مجله البيان (صفحة 2696)

خصائص المرحلة المكية فى مجال المعرفة (2)

دراسات في السيرة النبوية

خصائص المرحلة المكية

في مجال المعرفة

(2من2)

بقلم: د.محمد أمحزون

أوْلى الإسلام العلم والمعرفة عناية واضحة وذلك مع أول آيات الوحي في

الرحاب المقدسة، وسبق أن أوضح الكاتب أن من خصائص العلم في هذه المرحلة: الاهتمام بالعلم (العقيدة وتوحيد الله) عز وجل، وأصلَيِ الدين: (التوحيد،

والاتباع) ، ثم بين أن ذلك يتضمن أن يكون الإيمان: قولاً وعملاً.. ويواصل

الكاتب في هذه الحلقة إيضاح جوانب أخرى للموضوع ... ... ... ... ... ... ... ...

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

توحيد الله عز وجل في ربوبيته:

جاء القرآن المكي موضحاً لنوع آخر من التوحيد هو توحيد الربوبية، ومن

مقتضياته أن الإحياء والإماتة، والرزق والنفع والضر وتدبير شؤون الخلق،

والتشريع من تحليل وتحريم، من خصائص رب العالمين.

وقد أفصح القرآن المكي عن ذلك في مواضع كثيرة، من ذلك قوله تعالى:

[لا إلَهَ إلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ] [الدخان: 8] وقوله تعالى:

[إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] [الإسراء: 30] وقوله تعالى: [وَإذَا

مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إلَيْهِ] [الزمر: 8] وقوله تعالى: [أَلا لَهُ الخَلْقُ

وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ] [الأعراف: 54] وقوله تعالى: [إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ

الَذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن

شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] [يونس: 3] .

وقد بيّن القرآن الكريم أن العلة في اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم

أرباباً من دون الله هي بما أعطوهم من حق التشريع في التحليل والتحريم

وأطاعوهم فيه، كما في قوله تعالى: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ

اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهاً وَاحِداً لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا

يُشْرِكُونَ] [التوبة: 31] .

وقد علّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه تجريد هذا النوع من

التوحيد، فنفوا حسّاً وواقعاً كل ما يضاد توحيد الربوبية من اعتقاد متصرف مع الله

عز وجل في أي شيء من تدبير الكون، حيث استقر في قلوبهم إلى درجة اليقين

أن الله عز وجل هو المحيي المميت، وأنه هو الضار النافع، وأنه هو الرزاق ذو

القوة المتين، وأنه هو المدبر المشرع بيده كل شيء.

كما رسخ في قلوبهم بفعل التوجيهات القرآنية والنبوية أن المخلوقات البشرية

إن هي إلا أدوات لقدر الله، وأنها حين تضره فهي تضره بشيء قدره الله له،

وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.

وحين كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلِّم أصحابه هذه العقيدة

ويربيهم عليها، إنما كان ينشئ بقدر الله ذلك اليقين القلبي الذي ينبثق منه السلوك

العملي. فليست العقيدة مفهوماً معرفياً ذهنياً تستوعبه الأذهان وكفى، إنها على هذا

النحو لا تصنع شيئاً في عالم الواقع، كالفلسفة في الأبراج العاجية لا تغير شيئاً في

واقع الناس، إنما هي عقيدة ترسخ وترسخ حتى تصبح يقيناً قلبياً تنطلق على هداه

مشاعر القلب، ويجري بمقتضاه السلوك العملي للإنسان [1] .

وبهذه الصورة الناصعة آتت العقيدة ثمارها المباركة في مواقف الصحابة

وهديهم؛ فلم يخشوا إلا الله، ولم يتوكلوا إلا عليه، ولم يلتجئوا إلا إليه، وصدعوا

بالحق في وجه الباطل لا يخافون لومة لائم؛ لأنهم علموا حق العلم أن كلمة الحق لا

تقدم أجلاً ولا تؤخر رزقاً.

