مجله البيان (صفحة 2697)

الرغبة فى الصدارة (2)

مرتكزات للفهم والعمل

الرغبة في الصدارة

رؤية دعوية حول حقيقتها ومظاهرها وآثارها

(2من2)

بقلم: عبد الحكيم بن محمد بلال

تناول الكاتب في الحلقة الماضية خطر الرغبة في الصدارة لدى العاملين في

الحقل الدعوي، موضحاً ما جاءت به النصوص الشرعية بالتحذير من التطلع

للإمارة، ثم أوضح مظاهر الحرص على الإمارة والظهور، وآثار ذلك الحرص

ومفاسده.. ويتابع في هذه الحلقة إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع. ... ... ...

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

أسباب الرغبة في الزعامة والتطلع للصدارة:

يُبتلى بهذه الشهوة العلماء والعباد والدعاة والمجاهدون ونحوهم؛ وذلك أنهم

منعوا أنفسهم من المعاصي والشهوات، حتى لم يعد لهم فيها مطمع، ولكن نفوس

بعضهم تبحث عن بديل ومكافأة لشدة المجاهدة، فتجده في التظاهر بالصلاح والعلم

والدعوة ... ولذة القبول عند الخلق، وتوقيرهم له واحترامهم وطاعتهم، فيهون

عليها ترك المعاصي؛ لأنها وجدت لذة أعظم منها، وهذه مكيدة عظيمة؛ فقد يظن

العبد نفسه مخلصاً، وهو في عداد المنافقين [1] والعياذ بالله ولكن يا ترى ما أسباب

هذا الأمر في الحقيقة؟ [2] .

1- ضعف الإيمان والرغبة فيما عند الله، الذي بسببه يركن هؤلاء إلى الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة، وأشد من هذا: فساد النيّة، واتخاذ سبيل العلم والدعوة

سُلماً لنيل الأغراض الشخصية، وما لهذا في الآخرة من نصيب، فلْيَنَلْ حظه من

الدنيا! !

2- وهناك أخطاء تربوية تسهم في إشعال فتيل حب الزعامة، منها: الإكثار

من مدحه والثناء عليه، أو عدم الكشف عن الطاقات الكامنة في المتربي لتوظيفها

فيما يناسبها، مما يجعله يسعى لتوظيفها في هلاكه، ومنها: الغفلة عن بذور هذا

المرض الأولية التي قد تبدو في سن مبكرة من المراحل التربوية، فتحتاج إلى

تهذيب وترشيد ومتابعة؛ لئلا تجمح بصاحبها.

3- التوهم بخدمة الدعوة من خلال المنصب، والظن أحياناً بأن الإصلاح لا

يكون إلا من مصدر القوة، وسبب هذا: عدم وضوح المنهج النبوي في الدعوة.

4- طبيعة الشخص نفسه، فقد يكون فيها من الثغرات ما يسبب مثل هذا،

كالغيرة من أقرانه الذين نالوا ما يتمناه هو، أو غروره بسبب تفوقه على غيره، أو

بروزه في الدعوة أو النسب، أو توليه بعض المسؤوليات والمهام.

5- الظن بأن المنصب تشريف، والغفلة عن كونه تكليفاً ثقيلاً، ومسؤوليةً

ضخمة، وعبئاً ثقيلاً، وهذا يتطلب من صاحبه التضحية بوقته وماله ونفسه

وراحته لمصلحة الآخرين، وأن التقصير فيه خيانة للأمانة وتضييع للواجب.

علاج الآفة وحلول المشكلة:

بعد تدبر الأسباب يظهر أن العلاج يتطلب خطوات أهمها [3] :

1- تكثيف التربية الإيمانية؛ القائمة على الإخلاص والتجرد لله تبارك وتعالى، والعمل للآخرة، والزهد في الدنيا.

2- التربية على الطاعة وهضم النفس منذ الصغر، والرضا بالموقع الذي

يعمل فيه، وأداء واجبه أياً كان نوعه، كما صوّر النبي -صلى الله عليه وسلم-

تلك الحال في قوله: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٍ رأسه،

مغبرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في

الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفّع) [4] .

3- التزام الضوابط الشرعية في المدح، وتجنب مدح أحد الأقران أمام قرينه

مطلقاً.

4 - توضيح الأسس الشرعية لاختيار الأمير، وأنه لا يجوز طلب الإمارة،

ولا الحرص عليها، وأن من طلبها لا يُوَلاّها، وإن وُلِّيها لم يُعَن عليها.

5- المصارحة والمكاشفة لمن تبدو عليه علامات الحرص، مع إحسان الظن

به، فقد يكون متميزاً أو لديه مهارات فطرية، ومن ثَمّ النصيحة الفردية، فقد نصح

النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر رضي الله عنه في هذا الأمر خاصة [5] .

6- تبيان الآثار المفسدة لنفس العالم والداعية من جرّاء حرصه عليها [6] .

7- توضيح تبعاتها في الدنيا والآخرة. ومما ورد في ذلك: قوله: (ما من

عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) [7] . وقوله: (ما

من أمير عشيرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً، لا يفكه إلا العدل، أو يوبقه

الجور) [8] .

