مرتكزات للفهم والعمل
(2 من 2)
عبد الحكيم بن محمد بلال
تحدث الكاتب في الحلقة السابقة عن مفهوم العجب ومداخله على الدعاة،
وعرّج على التحذير منه مبيناً مظاهره ومخاطره وآثاره وأسبابه وعلاجه؛ من
خلال الحرص على العلم الشرعي، والإقبال على كتاب الله، وتأمّل سير العاملين
النشيطين، والتأكيد على المسؤولية الفردية، وما للدعاة والمربين من دور في ذلك.
-البيان-
حال السلف في الافتقار إلى الله واجتناب العجب: لقد كان حال النبي -صلى
الله عليه وسلم- دوام الافتقار إلى الله، والذل بين يديه، واستمداد العون منه؛
لعلمه بأن (قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد،
يصرفه كيف يشاء) . وقد تمثل افتقاره -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: (اللهم
مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك) [1] يقول ذلك وهو سيّد ولد آدم، الذي
غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بل يصلي حتى تتورم قدماه، ويقول: (أفلا
أكون عبداً شكوراً) [2] ولا يجتمع الافتقار والعجب في قلبٍ أبداً.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغرس في نفوس أصحابه هذه المعاني،
ويرشدهم إلى دوام التواضع لله والاعتراف بين يدي الله بالتقصير، مهما بلغوا من
منزلة في الإيمان، فهو حينما يطلب منه أبو بكر رضي الله عنه دعاءً يدعو به في
صلاته، يعلمه أن يقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا
أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) [3] .
ويرشدهم أيضاً إلى إظهار الحاجة إلى الله، وطلب العون منه دوماً، فيقول لمعاذ
رضي الله عنه: (يا معاذ! والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، يا معاذ! لا تدعنّ
في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن
عبادتك) [4] .
نعم إنه يعلِّم ذلك صفوة الأمة، وخيرة أصحابه، ولكنه تعليم للأمة كلها على
الصحيح. ثم تأتي ثمرة هذه التربية متجسدة في مواقف خيرة سلف الأمة:
- فأبو بكر رضي الله عنه يقول: (وددت أني شجرة تعضد) .
- وعمر يسأل حذيفة رضي الله عنهما: هل سمّاني لك رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من المنافقين؟
وحينما طُعِنَ وهو خليفة، وجعل يألم، قال له ابن عباس مواسياً: (يا أمير
المؤمنين! ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت
صحبته، ثم فارقته، وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم
فارقته وهو عنك راضٍ، ثم صحبت صَحبتهم فأحسنت صُحبتهم، ولئن فارقتهم،
لتفارقنهم وهم عنك راضون) . فلم يأخذ عمر بكل هذا الثناء ولا أحس بالعجب
والخيلاء، بل أسند ذلك إلى فضل الله ومنته، فقال: (أما ما ذكرت من صحبة
الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورضاه: فإنما ذاك منّ مِنَ الله تعالى منّ به عليّ،
وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منّ مِنَ الله جلّ ذكره منّ به
عليّ، وأما ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي
طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه) [5] . ...
- وعائشة رضي الله عنها لَمّا نزلت براءتها في حادثة الإفك قالت: (والله ما
كنت أظن أن يُنزَل في شأني وحيٌ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم فيّ
بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا
يبرئني الله بها) [6] .
- وهذا مطرِّف بن عبد الله رحمه الله يقول: (لأن أبيت نائماً، وأصبح نادماً، أحب إليّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً) [7] .
ولم يكن هذا حال هؤلاء فحسب، لكنها صفة راسخة من صفات المؤمنين
الصادقين، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: [وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] [المؤمنون: 60] . وقد سألت عائشةُ رضي الله
عنها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية، فقالت: هم الذين يشربون
الخمر ويسرقون؟ فقال: (لا، يا بنت الصدّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون
ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات) [8] .
