
ذلك علم الموهبة، وكل ما ذكر هي مما يتوقف عليه فهم المعنى القرآني وبيان
المراد الإلهي [9] . وإذا كان علماء السلف قد اقتصروا على ذكر العلوم التي كانت
سائدة في عصر كل منهم، فإن التطور الزمني بما فيه من إبداع حضاري سيكشف
عن علوم أخرى هي بمثابة وسائل تعين على الفهم الدقيق لمراد الله عز وجل من
خطابه وخاصة إذا سلمنا أن الشمولية والجمع بين الثبات والتطور والصلاحية لكل
زمان ومكان ... خصائص لازمة للقرآن الكريم، إذاً (فمن المحال على البشرية أن
تفهم كمالات القرآن الكريم في نواحي الوجود كلها في عصر واحد؛ إذ باستطاعة
كل عصر أن يضيف إلى تفسير الآيات المتعلقة بتلك الموضوعات مما يستجد أمامه
من العلوم والمعارف نتيجة لتطور الحضارة ونمو الثقافة) [10] لا سيما إذا تعلق
الأمر بالآيات الكونية، والظواهر الاجتماعية، وأسرار النفس البشرية ...
وبناءً على المعطيات السالفة ننتهي إلى القول: إن علم التفسير قد استمد،
ولا يزال يستمد مادته بالإضافة إلى القرآن الكريم من علوم مختلفة. وهي الآتي:
علم اللغة: الأمر الذي وقع عليه إجماع السلف والخلف على السواء أن العلم
باللغة العربية شرط آكد لتفسير كتاب الله عز وجل فقد روي عن مجاهد رضي الله
عنه أنه قال: (لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم
يكن عالماً بلغات العرب) [11] وروي عن الإمام مالك أيضاً، أنه توعد من رام
تفسير القرآن الكريم وهو يجهل اللغة حيث قال: (لا أُوتى برجل غير عالم بلغة
العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً) [12] .
وإنما حصل هذا الإجماع؛ لأن القرآن الكريم قد نزل باللغة العربية وعلى
مقتضى ألسنة العرب. قال تعالى: [الّر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ (?) إنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] [يوسف: 1-2] ؛ إذ لا يمكن فهم المراد القرآني إلا
بامتلاك ناصية العربية التي بموجبها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب
الوضع؛ ولذا كان لزاماً (على متدبر كتاب الله بتعمق أن يبحث في معاني الكلمات
الواردة فيه بحثاً علمياً لغوياً بالرجوع إلى أمهات المعاجم اللغوية، وبالتبصر في
مختلف معاني الكلمة واستعمالاتها الحقيقية والمجازية في لغة العرب إبّان نزول
القرآن) [13] . وهذا لا يتأتى إلا لمن كان ملماً بمعاني اللغة، وعالماً بكيفية وقوع
الأسماء على المسميات، بصيراً بعلاقة الدوالِّ والمدلولات، خبيراً بطبيعة
المفردات ومدلولاتها واستعمالاتها المختلفة حسب ما يقتضيه السياق ... ولا يكفي
من ذلك كله الشيء اليسير، بل لا بد من عُدة لغوية كافية؛ وذلك لأن الألفاظ تتسم
بصبغة تجوالية وتتلون تبعاً للتلونات المعرفية، وأن المشتركة منها تحمل أكثر من
معنى، وأن المقام مقام استنباط الأحكام العقدية والتشريعية، وبيان لمراد الله عز
وجل من خطابه العظيم. وفي هذا يقول الشيخ أحمد بن السمين الحلبي (756هـ) :
(أما بعد: فإن علوم القرآن جمة، ومعرفتها مؤكدة مهمة، ومن جملتها المحتاج إليها
والمعوّل في فهمه عليها مدلولات ألفاظه الشريفة ومعرفة معانيه اللطيفة؛ إذ بذلك
يترقى إلى معرفة أحكامه وبيان حلاله وحرامه ومناصي أقواله وإشارة مواعظه
وأمثاله؛ فإنه نزل بأشرف لغة: لغة العربية المحتوية على كل فن من
العجب) [14] .
وإذا كان العلم باللغة من آكد شروط المفسر، فمن تحصيل الحاصل أن يُرى
أثر هذا الشرط في كتب التفسير.