تُرى: كم يحتاج الشاب المسلم الذي يعمل في حقل الدعوة من جلسة علمية

ودرس وموعظة وتوجيه ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الأرزاق والآجال بيد

الله وحده، فهو المحيي المميت، وهو الضار النافع، وهو المعطي المانع، وهو

الذي بيده مقاليد كل شيء، ذلك أن كثيراً من المسلّمات العقدية تبقى بدهيات ذهنية

تستقر في وقت السلم والأمن في الشعور، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ومحك

الاختبار؛ لأنها ليست عميقة الجذور، ولم تعد يقيناً قلبياً بمفعول التربية.

توحيد الله عز وجل في أسمائه وصفاته:

وكذلك جاء القرآن المكي مقرراً لتوحيد الأسماء والصفات، فغالب الآيات

تختم بصفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، لتأكيدها وترسيخها في النفوس، كي يعبد

الله عز وجل بمقتضاها. مثل ذلك قوله تعالى: [قُلْ أَنزَلَهُ الَذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً] [الفرقان: 6] ، وقوله تعالى: [وَهُوَ

القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ] [الأنعام: 18] ، وقوله تعالى: [فَالِقُ

الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سََكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ]

[الأنعام: 96] .

ولما كان لتوحيد الأسماء والصفات شأن عظيم وأثر كبير في النفوس والقلوب، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله وصفاته، فقد أمر الله عز وجل عباده

أن يدعوه بها: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] [الأعراف: 180] . ...

كما أمرهم أن ينزهوه عن مشابهة المخلوقين وعن تأويل صفاته وتحريفها،

وأن يؤمنوا بصفات جلاله ونعوت كماله كما جاءت في كتابه الكريم بلا كيف، كما

في قوله تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] [الشورى: 11] ،

وقوله تعالى: [يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً] [طه: 110] .

وهنالك بُعْدٌ آخر في فهم الأسماء والصفات، وهو فقهها والشعور بآثارها

القلبية والتعبد لله عز وجل بها، وتحقيق ما تقتضيه من فعل المأمورات وترك

المنهيات اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم الذين

تعلموا منه الإيمان والعمل؛ فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا مع

النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة [2] ، فتعلمنا الإيمان قبل أن

نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً) [3] ، فنظروا إلى كل اسم من

أسماء الله بأن فيه حقاً من العبودية لله عز وجل على العباد يتعبدون لله سبحانه

وتعالى. وهذا جلي وواضح من سيرهم ومواقفهم وأعمالهم [4] .

ويذكر ابن القيم رحمه الله مقتضيات هذه العبودية وآثارها بقوله: (لكل صفة

عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق

بمعرفتها وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم

العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق،

والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته

ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه

يعلم السرّ، ويعلم خائفة الأعين وما تخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه

وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه

الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياءَ باطناً؛ ويثمر له الحياءُ اجتناب المحرمات

والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب سعة الرجاء،

ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه. وكذلك

معرفته بجلال الله وعظمته وعزه يثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، فرجعت

العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات) [5] .

ويقول ابن بطال رحمه الله عن طريقة العمل بالأسماء والصفات: (فليمرن

العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها) [6] .

ومن هذا يتبيّن أن المقصود من توحيد الأسماء والصفات ليس مجرد المعرفة

الذهنية فحسب، وإنما الغاية منها أن نحققها علماً وعملاً، ونفهمها كما فهمها رسول

الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام لفظاً ومعنى، وتعبدوا الله تعالى بها،

وعملوا بمدلولها في واقع الحياة [7] .

وهكذا تربى الجيل الأول رضوان الله عليهم على تعلم وفهم صفات الله

وأسمائه الحسنى فعبدوه بمقتضاها، وعرفوه حق معرفته، وقدروه حق قدره،

فمُلئت قلوبهم بتعظيمه وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لعظمته وكبريائه،

واستشعار مراقبته في كل الأوقات، فأصبح رضاه سبحانه وتعالى غاية قصدهم

ونهاية آمالهم.