الفرق بين العجب بالعمل والفرح بالخير والطاعة: كما أن العجب بالعمل
يورث التواكل والتكاسل، فإن احتقار العمل إذا لم ينضبط فإنه يورث أثراً مشابهاً
وهو: الإحباط والملل والسآمة؛ لذا كان للعبد أن يفرح بالحسنة، ويغتبط بالطاعة،
بل إن هذا دليل الإيمان، قال: (من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو
مؤمن) [9] .
ولكن الواجب عليه في هذا الفرح: أن يكون مستشعراً فضل الله عز وجل
ومنته ورحمته وتوفيقه، مثنياً عليه بذلك، لا يرى لنفسه في الانبعاث لذلك العمل
أثراً يعوّل عليه؛ إذ إن الذي منح القدرة والهداية هو الله عز وجل قال عز وجل:
[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] [يونس: 58] .
وأعظم ذلك الفضل نعمة الإسلام والتوفيق للطاعة، (وإنما أمر تعالى بالفرح بفضله
ورحمته؛ لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى وقوتها،
وشدة الرغبة في العلم والإيمان، الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود) [10]
بخلاف الفرح المذموم المقترن باستحضار جهد النفس في العمل، الداعي إلى
العجب والغرور؛ وهذا كالفرق بين الفخر بالنعم والتحدث بها [11] .
من العجب إلى الغرور: يتعلق المعجب بالنعم التي يعيشها، والأعمال
الصالحة التي يؤديها، ثم يمتد إعجابه ليشمل صوراً من شدة الإعجاب (الغرور) ،
ومنها:
أ - تنقّص أعمال الآخرين، وازدراؤها، ورؤيتها دون أعماله [12] .
ب - ادعاء أمور وهمية، وتضخيم بعض القضايا يظنها كبيرة، وليست
كذلك، كمن يعتبر نفسه داعية كبيراً؛ لكونه يحسن التحدث والكلام. أو يرى نفسه
عالماً فقيهاً ويتجرأ غروراً بما عنده من نتفِ علم، أو يعد نفسه مؤهلاً للقيادة، لم
تُعرَف مكانته، ونحو ذلك. وكثير من هذه الصور وما شاكلها داخل في دائرة
التزوير، الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (المتشبع بما لم يُعطَ
كلابس ثوبَيْ زورٍ) [13] .
ج - العجب بأمور باطلة يظنها حقاً، كغرور العلماء والعباد والمتصوفة
والأغنياء بأجزاء من الدين، يحسبونها الدين كله، ويبنون عليها الرجاء، فمن
العلماء من أحكم العلم وترك العمل، ومنهم من أحكم العلم والعمل وترك الاهتمام
بالقلوب، ومنهم من اشتغل بوعظ الناس وتعليمهم وأهمل حاله، ومنهم من اشتغل
بعلوم الآلة وأعرض من معاني الشريعة، ومنهم من كان حظه من العلم الحفظ بلا
فهم ولا عمل ... ومن العبّاد من غلا وتنطع، ومنهم من وسوس، ومنهم من أفرط
في مراعاة أعمال الظاهر وأهمل أعمال القلوب، ومنهم من حرص على النوافل
على حساب الفرائض ... ومن المتصوفة من اغتر بالزي وترك المجاهدة ومراقبة
القلوب، ومنهم من ادعى علم المعرفة والقلوب، وازدرى علماء الشريعة، ومنهم
من ادّعى حسن الخلق وتصدر لخدمة الزهّاد طلباً للرئاسة ... ومن الأغنياء من
حرص على ما يخلد ذكره من أعمال الخير الظاهرة، كبناء المساجد ونحوها،
ورفضوا ما سواها من أعمال البر الأخرى، ومنهم من ينفق على الفقير الذي ينفعه، ويشكر له معروفه، دون غيره، فهو يرجو الجزاء الدنيوي على نفقته، ومنهم
من يضيق صدره بالزكاة ويخرجها من سيئ ماله ...
وفي كل هذه الأحوال تجد أن نفوس أصحابها تسكن إلى ما يوافق الهوى،
ويميل إليه الطبع، عن شبهة أو خدعة من الشيطان، وترجو بذلك الخير، وتظن
غرورها رجاءً محموداً، غير أن الرجاء المحمود هو ما كان على وجهين:
1- رجاء العاصي التائب؛ الذي يمنعه من القنوط.