علم النحو: وهو من علوم الوسائل التي يحتاج إليها المفسر لتدبر كتاب الله
عز وجل، ذلك أن المعنى يتغير ويختلف باختلاف العوامل الإعرابية، فلا بد إذاً
من اعتباره، وإلا فكيف يتسنى للجاهل بالنحو وعامله أن يستنبط معنى لائقاً بقوله
تعالى: [إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) . بحيث إن في تقديم
المفعول في هذه الآية دلالة على معنى يختلف عن المعنى الذي تفيده الآية لو أخر
فيها. يقول الزمخشري (528هـ) : (فإن قلتَ: هل يختلف المعنى إذا قدم المفعول
في هذا الكلام أو أخر؟ قلتُ: لا بد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت
العلماء كان المعنى: إن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم. وإذا
عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله. كقوله تعالى: [وَلا
يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللَّهَ] [الأحزاب: 39] ، وهما معنيان مختلفان) [15] .
من هنا، فإن مادة النحو لا بد منها لتلاوة كتاب الله عز وجل تلاة تدبّر وتأمّل، وقد أوجب الإمام الزركشي العلم بالقواعد الإعرابية على كل متعامل مع الذكر
الحكيم حيث قال: (وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلاً للمعنى وجب على المفسر
والقارئ تعلّمُه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم، ويسلم القارئ من اللحن) [16] .
علم الصرف: وهو كذلك من علوم الوسائل التي لا غنى عنه لمتدبر خطاب
الله عز وجل؛ لأن الأبنية والصيغ به تعرف ... وفي حقه يقول ابن فارس: (من
فاته علمه فاته المعظم) [17] . ألا ترى أن لفظة (وجد) لفظة مبهمة، فإذا صُرِّفت
اتضحت بمصادرها:
فوَجَدَه يَجِدُه وُجُوداً، إذا عثر عليه.
ووَجَدَ يَجِدُ وُجْداً ووِجْداً ووِجْدَاناً وجِدّةً، إذا صار غنياً ذا مال.
ووَجَدَ يَجُدُ وَجْداً وجِدَة وموجدة إذا انفعل وغضب.
ووَجَدَ يَجِدُ بفلانة وَجْداً شديداً إذا كان يهواها ويحبها حباً شديداً.
ووَجَدَ يَجِدُ لفلان وَجْداً إذا حَزِن [18] .
ولا شك أن الجهل بالتصريف أو تجاهله هو الذي أوقع بعض المفسرين في
أخطاء شنيعة لا مكان لها في ميزان العقل، من ذلك مثلاً من فسر قوله تعالى:
[يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإمَامِهِمْ ... ] [الإسراء: 71] . أن الإمام في هذه الآية جمع
(أم) ، وأن الناس يُدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون
الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا
يفتضح أولاد الزنا. وهذا من أبدع التفاسير؛ لأنه روعي فيه بهاء الحكمة وغيبت
فيه صحة اللفظ؛ إذ لفظة (أم) لا تجمع على (الإمام) ولو روعيت صحة اللفظ لكان
المعنى: يوم ندعو كل أناس بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو
دين ... [19] .
علم الاشتقاق: ومعرفته ضرورية لكل من رام تفسير كلام الله عز وجل؛ إذ
إن في القرآن الكريم ألفاظاً كثيرة لا يستقيم معناها بحسب الوضع إلا بعد معرفة
اشتقاقها اللفظي، والاسم إذا كان مشتقاً من مادتين مختلفتين اختلف المعنى تبعاً
لاختلافهما. فتأمل اختلاف المفسرين في الكشف عن سر وصف (عيسى ابن مريم)
عليه السلام بالمسيح. فقال بعض السلف: وصف كذلك لكثرة سياحته، وقيل لأنه
كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقال آخرون: لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي
العاهات برئ بإذن الله تعالى [20] ، وأصل هذا الاختلاف اختلافهم في أصل
الصفة: هل هي مشتقة من المسح، أم من السياحة؟
علوم البلاغة: وهي علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، (وهي من
أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك
بهذه العلوم) [21] .
فأما المعاني فيعرف به خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى؛ وأما
علم البيان فيعرف به خواص تراكيب الكلام من حيث اختلافها بحسب وضوح
الدلالة وخفائها؛ وأما علم البديع فيعرف به وجوه تحسين الكلام. ولا بد للمفسر أن
يكون ملماً بدقائق هذه العلوم الثلاثة بالتعرف عليها ورياضة النفس لامتلاكها
وتدريبها على ذلك حتى يتسنى له الحفاظ على إعجاز القرآن الكريم وما وقع به
التحدي من النظم القرآني.
وللحديث بقية في العدد القادم -إن شاء الله-