الإيمان بالله واليوم الآخر:

أما الإيمان، فقد ركز القرآن المكي على عرض قضايا الإيمان بالله وملائكته

وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر عرضاً مفصلاً ومجملاً، يتناول الملائكة وأعمالهم

وصفاتهم، والكتب وما فيها، والنبيين ودعوتهم وقصصهم، ومقادير الخلق،

وأحوال البرزخ، ويوم القيامة، وأحوال المنعمين والمعذبين، وكيفية البعث وحشر

الناس ومحاسبتهم، بأسلوب معجز حتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي

عين: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إلاَّ مَن شَاءَ

اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا

وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69)

وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ

زُمَراً حَتَّى إذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاًتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ

عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى

الكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ (72)

وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ

خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ

وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ (74) وَتَرَى المَلائِكَةَ

حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ

العَالَمِينَ] [الزمر: 68 - 75] .

على أن قضية الإيمان باليوم الآخر والحساب والجزاء من قضايا العقيدة

الرئيسة التي جاء بها الإسلام، والتي يقوم عليها بناء العقيدة بعد توحيد الله، لما لها

من أهمية في تهيئة النفوس وإعدادها للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي

تعلم أنه مناط العوض والجزاء في اليوم الآخر.

ولأجل ذلك لم يناقش القرآن المكي قضية من القضايا بالتفصيل مثل عرضه

لأمر الإيمان باليوم الآخر.

ولا شك أن الاهتمام الشديد بذكر اليوم الآخر في كتاب الله، وتقريره في كل

موقع ومناسبة، وورود ذكره في القرآن بأسماء كثيرة مع العلم أنه كلما كان للمسمى

شأن عظيم كلما كثرت أسماؤه يعطي الانطباع ويوحي بخطورة هذا الأصل في تقويم

حياة الإنسان وتوجيهه لعمارة الدنيا بالعلم النافع والعمل الصالح.

ولذلك ركز النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربط أصحابه بعقيدة اليوم

الآخر، وعلّمهم بقوله وفعله كيفية الاستعداد للقاء الله عز وجل، فأثمر لهم هذا العلم

واليقين بالنبأ العظيم عدّة ثمرات منها: الإخلاص لله عز وجل والصدق معه،

والحذر من الدنيا والزهد فيها، والصبر على شدائدها، والتزود بالأعمال الصالحة، والاستعداد للجهاد في سبيل الله وتحمل الأذى والمشقة في سبيل ذلك [8] .

مع العلم بأن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام وذروة سنامه،

ووسيلة هذا الدين لتحقيق مهمته في الأرض وأهدافه العليا التي أراد الله عز وجل

تحقيقها في عالم الإنس، يحتاج إلى عقيدة إيمانية تعد بمثابة الوقود الذي يمدّ النفوس

بالصبر والصمود في معركتها مع الباطل والطغيان في واقع الحياة.

وقد كان الجيل الأول يدرك هذه الحقيقة إدراك من تعلمها وتربّى عليها،

ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إليها ويغرسها في النفوس تمهيداً

للمرحلة التالية وهي مرحلة إقامة الدولة الإسلامية.

وخلاصة القول: أن التوحيد هو الحقيقة الكبرى في الكون؛ فالخالق تعالى

واحد، والكون بسنته ونواميسه واحد، والإنسان في جوهره وغايته ووجوده واحد.

والكون بكامله يتجه إلى الله عز وجل اتجاهاً واحداً بالعبادة والطاعة: [وَلَهُ أَسْلَمَ

مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً] [آل عمران: 83] ، وكذلك ينبغي

للإنسان أن يتجه إلى الغاية نفسها والهدف ذاته، وإلا حصل التصادم والتمزق

والضياع في مسيرة حياته.

ولذلك نص القرآن المكي على قاعدة الوجود الكبرى وغاية الوجود الإنساني:

[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ] [الذاريات: 56] ، وهي ترسم الإطار

العام للعقيدة والدائرة الشاملة للحياة البشرية.