8- الاعتبار بحال السلف الصالح في تواضعهم لله تعالى، وكراهيتهم الشهرة

والتصدّر، وكل ما يؤدي إليها، ومحاولة عزل أنفسهم من بعض المواقع كما حصل

من أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وعمر بن عبد العزيز رضي الله

عنهم، والأمثلة كثيرة ... تركوها لله، لانشغالهم بمرضاته، وتوحّد همّهم وقصدهم، فتكفّل الله لهم بخير الدارين، فعوّضهم الله بشرف التقوى، وهيبة الخلق، قال

عز وجل: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وداً]

[مريم: 96] ، وقال: (وما تواضع أحد لله إلارفعه) [9] . وقال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) [10] .

ولا يمكن بحال تحصيل هذه المنزلة لمن كان في قلبه حب المكانة في قلوب

الخلق في الدنيا؛ لأن هذا من أعظم الصوارف عن الله تعالى. كتب وهب بن منبه

إلى مكحول: (أما بعد: فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفاً ومنزلة،

فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من

الأخرى) . والمراد بالعلم الباطن: المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته

ومراقبته، والتوكل عليه والرضى بقضائه والإقبال عليه دون سواه ... فمن أغل

نفسه بالمحافظة على ما حصل له من منزلة عند الخلق كان ذلك حظه من الدنيا،

وانقطع به عن الله [11] .

التوازن بين كراهية الصدارة والشهرة، وبين وجوب قيادة الناس:

لا ينبغي أن يفهم من هذا الموضوع إرادة قتل الطموح، وتفضيل دنو الهمة

والقعود والخمول والعجز والكسل والتهرب من المسؤولية، وترك العمل، والتخاذل

عن الواجبات، وفروض الكفايات خاصة إذا تعينت على الأكفاء، وترك اغتنام

الفرص النافعة في الدعوة إلى الله عز وجل.

وقد جعل ابن القيم رحمه الله تعالى الفرق بين الأمرين كالفرق بين تعظيم أمر

الله وتعظيم النفس. فالناصح لله المعظم لله يحب نصرة دينه، فلا يضره تمنيه أن

يكون ذلك بسببه وأن يكون قدوة في الخير. أما طالب الرياسة فهو ساعٍ في حظوظ

دنياه، ولذا ترتب على قصده مفاسد لا حصر لها [12] .

والمقصود أن الداعية المخلص يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه؛

لإخلاصه وبعده عن الرياء، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب المبادرة الخيرة،

وهو فارس الميدان إذا تعين عليه التصدر؛ وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم:

[وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً] [الفرقان: 74] أي: أئمة هدى يقتدى بأفعالهم، وهذا

لشدة محبتهم لله، وتعظيمهم لأمره، ونصحهم له، ليكون الدين كله لله، وليكون

العباد ممتثلين لأمره.

وقال سبحانه وتعالى قاصاً كلام يوسف عليه السلام: [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى

خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] [يوسف: 55] ، وليس ذلك حرصاً منه على

الولاية، وإنما هو رغبة في النفع العام، وقد عرف من نفسه الكفاية والأمانة

والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه، فقصده إصلاح أموال الناس، وهو جزء من رسالة

الداعية إلى الله، الذي يكون همه الأول فعل الخير طلباً لمرضاة الله تعالى، وليس

قصده إرواء غليله، وإرضاء شهوته في الزعامة؛ فالضابط فيها هي النية

والموازنة بين المصالح والمفاسد العامة.

فبالجملة: هاتان الآيتان توضحان أن المسلم هو الرائد والدليل، بل قد ينبغي

له طلب هذه الوظيفة الشريفة، بل قد تتعين عليه للمصلحة. والأدلة والأقوال

المحذرة لا تنطبق على داعية تصدّر لإرجاع قومه إلى الحق، حتى لو اشتهر

وعرف فلا بأس [13] . ويجب التنبيه إلى أن هذا الأمر مزلق؛ لالتباس النية فيه

كثيراً، وصعوبة تمحيص القصد، وذلك علمه إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما

تخفي الصدور: [وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] [آل عمران: 30]

الكشف عن القدرات:

كون بعض الدعاة لا يصلح للإمارة لا يعني إخفاقه وضعفه في كل شيء، بل

إن غاية الأمر أنه لم يؤت قدرة في هذا الجانب، وقد يكون لديه من القدرات

والإمكانات في العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره ممن أُهل للإمارة مثلاً، وهذه

سنة الله تعالى في توزيع القدرات، ليحصل التكامل والتوازن، قال تعالى: [وَهُوَ

الَذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ

إنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ] [الأنعام: 165] فعلى العبد أن يفتش في

نفسه عما هو أهل له، ليقوم بحق الله تعالى فيه.

وهكذا كانت نصيحة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين قال له: (يا

أبا ذر، إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين،

ولا تَولّيَنّ مال يتيم) [14] . ولا يقدح هذا في شيء من منزلة أبي ذر رضي الله

عنه وجلالته وقدره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015