2- رجاء الفاتر عن النوافل؛ الذي يبعث فيه النشاط، ويمنعه من الفتور.
فكل رجاء حث على توبة أو تشمير فهو محمود، وكل رجاء أوجب فتوراً
وركوناً إلى البطالة فهو غرور [14] .
والغرور في أسبابه وعلاجه كالعجب، وله من المظاهر والآثار ما للعجب
غالباً.
ويل للمعجب من الكبر: الكبر كما عرفه النبي: (بطر الحق، وغمط الناس)
أي رد الحق، أو رفض قبوله، واحتقار الناس وازدراؤهم، وتنقّصهم. وحريّ
بمن انتفش في نفسه، وأُعجب بعلمه أو عمله أن لا يحتقر علوم الآخرين وأعمالهم
وجهودهم، ويقوده ذلك إلى احتقار ذواتهم وأشخاصهم، ورؤية نفسه فوقهم، فيقع
في الكبر. وهذا يعني أنه سيرد ما لديهم من الحق؛ لأنه تنقّصهم واحتقر ما لديهم؛
سواء عرف أنه الحق، أم لم يعرف؛ إذ لا اهتمام له أصلاً بالنظر فيما لديهم لتمييز
ما فيه من حق وباطل.
فالكبر مرض قلبي من أكثر الأمراض فتكاً بصاحبه، ومن علاماته
الظاهرة [15] : إظهار الترفع على الناس، وحب التصدر في المجالس، والتبختر والاختيال في المشي، والتقعر في الحديث، والاشمئزاز عن أن يرد عليه كلامه، وإن كان باطلاً، والاستخفاف بضعفة المسلمين، والافتخار بالآباء والنسب، والحرص على المدح والتعظيم ومحبة أن يسعى إليه الناس، ولا يسعى إليهم، وأن يقوموا له، ومحبة التقدم على الغير في المشية والجلسة، وإسبال الثياب خيلاء.
وينبغي أن يكون الدعاة أكثر حذراً من الكبر؛ نظراً لكثرة مداخله عليهم من
جهة العلم والعبادة والدعوة والتصدر للإصلاح؛ فهم أحوج الناس إلى التذكير [16] .
ولا عجب؛ إذ قص الله علينا قصة زعيم المتكبرين إبليس الذي أوصله كبره
إلى الطرد من رحمة الله، كما حكى قصة قارون الذي كانت نهاية تكبره خسف
الأرض به. وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- على الذي أكل بشماله تكبراً،
فشُلّت يده أو يبست فما رفعها إلى فمه بعدها [17] .
وأبلغُ ما يعظ كتابُ الله عز وجل، فقد بين الله أنه لم يجعل للمتكبرين نصيباً
في الآخرة فقال: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلا
فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] . وأكد النبي -صلى الله عليه وسلم-
هذا المعنى في حق المتكبر فقال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) [18] . كما بين أنه لا يحب المختالين المتكبرين، فقال: [وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] [لقمان: 18] ، وأن المتكبر يطمس الله قلبه فلا يبصر الحق فقال: [كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ] (غافر: 35) ، وإنما استحق هذا الجزاء؛ لأنه نازع الله عز وجل في صفة من صفات الكمال، كما في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحداً منهما ألقيته في النار) [19] .
وتتوالى أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذيراً من الكبر والخيلاء،
ومنها: (من تعظّم في نفسه واختال في مشيته، لقي الله وهو عليه غضبان) [20] .
وللتحرز من الكبر ومدافعته: يجب استشعار نعم الله، وإمكانية زوالها إذا لم
تشكر، وأن ما لم يحصل عليه الإنسان مما عند الناس أضعاف ما عنده، فلِمَ التكبر؟! كما يجب أولاً وأخيراً: السعي في تقوية الإيمان؛ فإن ضعفه سبب المهالك.
فالواجب: تلمس عيوب النفس وأمراض القلوب، وآفات الأعمال، والسعي
الحثيث في علاجها، على نحو الوسائل المتقدمة وغيرها. والله المستعان، وعليه
التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.