ولهذا لم يكن مصادفة أن يقضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة

عشر عاماً يحدث الناس عن قضية العقيدة، ويعلم أصحابه تجريد التوحيد بأنواعه

السالفة الذكر، حيث رسخ في قلوبهم المعرفة الحقة بالله تعالى التي تقتضي

الاستسلام التام له، والطاعة المطلقة له، وعدم التقديم بين يديه، والرضا والتسليم

بقضائه. وكان مثالاً حيّاً للمؤمن الموحد الذي يُقتدى به في هذا الشأن.

ولأهمية العلم بالعقيدة على هذا النحو، وجب ربط المسلمين وخاصة الدعاة

إلى الله بهذا العلم الذي يعد من أولويات البناء في حقل العقيدة؛ لأن المفاهيم

الرئيسة في العقيدة إذا لم تكن صحيحة وأصابها الانحراف، فكل ما يستند إليها

سيلحق بها؛ إذ على فهمها يترتب فهم سائر الأحكام، وانطلاقاً منها توزن الأقوال

والمواقف والأحداث.

فمثلاً لا يمكن عرض الانحرافات الجوهرية التي تعيش اليوم بين المسلمين

مما له تعلق بجوانب الاعتقاد، مع بيان خطرها وتأثيرها والتحذير منها حتى يكون

الداعية ملمّاً بأركان توحيد الألوهية الثلاثة وهي: إفراد الله بالحكم، وإفراد الله

بالولاء، وإفراد الله بالنسك.

على أن سورة الأنعام وهي سورة مكية ويكاد موضوع التشريع يستغرقها،

تستوعب هذه الأركان الثلاثة في قوله تعالى: [أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً]

[الأنعام: 114] ، وقوله تعالى: [قُلْ أََغَيْرَ اللَّهِ أََتَّخِذُ وَلِياً] [الأنعام: 14] ، وقوله تعالى: [قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ]

[الأنعام: 162] .

فالجاهل بتوحيد الحكم وإفراد الله به يكون عاجزاً عن طرح قضية الحكم بغير

ما أنزل الله وحكمه الشرعي، وأهمية ردّ الأمور كلها إلى شرع الله؛ لأن هذا هو

مقتضى الإسلام والتسليم، وشرط الإيمان الذي لا يكون إلا به، وبذلك لا يكون

مؤهلاً لتعليم الأفراد وتربيتهم على الولاء لشريعة الإسلام، والحذر من تنقصها، أو

اعتقاد أفضلية غيرها، أو مساواته لها، أو جواز الحكم بغيرها، بحيث يصبح

الإيمان المطلق بشريعة الله قناعة راسخة لدى المخاطبين، حتى لو فرضت عليهم

النظم الوضعية الجاهلية.

ومن لا يعرف معنى الولاء والبراء لا يمكنه الحديث عن موالاة الكافرين

والمنافقين، وحكمها وتأثيرها على النفوس، والخطر الزاحف بسببها سواء على

مستوى الفرد أو الجماعة أو المجتمع، والتركيز على ضرورة استقلال الأمة

المسلمة وتميزها، واستعلائها بإيمانها وشريعتها على الأوضاع والعقائد والنظم

والمناهج الجاهلية.

ومثل هذا وذاك التركيز على توحيد النسك في البلاد والأماكن التي جهل فيها

الناس معنى الألوهية، وصرفوا العبادة للشيوخ والأولياء، وقدسوا الأضرحة أكثر

من تقديس المساجد [9] .

وعلى العموم، فإن العلم بالعقيدة فريضة على كل مسلم، فضلاً عن كل داعية؛ لما لها من أهمية واعتبار في معرفة المنطلقات والثوابت وتحديد الأهداف

والغايات، والتمييز بين الواقع الشركي والواقع الإيماني، وتأصيل المنهج الشرعي

لئلا تنحرف الدعوة عن أهدافها المرسومة.

تلك هي الخطوط الكبرى لهذه العقيدة التي ركز عليها القرآن المكي خلال

ثلاثة عشر عاماً، ووقف عندها لا يتجاوزها، وكانت غايته تقريرها في النفوس،

بحيث تكون عقيدة إيجابية ثابتة مستقرة، قائمة على العلم والعمل، مبنية على

الوعي والنظر والمعايشة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015